[email protected] (1) سفيرنا في لبنان الآن هو الأديب الدكتور أحمد حسن أحمد. هو إعلامي أكاديمي موهوب ويعرف كيف للإعلام أن يقترن بالدبلوماسية ، وكيف تكون الدبلوماسية حراكاً إعلامياً مضطرداً في زمن لم تعد فيه المعلومة حكراً على أحد أو على مؤسسة بعينها . إن ثورة الاتصالات قلبت مفاهيم الإعلام بمثلما قلبت مفاهيم الدبلوماسية، وذابت الحدود الفارقة بينهما وتداخلت تداخلاً يصعب معه افتكاك الملفات من هنا أو من هناك. كانت دبلوماسية "الحرب الباردة" تدور حول الحصول على المعلومات بأعجل ما يمكن. عرفنا حروبات التجسس ورجال المخابرات الذين يملكون قدرات خارقة لانجاز المهام السياسية والأمنية في أوجز وقت واصطياد المعلومة لتعين متخذي القرار السياسي في اختيار الأصوب. السفير الدكتور أحمد حسن في بيروت، سفير نابه يذكّرني بسفراء الخارجية أول عهد تأسيسها، ثم بعددٍ من سفراء أجيالها المتتابعة. رجال ذلكم العهد الأول جاءوا بمواهبهم من وزارات وإدارات شتى : من وزارة المعارف (وسمها بلغة اليوم وزارة التربية). من وزارة الحكومات المحلية. من وزارة الداخلية. من هيئة السكك الحديدية. سفراء قدمتهم للمهنة الدبلوماسية الناهضة في فجر الاستقلال عام 1956، مواهبهم وإبداعاتهم قبل ان تقدمهم مؤهلاتهم. أول وكيل دائم للوزارة هو محمد عثمان يسن، الأديب الأريب قبل أن يكون ذلك الإداري النابه. نائبه الذي صاغ لوائح الخدمة فيها ورسم إداراتها، هو ابن مدينة "الجيلي"، خليفة عباس العبيد، الذي عرفناه شاعراً وكاتباً، قبل أن نعرفه إدارياً حاذقاً في هيئة السكك الحديدية. الكاتب الأديب المعلم جمال محمد أحمد أيقونة الدبلوماسية السودانية. الشاعر محمد أحمد محجوب الشاعر العلم رجل الدولة . المعلم الدبلوماسي والمربي الموسوعي فخر الدين محمد، يصوغ الكلام مثلما يصوغ الذهب والفضة هوايته المفضلة بعد أن صاغ مع الفنان شرحبيل أحمد شخصية عم تنقو في مجلة الصبيان في خمسينات القرن الماضي..! السفير الكبيرأمين أحمد حسين . عوض ساتي . عمر عديل. دكتور ياجي . صلاح عثمان هاشم . صادق أحمد مصطفى . محجوب مكاوي. يوسف التني.. أسماء جاءتني من الذاكرة وإن غفلت عن ذكر بقيتهم لضيق الحيز هنا، إلا أن مقامهم هو في وجدان الدبلوماسية السودانية راسخ.. (2) صديقنا السفير أحمد حسن رجل متعدد المواهب مُجيد لها، عالي القدرات حاذق لها، وقد خبرته أيام كان مساعداً لي في إدارة الإعلام في وزارة الخارجية قبل أعوام قليلة، فعرفت مواهبه قبل قدراته الأكاديمية المميزة. أهداني السفير الصديق كتابه الجديد في موضوع ترتفع الحواجب دهشة أن يأتي من سفير منقطع لمهنته، مستغرق في دبلوماسيته يعالج ملفات سفارته عن علاقات بلاده الثنائية مع البلد الذي يمثلها فيه، مثلما ينقطع لمعالجة أحوال جاليته وقد تعقدت أمور إقامة أفرادها وتلبدت سحب ثقال في سمائها. كتاب السفير أحمد عنوانه "كرة القدم: اللعبة الشعبية الأولى في سياق الاقتصاد السياسي والحراك الاجتماعي"، وقد صدرت طبعته الثانية هذا العام عن الدار العربية للعلوم- ناشرون في بيروت. هي دراسة علمية سارت على نسق أكاديمي محكم وحوت تحليلا ذكيا للعبة رياضية عشقتها الشعوب. ما عرفت السفير أحمد حسن لاعباً مشغولاً بلعبة كرة القدم، مثل معرفتي لصديقي علي قاقارين وشهرته الباذخة في الساحة السودانية والأفريقية ، أو مثل معرفتي ل"أبي دينا" السفير عبدالمحمود عبدالحليم، فهو المريخي المتأصل إدارة وتشجيعا. فما أن تصفحت كتاب صديقي السفير أحمد حتى وجدتني مستغرقا منقطعا لكتابٍ لن يسعك أن تتضعه جانبا إلا بعد آخر صفحة منه، وقد يروقك أن تعود إليه وتعيد المتعة بقراءة متجددة. (3) عرض الكاتب السفير في الباب الأول من كتابه الإطار العام للدراسة، طرق جمع المعلومات والتقصي والتمحيص اللازمين، وضمن بذلك أن لا تخرج الدراسة عن موضوعيتها، ولا أن تكون محض انطباعات مُطلعٍ عابرٍ، يسوقها لقاريء عجلٍ لا صبر له على الكتابة العلمية والتحليل الدؤوب. تناول الكاتب السفير في الباب الثاني من دراسته الشيقة، الخلفية التاريخية للعبة كرة القدم، بداياتها ومراحل تطورها حتى وصلت إلى ما شهدناه مؤخراً في منافسات كأس العالم في البرازيل قبل أسابيع. أما الباب الثالث فيخصصه الكاتب السفير للأسباب التي جعلت من كرة القدم اللعبة الأولى الأثيرة لدى شعوب العالم. يسهب الكاتب في تبيان خلفية الحراك الاجتماعي والسعي لاثبات الذات في مجتمعات كادت أن تدمج إنسانها ضمن أليات انتاج مصانعها. ويشير منبها إلى جنوح الانسان وتوقه لأن يكون جزءاً من تجمع أكبر وداخل دائرة انتماء أوسع ، متجاوزاً بذلك انتماءات ضيقة أخرى، مهنية أو قبلية مثلاً. يحيلك إلى مفكر مثل فوكوياما ليعزّز حجته ويمنح تحليله عمقاً فكرياً مقنعا. (4) في القسم الرابع من كتابه، يعرض لك الحقائق المتصلة بلعبة كرة القدم وكيف أنها وإن ظلت عناصر خارج الملعب الكروي، لكنها هي التي تحكمت في جوانب هذه اللعبة وكان لها الأثر الأبلغ في تطورها وحراكها.. يشرح السفير رؤيته للأسباب الواقعة خارج الملعب وتؤثر فيه ويجملها في هياكل إدارتها مثل الاتحاد الدولي الذي ينظم اللعبة وهو "الفيفا" ، ثم يعرج بك إلى أثر وسائل الاتصال الجماهيري في اللعبة الرياضية الأولى في العالم، ودور الصحف والشبكة العنكبوتية والقنوات التلفزيونية في انتشار اللعبة وعولمتها، وكذا دورها في الترويج وفي الإعلانات المتصلة بعادات الاستهلاك. ثم ينظر في المؤثر الخارجي الثالث وهو اقتصاديات كرة القدم بما في ذلك تمويل الأندية وعمليات تمويل شراء اللاعبين على كافة المستويات. يقول الكاتب السفير: (لا عجب إذا كان الدخل الأسبوعي للاعب "واين روني" يصل الى مائتين وخمسين ألف جنيه استرليني (صحيفة الشرق الأوسط 2013) ، وتأكيداً هي أرقام لا تقارن بما يناله أكبر سياسي في حجم رئيس الوزراء أو أكبر عالمٍ أو طبيب. .) صارت هذه الأندية في بلدان أوروبية، مراكز كبرى للأنشطة المالية لرجال الأعمال وصائدي الثروات، ولم يكن هدفهم في ذلك نيل الوجاهة والمكانة الاجتماعية، بل أيضا لا ستثمار فوائض أموالهم. يخطر بالبال عندنا اهتمام صديقنا رجل الأعمال الناشط – سميّ- جمال الوالي ومنافسه صديقه اللدود صلاح إدريس. ذلك أمر طبيعي في قلب اقتصاديات الرياضة ولعبة كرة القدم تحديداَ. ووصلا للتحليل الاقتصادي، يعرض الكاتب السفير إلى تحليل وضع البرازيل الكروي، إذ يرى – ويعضد حجته بقوة – أن التقدم الذي أحرزته البرازيل ينظر إليه في إطار التطورات السياسية والاقتصادية في المنطقة. التقدم في الاقتصاد البرازيلي بدا وكأنه بالخصم على "الساحرة المستديرة"، لقد اختفى الفقر فتضاءل دور أبناء الحواري الذين كانوا يجدون في عدم توفر تعليم منتظم وعمل ذي قيمة عزاءا في مزاولة لعبة كرة القدم وتحقيق الذات والتميز فيها. الآن مع التقدم الاقتصادي وانتشار التعليم، تبدل الطموح وتضاءل الاهتمام بكرة القدم. قال الكاتب السفير : (الاقتصاد المتقدم للبرازيل نعمة لأهلها ولكل العالم النامي ولكنه ربما يكون نقمة لكرتها الجميلة..) هذا الاستنتاج لم يبعد عن الواقع تماما ، إذ رأينا اندحار الفريق البرازيلي أمام الفريق الألماني بما يشبه الاذلال في منافسات كأس العالم هذا العام 2014, وهو انهيار متوقع كما يحدثنا السفير في كتابه الشيق.. (5) يعرض الكتاب في بابه الخامس إلى المشكلات التي تكتنف لعبة كرة القدم، مثل السلوكيات العنصرية البغيضة، بسبب تباين الثقافات والاثنيات والاقتصاديات وألوان البشرة، خاصة بعد التواصل والاتصال بين قارات العالم. ثم هنالك مشاكل التعصب البغيض وأعمال الشغب المتطرف والتي قد تُهدر فيها أرواح ويسقط خلالها جرحى. إلى جانب ذلك يتناول الكتاب ما طرأ من مشاكل تتصل بالتلاعب في نتائج المباريات والتواطؤ لتغييرها. في الباب الأخير يفرد الكاتب السفير رؤيته وتوصياته لجعل اللعبة الأكثر شعبية، لعبة جاذبة لتأكيد الإرادة واثبات الذات وترسيخ خصال البذل والشجاعة والصبر والتسامح واحترام قيمة الوقت، وأن يكون للعبة الشعبية الأولى إسهامها في العمل الخيري الانساني.. وبرغم شمولية الطرح الذي ساقه المؤلف، إلا أني تمنيت أن لو توسع في ايراد أمثلة ونماذج من التجربة السودانية في لعبة كرة القدم. لقد كان السودان هو المبادر لانشاء اتحاد كرة القدم الأفريقي، وتلك من المبادرات التي كانت طبيعية ومتوقعة وتتسق مع دور ريادي للسودان، وهو سابع دولة أفريقية تنال استقلالها في القارة الأفريقية. ولما كان السودان في طليعة البلدان الأفريقية التي عنيت بلعبة كرة القدم، فقد شهدت ملاعبه زيارات تاريخية لفرق أوروبية شامخة في سنوات الخمسينات مثل الهونفيد " و فرق كرة قدم من موسكو ومن ألمانيا وغيرها من بلدان أوروبا، وأن لاعبا أسطوريا مثل البرازيلي "بيليه" لعب في الخرطوم أول سبعينات القرن الماضي، وقت أن جال وصال لاعبون كبار مثل جكسا وماجد وود الزبير وعمر عثمان وأمين زكي وقاقارين في الملاعب الخضراء.. فتأمل وليتأمل معكم "هيثم" و"بشة" أيضا. . 9أغسطس 2014