حطت الطائرة الصغيرة في المطار،وهو شريط اسفلتي في عمق الآحراش المدارية،برجه من الخشب وألواح الحديد،مكتب وحيد من الزنك،نزلت حمولة الطائرة من المسافرين واغراضهم القليلة،صعد المسافرون في لحظات،تلفت استطلع ماحولي،تحرس البرج مقاتلة من حسناوات التقراي،وتحرس المطار مفرزة من الوياني،اقامو لهم حامية صغيرة عند طرف المدرج، نساؤهم وضعن قدور الطعام فوق لهب الحطب الذي تجود به الغابة في سخاء،بضع اطفال عراة و شبه عراة يختلقون من اللعب ما يبدد طاقتهم و يكسرون به رتابة المكان الموحش. الطريق الى المدينة يبلغ ثمانية عشر كيلو مترا،المدينة الى الشمال من نهر السوباط والذي يسميه الاحباش بارو و يناديه أهل البلاد قيلو،كلما عظم المسمى كثرت اسماؤه،استقبلتنا سيارة حكومية تتبع حكومة اقليم قامبيلا،ذلك ان سياراتنا لم تكتمل اجراءات تخليصها بعد،اتخذنا طريقنا الى فندق اثيوبيا،مجموعة من الغرف المنفردة،من الطوب الاحمر و الحجر،مزودة بخدمات المياه و الكهرباء و الصرف الصحي،مطعم و مشرب و صالة لتنس الطاولة و ميدان لكرة القدم لا يرتاده أحد.الفندق على بساطته،الا انه كان واحة في مكان ما توقعت ان اجد فيه هذه الرفاهية الباذخة،فذكريات من سبقوني للعمل في هذا المكان جعلت الفرح يغشاني و انا اتمتع بما بتمتع به الانسان في اية مدينة،دع عنك مكانا تجهد في البحث عنه في الاطلس و لا يسعفك إلا بالنزر الذي يزيد عطشك بدلا عن إطفاء ظمأك. كنا ثلاثة،رفقتي علي وهجو،رابعنا الريح و هو رئيسنا يكمل اجراءاته و اجراءات لوازم عملنا من تخليص و ترخيص. المدينة،تحمل هذه الصفة لأنها عاصمة أقليم قامبيلا،الاقليم الثاني عشر في الفيدرالية الاثيوبية الحديثة،في السابق كان يسمى اللبابور،الوابور هو الباخرة التي كانت تسير بين ملكال و قامبيلا،تحمل الخير للناس وغيرهم،السكر و الملح والقماش و الطبيب و البيطري،لا زلت أذكر في ستينيات القرن الماضي محطات السكك الحديد و تذاكر الركاب تحمل اسم قامبيلا كاحدى المحطات التي تصلها خدماتهم،زمان كانت الباخرة تتبع السكة حديد،زمان وأي زمان.وحتى بداية القرن العشرين كان الاقليم جزأ من السودان،وبناء على اتفاق بين السلطات الاستعمارية في السودان و الملك الاثيوبي تنازل السودان عن ارض تشكل اقليمين من جملة اربعة عشر اقليما في اثيوبيا،فاصبح السكان سودانيون بالتاريخ و المشاعر و الثقافة،اثيوبيون بالامر الواقع و الاوراق الثبوتية. المدينة،عاصمة الاقليم،ذات المطار،ماهي الا قرية لا يزيد عدد سكانها على خمسة الاف من النفوس،تنبع أهميتها من كونها أخر الحواضر في غرب اثيوبيا،تبعد 90 كيلومترا من حدود السودان،عند الجكو، وقد كانت مقرا لمركز قيادة العمليات العسكرية لمتمردي جنوب السودان في نسختي 1962 و 1983،مما طبعها بطابع عسكري يتجلي في الحامية الكبيرة التي تحتل وسط المدينة. الناس،يتجلى الفقر في سيماهم و يتوطن في تقاطيعهم،يتحايلون باصطناع الفرح في تفاصيل ايامهم الرتيبة، فبحكم الخلفية التاريخية للاقليم و اهله،لقي الاقليم اهمالا ولم ينل انسانه ما يرقي حياته،اذ قل المتعلمون وانعدمت وسائل كسب العيش واسهمت الحرب في تدمير بنية اقتصاده الريفي الهشة فشاع الفقر،رغم أن الكفاف في هذه النواحي غنى واي غني. انتقلنا للسكن في حي حديث،شيده الروس ايام تحالفهم مع نظام الرئيس منقستو،الى جوارنا بيت الحاكم و نائبه و كبار موظفي الحكومة،مبنيان يشكلان اربعة وحدات مسورة،ثلاثة للسكن وواحد كان مكتباً،تلك كانت دنيانا الجديدة،جئت بزوجتي و ابنائي الصغار آلاء ذات الثلاث سنوات وعمر ذي السنة الواحدة،جاءت اسرة علي ثم اسرة الريح،صنعنا لنا مدينة فاضلة يرفرف فوقها علم حبيب. الناس رغم قسوة الحياة،مقبلون على الحياة،تتعدد قبائلهم والسنتهم و سحناتهم و يوحدهم هم العيش معاً، التعامل مع السوق يعكس تجليات اصطناع مجتمع قهراً،فقد عمد النظام السابق لتهجير بعض القوميات من مواطنها لاماكن اخرى بدعاوى الانصهار القومي،المهجرون حفاظا علي هويتهم امسكوا بلغاتهم،في سوق قامبيلا الذي لا تزيد متاجره علي الخمسين متجرا يتحدث الناس بتسعة السن،الامهرية لغة الدولة، الانجواك لغة اهل الإقليم،التقراي لغة الجيش،الانجليزية لغة المنظمات و السياح،النوير،الكوما،عربي جوبا لغة اللاجئين من السودان ثم الارومو،ابنتي وهي تتخاطب مع افراد من كل هذه اللغات أصبحت تعبر عن نفسها بجملة واحدة من ثلاثة او اربعة كلمات ولكن كل كلمة من لغة مختلفة و لكن بعد الترجمة نكتشف ان جملتها عبرت عما تريد. سنتان من العمل في مثل هذا المكان تخلقان بين الناس علاقات و صلات تتوطد اواصرها كل يوم وبحكم التاريخ فقد كانت المودة تسود بيننا و اهل الأقليم في المستوى الشعبي و الرسمي،نتزاور و نقضي اوقاتا معا،نحتفل معهم باعيادهم وما أكثر الأعياد في تلك النواحي، الم اقل لك أنهم يتصنعون الفرح في زمن لئيم؟؟ذهبت للريف،شربت اللبن طازجا من الضرع ليس مغليا ولا مبردأ،تعلمت أكل العصيدة باستخدام المحار بدلا عن الملاعق،ركبت البغال و القوارب ذات ماكينة الهوندا و القوارب التي تعمل بدفع عضلات البشر وسرت على الاقدام نصف يوم فلا طريق تسلكه السيارة التى حرنت عند مفترق الطرق!!! السواد الفاحم جمال واي جمال،يكسو اجسادا رشيقة في صبا النوار، البسمة طبع غير مصطنع و الطبيعة تجود بمطر يهمي و يهمي و يهمي حتى تخاله لا يسكت فينقشع السحاب عن شمس مدارية ترسل حرا و ضياء. اسير في الطرقات فتطرق اذني ابيات مصطفى سند الذي عمل في ذات القنصلية و ابدع فيها بعض قصائده التي ضمها ديوانه البحر القديم و جاءا تحمل رسم قصائد استوائية،اتلفت فلا أرى غير ظلي وظلال اشجار في الجوار لا ادري اتنوح ام تغني في جوها الحار ذلك. ابدوا نحوي مودة واحترانا فعمدوني ابا روحيا لواحد من ابنائهم،رتبت له منحة دراسية،اكمل الجامعة و تخصص في مناهج اللغة الانجليزية. من عجائب الاقدار اننا،الاربعة قد اعدنا فتح القنصلية السودانية في العام 1993بعد ان ظلت مغلقة من العام 1986 واننا قد باشرنا اجراءات اغلاقها بعد عامين،وان تاريخ 24سبتمبر قد شهد لحظة وصولنا و سجل تاريخ مغادرتنا في تلافيف ملابسات و تداعيات ذات وقع و صدى [email protected]