بقلم / عوض أحمد حسن - سفير سوداني سابق : مات ملس زيناوي، رئيس وزراء إثيوبيا عن عمر يُناهز السابعة والخمسين بعد أن حكم إثيوبيا لنحو عشرين عامًا بيد من حديد ( بيمينه مطرقة تهوي على رؤوس معارضيه، وبيسراه كتاب). كان طرازًا فريدًا في حكام إفريقيا؛ هجر دراسة الطب في جامعة أديس أبابا قبل أن يُكمل دراسته، وانضمّ لمقاتلي جبهة التقراي في حربها الطويلة والدامية ضدّ منقستو هايلي مريام حتى كُتب لهم النصر، هم وحلفاؤهم الأرتيريون والأورومو والأمهرة وغيرهم من أمم إثيوبيا التي قهرها النجاشي الأحمر (بالشيوعية والدماء). كان ملس لا يقوم بزيارة أقاليم إثيوبيا ومدنها زيارات "تاريخية"، ولا يُخاطب المسيرات المليونية. خُطبه تتم فقط داخل البرلمان، ووقته مقسّم بقسطاط بين اجتماعات الحزب والحكومة والزوّار، وبين الكتب والتقارير. كان قارئًا نهمًا. يقرأ، ويستوعب ويهضم ما يقرأه، ثم يُخرجه حُججًا وأرقامًا بلسان فصيح في الأمهرية والتقراوية الإنجليزية. وكان محاورًا شديد المراس، يجلس إلى وفود الدول والهيئات المانحة (التي تعيش إثيوبيا على مساعداتها الاقتصادية والإغاثية) وكأنّ يده العُليا ويدهم السُفلى. وكان شديد الاعتزاز بإثيوبيّته وبتقراويّته؛ يهرس خصومه ولا يعتذر ولا ينبطح. في عقدين من الزمان، حوّل ملس أديس أبابا من مدينة إقطاعية غير مخطّطة، تفتقر إلى الطرق والجسور والخدمات، وتمتلئ جنباتها، أينما اتفق، بأحياء الصفيح العشوائية، إلى مدينة عصرية تشقها طرق متينة البناء، وجسور علوية وأنفاق، وطريق دائري يُجنّب المدينة شرّ الشاحنات العابرة. وفي عقدين من الزمان، أحال افتصاد إثيوبيا المُغلق المحدود، إلى اقتصاد منفتح مزدهر، جاذب للاستثمارات الأجنبية المُنتجة، أصبحت زراعة الزهور وتصديرها المصدر الأول للعملة الصعبة في أقل من بضع سنوات، ومعظمها استثمارات أجنبية شجّعها مناخ الاستثمار الإثيوبي، وجدّية الحكومة (رغم الموروث الطويل لبروقراطية متحجّرة جمعت بين المركزية الإمبراطورية أيام هيلاسلاسي، والمركزية الماركسية أيام منقستو، والشلل الناتج الذي يُقعد الهمم عن الابتكار والتصرّف في مجال اتخاذ القرار). غير أن مشاكل إثيوبيا أعقد من أن تُحل في عقدين أو ثلاثة. بعضها ورثه ملس وصحبه، كالفقر المتفشي، خاصة في الريف، وسطوة الكنيسة والمذهب الأورذوثكسي الخانق، وغياب التنمية في معظم أجزاء إثيوبيا، ومحدوديّة التعليم، والتقاليد البالية التي ما زالت تُقعد المرأة والمجتمع؛ وبعضها صنعه بيده (وقد يكون فيه هلاك البلاد والعباد في مقبل الأيام)، كنظام الفدرالية الاثنية الذي تبعت فيه جبهة التفراي دستور الاتحاد السوفييتي "العظيم" الذي أعطى (على الورق) الجمهوريات السوفييتية المكوَّنة على أساس عرقي الحق في الانفصال عن الاتحاد، وهو حق مارسته هذه الجمهوريات حين تراخت قبضة موسكو في بداية التسعينيات؛. ولعلّ أثقل وأخطر ما تركه ملس وراءه هو عجزه (وربما عدم رغبته) في "اقتسام" السلطة (الحقيقي) مع أمم إثيوبيا الأخرى: الأورومو (وهم الغالبية الساحقة)، والأمهرا (وهم الصفوة القديمة ويُكوّنون نحو ربع سكان البلاد)، والأقاليم المهمّشة ذات الأراضي الواسعة والمياه الوفيرة (وهو ما تحتاجه إثيوبيا للخروج من نقص الغذاء المزمن والمجاعات المتواترة)، وذات الكثافة السكانية المحدودة كأقاليم العفر والصومال والأمم الجنوبية وقمبيلا وبني شنقول والقمز. وتحت السطح، تربض المشكلة "المخفية" التي يتجاهلها الجميع، أي مكانة ودور المسلمين (وهم الغالبية رغم الإحصاءات المتوفرة) في مستقبل إثيوبيا، وقد قبلوا لردح طويل من الزمان أن يتصرّفوا، ويُعاملوا، كأقليّة (تُسيطر على الاقتصاد). كوّن ملس "مؤتمرًا وطنيًّا" أسماه جبهة إثيوبيا الشعبية الثورية، وعاء عريضًا يضم كل ألوان الطيف الإثيوبي، جعل في قلبه جبهة تحرير التقراي التي بيدها مقاليد الأمور. اللا مركزية التي أتى بها الدستور القائم على الأعراق، تنسخها هيمنة الحزب ومركزيّته التي هي، في نهاية المطاف، في يد جبهة تحرير التقراي (وللعلم، يكوّن التقراي نحو 5% فقط من سكان إثيوبيا). وفي ظنّي أن أمل إثيوبيا في الاستقرار والنماء يصعب أن يتحقق دون اقتسام حقيقي للسلطة (وربّما الثروة) بين أقاليمها ومللها، وهو التحدّي الذي سيُواجه البلاد بعد رحيل ملس برؤيته وجديّته والتزامه وتفرّغه- وحزمه الذي يصل إلى حدّ القسوة والبطش والتنكيل بالمعارضين. يقترب عدد سكان إثيوبيا من المائة مليون، جُلّهم من الشباب والأطفال، يطحنهم الفقر واليأس وانسداد الآفاق وتمدّد سقوف الطموحات والمطالب. وتجلس إثيوبيا على منابع النيل الأزرق الذي يُغذّي النيل بمعظم مياهه.. تأثّر السودان على مرّ العقود الماضية سلبًا (وإيجابًا) بما يحدث في إثيوبيا. بيْد أن تأثير ما قد سيحدث في إثيوبيا بعد رحيل ملس لن يقتصر على السودان فحسب، بل سيتعدّاه إلى دائرة أوسع فد تعبر البحار والمحيطات، فإثيوبيا تقع، جيو-سياسيًّا، في قلب أحداث واستراتيجيات شتى. الراية