بسم الله الرحمن الرحيم دكتور / عبدالله العبودى خبير اقتصادى Abdalla Mohamed [[email protected]] جاء في صحيفة الراي العام بتاريخ 23 اكتوبر 2009 ان وزارة المالية صرحت ان الموازنة القادمة تهدف الي تحقيق معدل نمو قدره 6% وهذا التصريح لم يكن مستغرباً لان الوزارة ظلت تحدثنا في كل عام عند تقديم مشروع الموازنة لمجلس الوزراء والمجلس الوطني ان الهدف الاساسي للموازنة هو زيادة الناتج المحلي الاجمالي بمعدل معين وعندما تنقضي السنة المالية ويتم تحقيق الزيادة المستهدفة او ما يعادلها تعلن الوزارة ان الميزانية قد حققت هدفها الاساسي حتي لو كان النمو المحقق قد نتج عن اسباب وعوامل لا علاقة مباشره لها مع الموازنة مثل الخريف الجيد او الارتفاع في اسعار البترول او التوسع في استثمارات القطاع الخاص. تقول وزارة المالية ذلك دون ان توضح للمواطنين بالارقام ماتحقق علي ارض الواقع من اهداف الموازنة المعروفة والمتمثلة في توسيع دائرة الخدمات الاساسية وتحسين نوعيتها وتنفيذ مشروعات البنية التحتية والمشروعات الانتاجية. ويبدوا ان الوزارة تريدنا ان نفهم ان هنالك علاقة مباشرة وموجبة بين الموازنة والنمو الاقتصادي وان الهدف الاساسي للموازنة هو زيادة الناتج المحلي الاجمالي ، فما مدي صحة هذا المفهوم ؟ وماهي طبيعة العلاقة بينهما ؟ وماهي اهداف الموازنة ؟ ساحاول في هذه المقالة الاجابة علي هذه الاسئلة وارجو ان يكون في ذلك ما يساعد في توضيح مفهوم الموازنة وعلاقتها بالنمو الاقتصادي والتعرف علي مضمونها واهدافها الحقيقية. ان الناتج المحلي الاجمالي هو قيمة ما ينتج في البلاد من سلع وخدمات في فترة زمنية محددة تحسب عادة علي اساس سنوي بعد خصم الاستهلاك الوسيط وكما نعرف جميعاً ان الحكومة ليست هي المنتج الوحيد لهذه السلع والخدمات وانما يشاركها في ذلك وبوتيرة متصاعدة القطاعان الخاص والاهلي وماتنفقه الحكومة في اطار موازنتها ويؤدي بصورة مباشرة او غير مباشرة الي زيادة الناتج المحلي الاجمالي يقل كثيرا عما ينفقه هذان القطاعان وبالتالي لا يمكن القول ان هذه الزيادة سببها المباشر هو الموازنة. حتي لو افترضنا ان كل انفاق الموازنة يؤدي الي نمو الناتج المحلي الاجمالي ( وهذا افتراض غير سليم لان جزءا مقدرا من هذا الانفاق لا يدخل اصلا في الحسابات القومية) فان الارقام توضح ان مساهمة هذا الانفاق تظل محدودة وللتدليل علي ذلك سناخذ موازنة العام الحالي كمثال ، فقد استهدفت هذه الموازنة زيادة تبلغ 16 مليار جنيه في الناتج المحلي الاجمالي فاذا كان معامل راس المال هو ثلاثه الي واحد – اي ان كل ثلاثة جنيهات تصرف تحقق قيمة مضاعفه قدرها جنيها واحداً – فان الزيادة المستهدفة تحتاج الي 48 مليار جنيه وهو مبلغ يعادل حوالي ثلاث اضعاف الموازنة. ان وزارة لمالية لا تستند في ربط النمو بالموازنة وجعله هدفا رئيسياً لها علي اي دراسات امبريقية (EMPIRICAL) نؤكد وجود علاقة مباشرة وموجبة بين الاثنين وبالتالي فان الوزارة ليست في وضع يمكنها من القول ان حجما محددا للموازنة يؤدي الي نمو اقتصادي بنسبة معينة. ان العلاقة بين الموازنة والنمو الاقتصادي من المواضيع التي لم تجد- لاسباب ليس هذا مجال تناولها – ماتستحقه من دراسة واستقصاء حتي في مؤسسات التمويل الدولية والاقليمية التي تهتم بقضايا النمو وتمتلك امكانيات بحثية هائلة غير ان بعض مراكز البحث الغربية قد اجرت بعض الدراسات حول القيمة التنموية للانفاق الحكومي وقد اكدت هذه الدراسات في مجملها ان العلاقة ليست بالاهميه واالايجابية التي تحدثنا عنها وزارة المالية وان الاثار التنموية لهذا الانفاق تنحصر في الصرف علي التعليم والبنيات الاساسية كما ان هنالك بعض الدراسات التي توصلت الي ان هذه العلاقة تتسم بالضعف وانها تاخذ في بعض الحالات طابعا سالباً. ان زيادة الناتج المحلي والمحافظة علي الاستقرار النقدي وتشجيع القطاع الخاص وزيادة الانتاج والانتاجية وتنمية الصادرات وتوسيع قاعدتها وغيرها من اهداف الاقتصاد الكلي التي تحدثنا وزارة المالية في كل عام ان الموازنة تسعي لتحقيقها هي اكبر من قدرات الموازنة ويتم تحقيقها عن طريق تطبيق السياسات الكلية والقطاعية الحكيمة واستخدام الادوات الاقتصادية المناسبة والموازنة التي هي اصلا برنامج مالي يمكن ان تكون احدي هذه الادوات ومن ناحية اخري فان هذه الاهداف تعتبر توقعات وتستخدم في علم المالية العامة كافتراضات تبني عليها تقديرات الموازنة ومن هنا جاء الحديث عن اهمية التنسيق بين سياسات الموازنة واهداف وسياسات الاقتصاد الكلي فعلي سبيل المثال لا يمكن الحديث عن زيادة الناتج المحلي الاجمالي اذا كانت الموازنة تفرض ضرائب عالية تؤدي الي انخفاض معدلات الانتاج والاستثمار كما لايمكن الحديث عن الاستقرار الاقتصادي اذا كانت فجوة الموازنة تتطلب توسعاً نقدياً يرتفع بمعدلات التضخم الي مستويات يصعب السيطره عليها ولكن كل هذه امور فنية يقرر فيعا الفنيون ولا ينبغي ان تشغل وقت الجهات المناط بها مناقشة واجازة الموازنة والتي يجب عليها التركيز علي سلامة تقديرات الايرادات واتساق اولويات الانفاق مع ماتعلنه الحكومة من برامج واهداف. اذا كانت هذه طبيعة العلاقة بين الموازنة واهداف الاقتصاد الكلي واهمها نمو الناتج المحلي الاجمالي واذا كانت الموازنة لا تلعب دورا مؤثرا في تحقيق هذه الاهداف فما هو اذن دور الموازنة ؟ وما هي اهدافها الحقيقية ؟ وماهو المطلوب لضمان تحقيق هذه الاهداف ؟ ان الموازنة هي البرنامج او الخطة المالية السنوية للحكومة والتي تقوم بموجبها بتحصيل الايرادات من مصادرها المختلفة مثل الضرائب المباشرة وغير المباشرة وعوائد السلع والخدمات التي تقدمها للمواطنين ونصيبها من ارباح الاستثمارات العامة والمشتركة مضافا اليها ما تؤهلها له قدرتها علي الاستدانة الخارجية والداخلية للانفاق علي تقديم الخدمات للمواطنين في مجال التعليم والصحة الوقائية والعلاجية والمياه والاسكان والرعاية الاجتماعية والكهرباء والطرق والنقل والامن وتنفيذ المشروعات التنموية الخدمية التي تؤدي الي توسيع دائؤة هذه الخدمات وتحسين نوعيتها ومشروعات البنية الاساسية التي تساعد في تهسئة المناخ الملائم لزيادة الانتاج والاستثمار وتوفير فرص العمل علي المديين المتوسط والبعيد ، وبهذا المفهوم فان الموازنة هي بمثابة عقد اجتماعي بين المواطنين والحكومة يخول لها تحصيل الموارد المالية بالطرق القانونية واعادتها لهم في شكل خدمات اجتماعية واقتصادية وبالتالي فان السؤال الاساسي الذي يتوجب علي الموازنة توفير الاجابة له باعلي درجات الوضوح وبقدر مناسب من التفصيل هو : ماذا يستفيد المواطن من الموازنة اذا تم تنفيذها كما اجيزت ؟ هل سيصبح حاله افضل او اسوأ ام يظل كما هو ؟ انطلاقا من هذا المفهوم للموازنة ودورها واهدافها الحقيقية فان المهتمين بامرها يتوقعون ان يجدوا في وثائقها مايلي: اولاً: تحليلاً وافياً لموازنة العام السابق يوضح مواضع واسباب الاختلاف بين تقديراتها وادائها الفعلي ، ان مناقشة مشروع موازنة اي عام من الاعوام دون القاء نظرة فاحصة علي الاداء الفعلي لموازنة العام الذي يسبقه لا تؤدي الي نتائج سليمة وهذه القاعدة تنطبق علي موازنة اكبر دولة في العالم واصغر جمعية خيرية في السودان وما بينهما . والارقام الاجمالية التي تقدمها وزارة المالية عن الاداء الكلي للموازنة لا تفي بالغرض المطلوب فهي لاتساعد في معرفة ادائها التفصيلي و ماحققته من اهدافها المعلنة ، ففي جانب الايرادات علي سبيل المثال لابد من معرفة نتائج الاصلاح الضريبي الذي بدا تطبيقه منذ فترة واثره علي الجهد الضريبي بالمقارنة مع الدول ذات الظروف الاقتصادية المشابهه ومستويات التنمية المماثلة ومدي تجاوب الايرادات الضريبية مع الزيادات المتواصلة في الناتج المحلي الاجمالي وخاصة في القطاعات التي تميزت بنمو متسارع مثل البترول والاتصالات والانشاءات والعقارات والنقل وكذلك معرفة اثر التخفيضات الضريبية التي حدثت في السنوات السابقة ومدي نجاحها في تحقيق الاهداف المتوقعه منها. ثانياً: في جانب الانفاق لابد من توضيح الاولويات القطاعية والوظيفية كما عكستها الارقام الفعلية والتأكد من تحقيق التوازن المطلوب بين الصرف الاتحادي وتحويلات الولايات وبين الانفاق الجاري والتنموي وبين القطاعات المختلفة اضافة الي التأكد من ان الاعتمادات المصدقة قد ذهبت للاغراض المخصصة لها. وتكمن اهمية هذه البيانات والمعلومات في انها تلقي الضوء علي شفافية ومصداقية الموازنة وتسهل بالتالي عملية المساءلة والمحاسبة حول طريقة اعدادها ووسائل تنفيذها وتحديد الاجرءات الواجب اتخاذها لتقليل درجة الانحراف بين الموازنة المصدقة والمنفذه علاوة علي انها توفر مادة ضرورية لوضع تقديرات واقعية للعام التالي تأخذ في الاعتبار حقائق العام السابق. ثالثاً: فيما يتعلق بموازنة العام القادم فانه لابد من توضيح الاسس والافتراضات التي تبني عليها تقديرات الايرادات من مصادرها المختلفة والموارد الاخري المكملة لها للتأكد من سلامتها وواقعيتها في ضوء التطورات الاقتصادية المتوقعة خلال العام والاطمئنان علي فرص تحصيلها لتفادي اللجوء الي تعديل الموازنة خلال العام بتخفيض الانفاق او زيادة الاسعار او السحب من احتياطي ايرادات البترول واستخدامه في غير الاغراض المخصصة له كما كان يحدث في سنوات سابقة ، وفي جانب الانفاق فمن المهم ان تقدم الموازنة توزيعا قطاعياً ووظيفياً يلتزم باهدافها واولوياتها المعلنة وتوضيحا للاهداف التي سيحققها هذا التوزيع واثره المتوقع علي توفير الخدمات الاساسية وتكلفتها ومستوياتها وبالنسبة للانفاق التنموي فمن الضروري ان تقدم الموازنة وصفا لمكونات المشروعات الرئيسية واهدافها ومصادر تمويلها والمرحلة التي وصلها التنفيذ وما يتوقع تنفيذه خلال العام مع توضيح اي مشاكل او صعوبات اعترضت التنفيذ وما اتخذ من خطوات للتغلب عليها. ان مواطن الضعف واوجه القصور في الموازنات السابقه لا تقتصر علي غياب هذه البيانات والمعلومات التي يعتبر وجودها في المذكرة التفسيرية امراً ضروريا لفهم الموازنة ومتابعة تنفيذها وتقييم نتائجها ولكن هذا الغياب قد امتد ليشمل جوانب اخري بعضها يتعلق باهم مبادي المالية العامة وبعضها الاخر يدخل في صميم مرجعياتها وموجهاتها ومنها علي سبيل المثال : - ان وحدة الموازنة وشموليتها تعتبر اهم مباديء المالية العامة وقد ظلت وزارة المالية تحدثنا في كل عام ان هنالك عمليات مالية تجري خارج اطار الموازنة غير انها لا توضح حجم هذه العمليات والجهات التي تقوم بها والجهد الذي بذلته لاعادة الانضباط المالي والسيطره علي المال العام واثر ذلك علي الايرادات. - كفاءة الانفاق وفعالية استخدام الموارد تعتبر ايضا من مباديء المالية العامة الهامة وتحقيق هذه الكفاءة يتم باتباع انظمة مالية ومحاسبية وشرائية وتعاقدية سليمة والوزارة لا توضح مابذل من جهد في هذا الصدد وانعكاساته علي كفاءة الانفاق وفعاليته. - الاهداف التنموية للالفية ظلت تظهر دائما كواحدة من مرجعيات الموازنة ولذلك كان من المتوقع ان توضح الموازنة المبالغ المرصودة لبلوغ هذه الاهداف وما انجز منها في الفترات السابقة. - مناهضه الفقر وبناء القدرات المؤسسية والبشرية ظلتا من الموجهات الثابته في كل موازنة ولكن المبالغ المرصودة لا نزال هذه الموجهات علي ارض الواقع والمجالات التي تصرف فيها واثار هذا الصرف علي تخفيض عدد الفقراء ورفع كفاءة الاجهزة الحكومية لاتظهر في المذكرات التفسيرية. خلاصة القول ان الموازنة برنامج مالي له اهداف محددة ومعروفة عالمياً وان علاقتها باهداف وسياسات الاقتصاد الكلي مسألة فنية ينبغي الا تنشغل بها الجهات المناطة بها مناقشتها واجازتها وان علي هذه الجهات ان تولي الاهتمام الاكبر في مناقشتها لتقديرات الايرادات والانفاق للتأكد من سلامتها وواقعيتها في ضوء ما يتوقع من تطورات خلال العام المالي والاطمئنان علي تطابق هذه التقديرات مع اهداف الموازنة وحتي تكون هذه المناقشات مجدية ومثمرة فانة من المفروض ان تتضمن وثائق الموازنة كل البيانات والمعلومات التي تساعد في ذلك وانه في غياب هذه المعلومات والبيانات سيكون من الصعب بل من المستحيل فهم الموازنة ومتابعة تنفيذها وتقييم نتائجها علي اساس معايير ومؤشرات موضوعية وتحقيق الشفافية المطلوبة وممارسة عمليتي المساءلة والمحاسبة.