تُوفي إلى رحمة الله تعالى الأخ الصديق الدكتور محمد مندور المهدي أمس (الجمعة)، بعد معاناةٍ مريرةٍ مع المرض والألم. فالموت هو القضاء المبرم الذي لا فكاك منه لأي إنسان مهما نسأ الله في عمره وأمد في أجله، والموت يدركنا أينما نكون، حتى ولو كنا في أرقى مستشفيات العالم، وهو يقيناً مدركنا حتى ولو كنا في بروجٍ مشيدةٍ، تصديقاً لقوله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ ۗ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَٰذِهِ مِنْ عِنْدِكَ ۚ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ۖ فَمَالِ هَٰؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا". كان الراحل الدكتور محمد مندور المهدي صابراً على ابتلاء الله له بالمرض، ومستعيناً على آلامه بالمداومة على الصلاة والصبر الجميل، تنزيلاً لقوله تعالى: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ". ولم يركن الراحل العزيز للمرض، بل سارع إلى البحث عن علاج له في أرقى مستشفيات العالم، حيث تردد بين المستشفيات البريطانية ونظيراتها الألمانية، ولكن الله سبحانه وتعالى كان قد كتب في لوحه المحفوظ ميقات موته في بريطانيا. وعلمتُ من بعض الأصدقاء أنّ جثمان الراحل سيصل إلى الخرطوم اليوم (السبت) ليُدفن في مقابر فاروق بالخرطوم. كانت سيرة الأخ الراحل الدكتور محمد مندور المهدي، سيرةً عطرةً، فهو نجل المربي الكبير وأستاذ الأجيال البروفسور مندور المهدي يرحمه الله الذي يُعدُّ من الرعيل الأول من رجالات التعليم في البلاد، وكانت له بصمات متفردة في مسيرة التعليم، بِدءاً من معهد بخت الرضا ومروراً بعمادة كلية التربية في جامعة الخرطوم، وانتهاءً بشغل منصب وكيل وزارة التربية والتعليم. ومن بيتٍ كهذا، لم يكن هنالك مناص للأخ الدكتور محمد مندور المهدي إلاّ أن يكون تلميذاً نجيباً، وطالباً ذكياً، وسياسياً حاذقاً. فقد حصل على مجموع في امتحان الشهادة السودانية يؤهله إلى دخول كلية الطب في جامعة الخرطوم، إلاَّ أنه كانت به رغبة جامحة لدراسة العلوم الصيدلانية، فتخرج في كلية الصيدلة بجامعة الخرطوم، وشغل العديد من الوظائف والمواقع المهنية والتنفيذية والسياسية. وكان نشطاً في عهد الطالبية، ولم يخبُ هذا النشاط بعد تخرجه في الجامعة، إذ كان نشطاً وفاعلاً في الخارطة السياسية، وأبلى بلاءً حسناً في المواقع التي شغلها في مسيرة الإنقاذ، سياسياً وحزبياً ومهنياً. عرفتُ الأخ الراحل الدكتور محمد مندور المهدي في عهد الطالبية بجامعة الخرطوم، فكان نعم الأخ ونعم الرسيل، وعرفه رسلائي نشطاً هميماً في العمل الطلابي والاجتماعي، يجيد الإصغاء للآخرين في صبرٍ وجلدٍ، ويسارع إلى مساعدة زملائه دون منٍّ أو أذى. وكنت كثيراً ما ألتقي به أثناء زيارته إلى بريطانيا، وإقامتي فيها لسنين عددا. وفي العامين الأخيرين أكثر من التردد إلى بريطانيا التماساً للعلاج، مع يقين علمه أن الشفاء من الله تعالى، ودائماً يردد قوله سبحانه وتعالى: "وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ". في إحدى زيارات العلاج إلى بريطانيا رتبتُ له لقاءً مع شخصيةٍ قياديةٍ من الحركات المسلحة الدارفورية في منزل شقيقه الأخ الدكتور أبو بكر مندور المهدي بلندن، واستمر اللقاء لساعات طوال حتى أشفقنا عليه من طول المكوث في النقاش، ولكن علمنا أنّ همَّ الوطن بالنسبة له أكثر إلحاحاً وإيلاماً من المرض، فهو يريد جاهداً أن يقرب الشُّقة بين الحكومة، وتلكم الحركات المسلحة خلال زيارات العلاج. وأحسبُ أنَّ الكثيرين لا يعلمون أنَّ الأخ الراحل محمد مندور المهدي كان من صناع الوزراء وأشباه الوزراء، إذ أنه يبذل جهداً خارقاً في إقناع بعض الشخصيات لتسنم مهامٍ سياسيةٍ أو تنفيذيةٍ. فقد اجتهد كثيراً وجاهد طويلاً مع بعض الإخوة المرشحين لمناصب ومهام وزارية، من خلال السعي بين هذه الشخصيات والجهات السيادية، وقد نجح في العديد من المرات بإقناع الرافضين لتولي المناصب العامة، وذلك لسلامةِ منطقه، وحصافةِ أسلوبه، فدائماً يظفر في اجتهاداته بالأجرين. فكثير من الإخوة الذين يتسنمون مناصب وزارية أو سياسية كان لمندور جهدٌ مقدرٌ في إقناعهم لتلبية نداء الوطن من خلال العمل العام. أخلصُ إلى أنَّ الأخ الراحل الدكتور محمد المهدي مندور المهدي كان شخصية وفاقية، يسعى جاهداً إلى الوصول لتوافق بين الفرقاء، ويعدُّ حمامة سلام لنقل رسائل مهمة تُفضي إلى تقريب شُقة الخلاف، وفي أحايين كثيرة يعمل على رأب الصدع بين الفرقاء. وكان الراحل العزيز من الشخصيات المقبولة لدى كثيرٍ من الأحزاب والقوى السياسية، معارضةً كانت أم مشاركةً في الحكومة. وديدنه في الأعياد زيارة الشخصيات السياسية المهمة تطوعاً دون تكليف من حزب المؤتمر الوطني (الحزب الحاكم) الذي أخلص له طوال العشرين عاماً الماضية. فالراحل من أهل الإخلاص والوفاء، فلا غَرْوَ أن ساد الحزن كثيراً من معارفه داخل السودان وخارجه. فلله ما أعطى ولله ما أخذ، ولا نقول إلا ما يُرضي ربنا. ولم يكن موته موت واحدٍ، بل بنيان قوم تهدمَ. كما قال الشاعر العربي عبدة بن الطبيب في رثاء قيس بن ساعدة: فَمَا كَانَ قَيْسٌ هُلْكُه هُلْك وَاحِدٍ ولِكَّنهُ بُنيانُ قَوْمٍ تَهَدَّما ألا رحم الله تعالى الأخ الراحل الدكتور محمد مندور المهدي رحمةً واسعةً، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وأسكنه فسيح جنانه مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقاً، وألهم آله وذويه وأصدقاءه ومعارفه الصبر الجميل. "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ". =====