غيّب الموت الذي هو علينا حق الدكتور المعتصم عبد الرحيم، إثر علةٍ لم تمهله طويلاً، في مستشفى "الزيتونة" التخصصي، يوم الأربعاء الماضي، لم تشغله المناصب الدستورية الذي تسنمها الراحل عن افتخاره واعتزازه بمهنة طالما شغف بها منذ الصغر، ألا وهي مهنة المعلم. كان الراحل يردد كثيراً أنه معلم، وجاهز لتحمل مسؤولية الطباشيرة، كنايةً عن التعليم، في أيّ وقتٍ من الأوقات. فلم يكن يفخر بمناصبه الدستورية، والياً كان أو وزيراً أو وكيلاً، إذ أن فخره كله في التعليم، وكان يرى حياته في البدء معلماً وفي الخاتمة معلماً أيضاً. ولد الدكتور الراحل المعتصم عبد الرحيم في عام 1953 بولاية نهر النيل، ودرس مراحله الأولية والوسطى بأبي حمد والمرحلة الثانوية في مدرسة عطبرة الثانوية. وانضم إلى الحركة الإسلامية، وهو في مقتبل العمر، لم يتجاوز العشرين عاماً إلا قليلاً. وعُرف عنه نشاطه الدؤوب في العمل السياسي عندما دخل جامعة الخرطوم، حتى أن دخوله إلى الجامعة لم يكن دخولاً عادياً، بل فيه شيءٌ من التضحية ونكران الذات، إذ أنه تحمل المسؤولية، وهو صغير يافع بسبب وفاة والده، رعايةً لأسرته، وبذل الكثير من التضحيات من أجلها، من ذلك أن مجموعه في الشهادة الثانوية كان يؤهله لدخول كلية غير كلية التربية، إذ أنه حصل على نسبة عالية تؤهله لدخول كلية الهندسة، ولكنه آثر الالتحاق بكلية التربية في جامعة الخرطوم ليحقق الحُلمين، الحُلم الأول، هو أن يواصل رعايته لأسرته، والحُلم الثاني أن يكون معلماً يُقدم العلم لطلابه. وقد شهدت جامعة الخرطوم صولات وجولات للراحل الدكتور المعتصم عبد الرحيم، عبر تقلده رئاسة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم لثلاث دورات حتى تخرج فيها، وأصبح معلماً لمادة الرياضيات في الفترة من 1980 وحتى عام 1990. لم تكن بطولاته في جامعة الخرطوم قاصرة على إلقاء الخطب الرنانة، وتعبئة الطلاب تعبئةً سياسيةً، ضد نظام الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، بل أنها كانت مسرحاً لنضالاتٍ ضحّى فيها بأربع سنوات من عمره في سجون مايو، لتجعل محصلته النّهائية للدراسة الجامعية ثماني سنوات بدلاً من أربع سنوات. عَرَفْتُ الأخ الدكتور المعتصم عبد الرحيم في عهد الطالبية بجامعة الخرطوم، خاصةً وأنه عمل في أكثر من دورة من دورات اتحاد طلاب الجامعة، فهو كان ضمن اتحاد دورة "بولاد"، وأبلى بلاءً حسناً في دورات رئاسته للاتحاد، وكان نحلة نشاط، جعلت دوراته في الاتحاد من الدورات الناجحات. ومنذ عودتي من بريطانيا إلى السودان، التقيتُ به مرات عديدة في أكثر من مناسبة، إبان تسنمه وزارة التعليم بولاية الخرطوم، فلم ألحظ أنه قد تغير كثيراً رغم كل هذه السنين، بل وجدته مندفعاً للعمل العام كما عهدناه في جامعة الخرطوم. وأحسبُ أن فقده لن يكون محصوراً لدى أهله وأصدقائه وزملائه، بل أن فقده عظيماً للسودان، إذ كان أحد حاملي راية العمل النقابي وسط المعلمين، لأنه كان يتمتع بقبول عند المعلمين السودانيين والعرب، باعتباره ممثل السودان في اتحادات المعلمين العرب، ولذلك فقده فقداً عظيماً لكل من يعرفه، حتى ولو كانت معرفة لبضعة أيام. ولكن هذا هو الموت الذي سيُدركنا أينما كنا، ولو كنا في بروج مشيدة، تصديقاً لقول الله تعالى: "أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا". ففقده ذكرنا بقول الله تعالى أيضاً: "كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ". ونحن نتذاكر سيرته العطرة، وفقده الجلل، والمصاب الأليم، تذكرنا قول الشّاعر العربي كعب بن زهير بن أبي سُلمى: كُلُّ ابْنِ أُنْثَى وإنْ طالَتْ سُلامَتُهُ يَوْماً على آلَةٍ حَدْباءَ مَحْمولُ وخِتاماً أسأل الله تعالى أن يتقبله قبولاً طيباً حسناً، ويُلهم ذويه وأصدقاءَه وطلابَه ومعارفه الصّبر الجميل. ونستذكر في هذا الصّدد، قولَ الله تعالى: "وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآَخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ".