مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طائر الزيدي .. تأليف ورسم: عمر دفع الله
نشر في سودانيل يوم 13 - 09 - 2014

تقع قرية طرا بالقرب من جبل مرة، جنوب غرب دارفور وهي قرية صغيرة، تحيط بها مساحات واسعة من الغابات الكثيفة ومزارع الذرة والدخن الممتدة كبساط أخضر، تتراءى أمام العين كحذاء أنيق يغلِّف أقدام الجبل. وفوق أعواد الذرة تتسلِّق أعشاب الدليم بأزهارها البنفسجية ذات الحواف البيضاء الزاهية وعلى الأرض وبين الحشائش تزحف ديدان السوسا وتقفز حشرات الاوفا من مكان إلى آخر.
الطيور هنا ليست كغيرها في أماكن أخرى فمثلاً من بين هذه الطيور المنتشرة، طائر الزيدي والذي يطلق عليه أحياناً(حرباء الطيور) فباستطاعة هذا الطائر الصغير أن يُغيّر لونه مع تغيُّر فصول السنة،كما لوكان يلبس لكل فصل من العام لباسه. ففي بداية الصيف يكون لون ريشه بنيَّاً فاتحاً ثم يصفرُّ في فصل الشتاء. وفي الخريف وعند نزول الأمطار، يرتدي الزيدي اللون الأحمر كما لو كان يحاكي الأزهار الحمراء التي تنبت على شط الأودية في تلك النواحي. دون شك انّقرية طرا قرية جميلة و أهلها طيبون ومسالمون.
خرج موسى اتيم وشقيقته الصغرى فاطمة في الصباح الباكر ليلعبا تحت شجرة الهشاب الضخمة في طرف القرية. وهناك كان يقف صالح ابن الجيران بالقرب من الشجرة يتأمّل في طائر الزيدي. كان الزيدي يستلقي حينا فوق الاعشاب المبللة بالندى ويتقلب احيانا اخرى بجسده الصغير ثم يطير ويحط على اغصان الشجرة ثم يحرك جناحيه وينفش ريشه فتسط اشعة شمس الصباح على ريشه الناعم وتجففه من البلل فينتعش ويغرِّد ويبتسم في وجوه الأطفال الواقفين تحت الشجرة.
جاءت النعجة العرجاء إلى حيث يقف الأطفال الثلاثة وحاولت فاطمة الركوب على ظهرها فهربت ووقفت على مسافة قصيرة من فاطمة واخذت تراقبها بحذر وهذه النعجة لا يعرف لها صاحب فقد جاءت الى القرية من جهة مجهولة واتخذت من شجرة الهشاب بيتاً وفي ذات ليل بهيم وتحت جنح الظلام يقال أنّ حيواناً مفترساً هجم عليها بغتةً وقضم ساقها ثم تركها على هذه الحالة. ومنذ ذلك اليوم صارت عرجاء. ومع ذلك ظلَّت حيث هي ولم تغادر مقرها تحت شجرة الهشاب.
لحقت فاطمة بالنعجة وقفزت فوق ظهرها فاختلّ توازن النعجة فوقعا على الارض سويّاً. حمل هذا المشهد موسى وصالح على التندُّر من شقاوة فاطمة وطيشها وانفجرا بالضحك. منذ مولدها كانت فاطمة طفلة شقية ومغامرة. تحب عادة اللعب مع الأولاد دون البنات. يقول أهل البلد إنّ فاطمة تشبه حبوبتها،أم الخير، من جهة أبيها في كل شيء، في شكلها وصفاتها وظرفها وعذوبة روحها. لذلك كانوا يلقبونها بي (ضكر الفريق) كما كانوا يلقبون حبوبتها بذات اللقب.
كانت لفاطمة علاقة خاصة بطائر الزيدي. إذ كان الطائر معجبا بشجاعتها وقلبها الكبير وحنوها على الطيور، ولهذا الاعجاب قصة يتحدث بها دائما طائر الزيدي الى الطيور الاخرى بفخر واعزاز.
ففي يوم من الايام سقط أحد صغار الزيدي على الارض وكان صغيرا وطري العظم ولم ينبت ريشه بعد. وصادف ان تواجد في تلك اللحظة قط ضخم اتجه بحذر في اتجاه الطائر الصغير الذي لا يقوى على الطيران ليأكله وكانت فاطمة على مرمى حجر من هذا الحدث فأسرعت وخطفت الطائر الصغير من بين انياب القط. غضب القط وخربش فاطمة بأنيابه الحادة في يديها ولكنها قاومته وطردته بعيدا،ثم وضعت الطائر في جيب فستانها وتسلقت كالقرد الى اعلى الشجرة واعادته الى العش.
بينما كان الأطفال يستمعون الى طائر الزيدي يرسل الحانه العذبة بين الاغصان وينثرها كالثمار الناضجة سمعوا فجأة صوتا قويا مدويا، زلل الارض تحت اقدامهم وتساقطت اوراق الشجر وانتشرت سحب الدخان فوق سماء طرا. وفي لحظة خاطفة كلمع البرق انتفض طائر الزيدي وطار مبتعدا عن شجرة الهشاب. ركض موسى وفاطمة وصالح في اتجاه البيوت. عمت الفوضى وصار الناس والحيوانات يهرولون في كل الاتجاهات وهم مذعورون وخائفون.
كان مصدر الصوت طائرة حربية،أطلقت الصواريخ والنيران فوق بيوت القش. لجمت الصدمة العقول وانفجرت براكين القلق والخوف في اركان البلدة وأصبح حال الناس والحيوانات في دقائق معدودة أقرب الى حالة الجنون واشبه بقيام الساعة كما تصورها الكتب.
كان يسمع صراخ طفل هنا واستغاثة امرأة هناك او نقنقة دجاجة بين القش او مأمأة خروف تحاصره النيران ثم بدأت الحرائق تزحف كالوحوش الجائعة في اتجاه بيوت القش وتلتهمها التهاما.
ان ما يجرى الآن لا يمكن للعقل ان يعقله ولم يكن ليخطر ببال أحد من اهل هذه القرية الوديعة واهلها البسطاء. انه الجحيم بعينه ولا شيء غير الجحيم.
عندما ابتعدت الطائرة عن سماء طرا بعد ان افرغت نيرانها عن جوفها، شاهد الناس رجالا مدجّجين بالسلاح، و يركبون على ظهور الخيل والجمال يندفعون في اتجاه قريتهم. فهرب الناس على عجل الى خارج القرية يبحثون عن مكان آمن يحتمون به من جحيم الخراب الذي نزل فجأة على موطنهم دون سابق انذار. بعضهم صعد الى جبل وبعضهم تشتت في الصحراء على غير هدى وتركوا خلفهم الجرحى والقتلى ومن اقعده هول الفاجعة عن الهرب.
لم يكن الهروب امرا سهلا، فالقرية محاطة بالخيّالة من الجهات الاربعة كإحاطة السوار بالمعصم.فالذي يخرج من القرية مولود والذي يبقى بداخلها مفقود. لم يصدق العم اتيم انه خرج حيا. كان احيانا يتحسس جسده ويلامس بأصابعه انفه وشفتيه وحاجبيه كمن يحاول ان يرسم باللمس ملامح الشخص الذي يحمله على رأسه ليتأكد من انه هو نفسه وليس شخصا آخرا. وبطبيعة الحال لا يوجد شخص غيره في جسده النحيل، انه العم اتيم بعظمه ولحمه وملامحه المعروفة ولكنه صار شخصا يتيما في نواحٍاخرى.
يتيم لأنه فقد الارض والعشيرة ودفء المكان وصار يحمل اسما آخر يسمونه (نازح) وسيعيش بقية عمره يفتقد إلى رائحة الحقل وراحة البال ومجالس الأُنس في دكان الحاج عبد المولى. من المعروف في القرية انّ العم اتيم لا يحب السفر ولا يغادر طرا إلا في حالات نادرة كأن يذهب الى مناسبة عزاء او زيارة مريض في القرى المجاورة لقريته. لم يذهب الى مدينة الفاشر إلا عندما كان طفلاً ولم يشاهد مدينة نيالا،كبرى مدن دارفور في حياته. لقد عاش حياته بين الحقل والبيت ودكان الحاج عبد المولى، قانعاً بحياته وسعيداً بزوجته وطفليه ولا يتطلع إلى دنيا غير دنياه ومع ذلك يخرج اليوم بعد كل تلك السنوات بغير هدى وِصفر اليدين إلا من ثياب مغبرة هي آخر ما يملك من متاع الدنيا.
بعد أيام قليلة و مع الآلاف من اهل طرا والقرى المجاورة التي ضربتها الطائرات، وصل العم اتيم الى نواحي قرية دربات الواقعة على الطريق الرئيسي بين زالنجي ونيالا.كان العم اتيم في حالة رثة , شاحب الوجه , كشخص ميت خرج لتوه من القبر , و منهكا كما لو ان دارفور بكل ثقلها قد وضعت على كاهله دفعة واحدة وحزينا ومكتئبا ليس فقط من هول الكارثة وانما ايضا لأنه لا يعرف شيئا عن ابنه موسى ولا يدرى ان كان حيا او ميتا وكان اكثر ما يقلقه ويشغل باله ان يكون الصغير قد وقع في قبضة الخيّالة لان الموت اهون في هذه الحالة من ان يقع المرء اسيرا في قبضة أصحاب القلوب الغليظة التي لا تعرف الرحمة كأمثال هؤلاء القوم.بينما كان يفكر الحاج اتيم في ابنه المفقود والالم كالمدية الحادة تقطع احشاءه وتمزق صدره، نبعت في رأسه فجأة صورة جلية وواضحة لجاره أبو صالح، كأن الرجل يقف امامه الآن، فأبو صالح شخص مريض وطريح الفراش. قبل عدة سنوات ذهب الى مستشفى الفاشر ونصحه الاطباء هناك بالذهاب والعلاج في الخرطوم ولأنه فقير ولا يملك المال الكافي لذلك قام اهل القرية بجمع مبلغٍ من المال لتغطية تكاليف السفر والعلاج، إلا ان المسكين اصيب بعد فترة قصيرة بشلل شبه كامل فتعذر نقله الى الخرطوم.
ومن ثم أسلمت اسرته امرها الى الله وهكذا بقي أبو صالح في حاله هذه الى يوم الحريق الكبير.
كانت آمنة بنت اللوح، والدة موسى، حزينة ومشفقة على ولدها المفقود ولكنها ليست كزوجها الحاج اتيم، فقد غلبها الحزن والخوف وأفقداها صبرها وصارت اشبه بشخص يعاني من مرض الذهول. تصحو مبكرة من نومها وتذهب وتقف امام بوابة المعسكر وتظل تلاحق النازحين الجدد بالسؤال عن ابنها دون جدوى، وعند مغيب الشمس وحلول الظلام تشعر بالتعب يسرى في كل عضلة من جسدها فتعود وتأوي الى فراشها امام بيتها المصنوع من جوالات البلاستيك، تفرش شوالا وتمدد فوقه رجليها وتسند رأسها على نعلها وتُسرّح البصر في السماء كأنها تنظر في المجهول.
النجوم تتلألأ قدام عينيها وتختفي احيانا وتسمع اصواتا متداخلة لبشر وحيوانات فلا تميزها.العالم امامها أصبح ضربا من الجنون والاحلام الفظيعة،فهي لا تفهم اسباب هذه الحرب كما يفهمها غيرها، ولا تريد ان تفهم.فيكفي ان يوما مشؤوما حملها بكلتا يديه ووضعها في قلب المأساة التي تحاول جاهدة نكرانها ورفض التسليم بها، إلا ان ما حدث قد حدث بالفعل ولا مفر من القبول والتسليم به. اخذت جرعة من الماء وراحتتسأل النجوم البعيدة وتسلِّى نفسها معها قبل ان يغلبها النعاس:
يا نجوم الليل...
ما شفتي لي موسى؟
وليديالوحيد يا ناس
المتْلو ما في مقاس...
الكان بيقضي الليل...
بين البقر والخيل...
ويلعب معاها شليل...
ما شفتي لي موسى؟
وليدي الوحيد يا ناس...
بين الشجر حايم.
وتحت الصخور حايم...
ما شفتي ليموسى؟
هسع يكون جيعان؟
ويمكن يكون عطشان؟
ومن السهر تعبان؟
ما شفتي ليموسى؟
مرَّت ايام طويلة ولم تسمع آمنة بنت اللوح عن ابنها المفقود شيئا وكانت حين تشاهد الاولاد الصغار يلعبون كرة القدم في باحة امام المعسكر، تجهش بالبكاء وتسيل الدموع على خديها غزيرة كمياه الشلال في اعلى الجبل. ولكن هذا الحال من الشعور بالغبن والضياع لن يستمر الى ما لا نهاية، ففي ذات يوم كانت ابنتها فاطمة تتجوَّل في أطراف الغابة وتجمع اغصان الاشجار اليابسة الملقاة على الارض والتي تستخدم كوقود في طهى الطعام، سمعت صوتا يناديها باسمها فانتصبت قامتها القصيرة بسرعة. هذا الصوت تعرفه جيدا فقد تعودت عليه اذناها و ألفت رنينه كما لو كان رنين جرس بعيد يرن الآن في ازقة قريتها طرا. نعم فهذا الصوت تعرفه جيداً، ولكنها في هذه اللحظات المشحونة بالاحتمالات لم تعد تذكره، رغم انها كانت في الماضي تميِّزه من بين ملايين الاصوات. كان صوتا محبَّباً الى نفسها. كانت تحنُّ إليه وتحلم به في كل تلك الليالي الطوال التي قضتها في معسكر دربات.
عاد الصوت يناديها ثانية:
يا فاطمة؟
كيف حالك يا صديقتي؟
التفتت فاطمة ذات اليمين وذات اليسار وجالت ببصرها بين الحشائش الطويلة وهامات الاشجار العالية فلم تشاهد أحداً.
عاد الصوت يناديها للمرة الثالثة فوقفت في مكانها مذهولة وعندما رفعت رأسها إلى أعلى الشجرة التي أمامها، رأت، يا للمفاجأة، طائر الزيدي يقفز بين الأغصان ويفرد جناحيه الصغيرين، وتبدو عليه علامات الفرح والسرور لرؤية صديقته الحميمة التي افتقدها منذ ذاك الصباح الحزين حين ضربت الطائرة الملعونة قرية طرا بدون سابق إنذار.
وقفت فاطمة لبرهة متسمِّرة في مكانها بين مصدِّقة ومكذِّبة عينيها.هذا هو طائر الزيدي أمامها بعظمه ولحمه وريشه في الواقع لا في الأحلام.تقدّمتْ في اتجاهه بخطوات مهتزة وبوجهٍ يرتجف من الفرح،أرادت ان تقول شيئاً فتجمَّدت الكلمات في لسانها. وعندما انقشعت سحابة المفاجأة، تدفَّق في رأسها سيل من الذكريات الجميلة، وحامت في خيالها صور متعددة من تلك الأيام التي كانت تقضيها مع طائر الزيدي في رفقة صالح وموسى تحت شجرة الهشاب حيث تعيش النعجة العرجاء. طفح الدمع في عينيها وخنقتها العبرة.
في هذا الاثناء طار طائر الزيدي من الشجرة وحطَّ فوق كتفها الأيسر وقال:
لماذا تبكين يا صديقتي...
ولماذا انت حزينة؟
وتذكَّر الطائر فجأة تلك الطائرة الملعونة في ذاك الصباح الحزين وكاد ان يسألها (لماذا يقتلونكم ويحرقون دياركم ويخرجونكم منها)؟.
لكنه لم يقل ذلك وحسنا انه لم يفعل لان فاطمة لا تعرف اصلا سبب هذه الحرب وجدواها ويكفي انها تعيش مثل امها النتائج التي خلّفتها هذه الحرب اللعينة وراءها والتي أحالت طفولتها إلى قطعة من الجحيم.
حكت فاطمة للطائر الصغير قصَّتها وما حدث لها منذ ان افترقا بعد قدوم الطائرة الملعونة الى طرا وعن معاناة النزوح وعن الارواح التي ازهقت في ذلك الصباح البعيد والممتلكات التي احرقت او سلبت وعن اخيها موسى الذي ضاع أثره ولا يعرف مصيره.
سادت لحظات من الصمت بينهما وكأن كليهما يحاولان القفز فوق ركام الذكريات المرعبة والتي لن تعيد شيئا مما ذهب ولن تصلح ما افسدته الطائرة الملعونة. انقطع حبل الصمت بينهما وخرج الصوت من منقار الطائر وكأنها تسمعه لأول مرة في حياتها.
(سأطير يا فاطمة الى كل مكان أستطيع ان أصله وسأبحث عن موسى بين الشجر في الغابات وفي مفارق الوديان وفي هذا الجبل الضخم اللامتناهي صخرة ... صخرة وكهفا كهفاً وفي مصب الشلالات، بل وفي تلك الصحراء الواسعة الممتدة بلا حدود).
انتفض طائر الزيدي عن كتف فاطمة فجأة ودون ان يودِّعها كما فعل يوم أن ضربت الطائرة الملعونة قرية طرا وطار محلِّقاً في الفضاء وظلت فاطمة تتابعه ببصرها الى ان اختفى في السماء الصافية التي تقوم فوقهما، فتيقنت ان الطائر قد قرر انينفذ وعده دون تأخير وعادت الابتسامة الى وجهها العابس واحست بالرضا والامل يدغدغان قلبها الصغير. ثم عادت الى المعسكر واخبرت امها بمقابلة طائر الزيدي في الغابة وبفحوى ما دار بينهما وبالوعد الذي قطعه الطائر على نفسه بالبحث عن موسى.
فرحت الام فرحا عظيما وعاد الامل الى قلبها المكلوم فلم تطل الوقوف هذه المرة على بوابة المعسكر بل ذهبت وتجولت في الغابة وكأنها تريد ان تفرغ جسدها من الطاقة التي ألهمها اياها وعد الطائر الصغير لابنتها. تغير الآن كل شيء امام ناظريها. رأت حقول البهارات على سفوح التلال في دربات وكأنها تنبت في سهول طرا وتشم رائحتها كرائحة الدخن والذرة في أطراف قريتها المحتلة. لقد اعاد اليها الشعور بالأمل ذاكرة حية ومتقدة كانت تحسبها قد ماتت وتعفنت في العراء مع قتلى ذاك الصباح الحزين. وفي المساء رجعت بنت اللوح الى المعسكر وكعادتها فرشت جوال الخيش ومددت رجليها واسندت رأسها على نعلها وتطلعت الى السماء الظلماء وجالت ببصرها بين النجوم التي تلمع فوقها واخذت تنشد ولكن هذه المرة مخاطبة طائر الزيدي:
يا طائر الزيدي؟
بس لو لقيت ولدي...
ليك منى اردب عيش...
ومن الدخن شوال...
واطلب المافيش...
تلقاه جاك في الحال...
وزى ما تدور تتمنى...
اوعك تقول دامحال.
بعد ثلاثة ايام عاد طائر الزيدي الى معسكر دربات يحمل في منقاره الخبر السعيد وحطَّ فوق البوابة الكبيرة وبدأ يصيح بصوته الرخيم:
يا فاطمة
يا فاطمة
لقد وجدت موسى
نعم
وجدته
وجدته ...
سرى صوت الطائر في ازقة المعسكر كما يسري الدواء في عروق المريض وتجمَّع الصغار والكبار امام البوابة الكبيرة حيث تقف مجموعة من قوات اليوناميد التي يعهد اليها بحماية النازحين. شقت فاطمة الجموع المتلاصقة في صعوبة بالغة الى ان وصلت الى الصف الأمامي وعندما رآها الطائر، خرجت الكلمات هذه المرَّة من منقاره نقية وصافية كمياه الشلال فسمعتها فاطمة كما كانت تسمعها من قبل تحت شجرة الهشاب في قرية طرا:
(لقد وجدته يا فاطمة بكامل صحته ولم يصبه مكروه، انه يعيش الآن في معسكر قاقا بالقرب من وأدي القرع شرق تشاد. وكاد يطير من الفرح مثلى عندما اخبرته بأنكم على قيد الحياة).
رجَّ هذا الخبر أركان المعسكر رجَّاً وفي لحظة كلمع البرق تحوَّل المكان الى ينبوع فرح عظيم. كادت آمنة بنت اللوح ان تسقط على الارض من شدة الفرح كأن موسى يخرج لتوه من بطنها كما خرج في تلك الليلة الماطرة قبل عدة سنوات عشية مولده في طرا.
قام الشباب بتوزيع الحلوى وطافت كاسات الشاي والعصائر بين الجمع الغفير وعلت الزغاريد فضاء دربات وتحوَّل المعسكر الى عرس كبير. اخيرا اطمأن سكان المعسكر على ابن الحاج اتيم وتأكدوا من ان الحرب لم تأخذه الى ابعد من النزوح، فقد اخذت هذه الحرب اللعينة اطفالا في مثل عمره إما الى العالم الآخر او رمت بهم في اسر الخيّالة الذي هو أقرب الى زرائب الرقِّ في القرون الماضية.
بعد ان انحسرت موجة الانفعال في النفوس وهدأت المشاعر الجيَّاشة، تجمَّع شيوخ المعسكر يتفاكرون ويتشاورون فيما بينهم في الطريقة التي يمكن ان تعيد موسى الى اسرته في دربات.
قال بعضهم ان الطريق من تشاد الى جبل مرة محفوف بالمخاطر وغير آمن البتة واشار آخرون بضرورة تبليغ قوات اليوناميد ومع انهم لا يثقون فيها كامل الثقة إلا انهم تعشموا فيها خيرا، فعسى ولعل ان يكون الحل بيدها. تكاثرت الآراء وتشابكت الخطط وعلت اصوات وانخفضت اخرى وتحولت باحة المعسكر الى مكان اشبه بأسواق الباعة المتجولين، إذ تتداخل اصواتهم وتتقاطع في فوضى عارمة كزقزقة العصافير عندما تأوي الى الاشجار عند غروب الشمس.
هنا تدخل طائر الزيدي وصاح بصوت الواثق المطمئن:
(الحل عندي...
الحل عندي).
ساد الصمت لبرهة بين الناس المجتمعة في باحة المعسكر وتطلعت عيونهم الى أعلى البوابة الكبيرة حيث يقف الطائر.
(الحل عندي) ردَّد الطائر عبارته للمرة الثانية ثمَّ أضاف (سأذهب حالاً الى قمة جبل مرة في سرّنق حيث يوجد ملك الطيور الضخم مانج وسأشرح له قصة موسى وسأطلب منه المساعدة واعرف انه سيوافق وكما تعلمون فإن ملك الطيور بمقدوره ان يحمل موسى على رجليه ويحلِّق به لمسافات طويلة. ارجو ألا تقلقوا سيعود موسى قريباً اليكم سالماً).
وسط دهشة الحاضرين من النازحين وبعض افراد قوات اليوناميد، ارتفع طائر الزيدي بجناحيه الصغيرين قليلا وحلَّق في مستوى منخفض فوق رؤوس الجموع المحتشدة ودار دورة كاملة حول المعسكر ثم انطلق مسرعا الى اعلى في اتجاه قمة جبل مرة المشهورة باسم - سرّنق - وهى اعلى قمة في الجبل وتوجد بها فوهة البركان الكبيرة والشلالات ذات المياه الدافئة والتي يعتقد الأهالي بانها تداوي المرضى . فهناك يعيش ملك الطيور الضخم، الصقر مانج ويوجد عشّه في تلك النواحي.
قبيل مغيب الشمس وصل طائر الزيدي الى سرّنق وطفق يسأل الطيور التي تعيش هناك عن المكان الذي يقيم فيه الملك فأشاروا الى شجرة عالية وكثيفة الاغصان على يمين الشلال، طار الزيدي بحذر وحلق قريبا من الجزء العلوى للشجرة، فشاهد عشا ضخما لم ير عشا بضخامته في حياته وعندما اقترب شاهد انثى ملكة الطيور تطعم صغارها فأحس بمزيج من الرهبة والخوف.التفتت اليه الملكة ودون توقع منه حيَّته بكلمات طيبة ازالت عنه حالة الخوف والرهبة التي اعترته لذلك طار وحط على حافة العش بقلب مطمئن.
سألته الملكة:
(هل من خدمة أقدمهااليك ايها الطائر الصغير؟)
فقال بصوت منخفض يكاد لا يسمع:
(جئت من مكان بعيد يا صاحبة السمو في نواحي منطقة دربات اطمح في مساعدة ملك الطيور لان لا أحد غيره يستطيع ان يساعدني. فالقصة يا سيدتي الملكة ان أحد اطفال القرية التي كنت اعيش فيها قبل الحرب قد نزح بعيدا عن اهله ويعيش الآن في تشاد ولان الطريق بين تشاد وجبل مرة محفوف بالمخاطر رأيت ان الحل الوحيد ان يتكرم ملكنا العظيم ويذهب ويحضره الى اهله الذين يقتلهم الشوق لرؤيته).
قالت الملكة ان الملك قد ذهب لأمر عاجل شمال الجبل وسيعود في منتصف الليل وستخبره بقصة موسى اتيم. ثم اشارت اليه بأن ينام على غصن مجاور لعشها حتى انبلاج الفجر. اثناء حواره معها كان الزيدي يختلس النظر اليها، حقا انها رائعة الحسن. عيناها جميلتان كعيني انثى الحمام وصدرها جامح كالمهرة وصوتها رخيم كصوت البلبل. اللون الاحمر على رقبتها يتدرج الى البرتقالي وينتهي باللون الاصفر كوشاح يزين اعلى صدرها وفي هيئتها يلوح اليه شيء ما يذكره باللبوة التي كان يراه احيانا ترتاد شط الوادي بالقرب من طرا. لو كانت تعلم ملكة الطيور انه يتغزل فيها سرا لوقعت من الضحك على قاع عُشها ومن المؤكد ان هذا الطائر المسكين لايدري ان امثالها لا يلقون بالا لامثاله في امور من هذا القبيل.
اشرقت شمس اليوم التالي وتدفقت اشعتها على قمة الجبل كشلال متوهج. كان منظرا يجل عن الوصف، إذ بدت الشمس وكأنها تخرج من حفرة تحت الجبل وعندما اخذت في الصعود الى اعلى خُيّل الى طائر الزيدي انها تتسلق الجبل بأعمدة من الضوء وتتشبث بالأشجار والصخور الضخمة وهي في طريقها الى قمة سرّنق. انها المرة الاولى التي يرى فيها الزيدي مثل هذا المشهد البديع.
في هذه اللحظات نهض الملك من نومه واخذ يداعب صغاره ويلهو معهم فيما كانت الملكة تحكي له عن قصة موسى اتيم كما رواها طائر الزيدي ليلة البارحة وكان تعاطف الملك واضحا في عيونه حيال قصة الطفل المسكين ثم عقب على حديث الملكة من ان امرا كهذا سهل وبسيط وسيقضيه نهار اليوم وسيعود لأخذ صغاره للسباحة في البركة تحت الشلال اطل ملك الطيور من عشه الضخم وقال محيي االزيدي:
(صباح الخير ايها الطائر الصغير).
فرد عليه الزيدي التحية مطأطأ الرأس كعلامة على التبجيل والاحترام ثم امر الملك الزيدي بأن يأتي ويجلس فوق ظهره ليدله على مكان المعسكر الذي يعيش فيه موسى اتيم. بعد دقائق قليلة انطلق الصقر الضخم كالصاروخ محلقا في الفضاء الرحب صوب الغرب في اتجاه تشاد كانت الرحلة شاقة وطويلة.
بدأ الجبل المهيب يبتعد في الافق واخذ يتلاشى رويدا رويدا وكأنه غبار تسوقه ريح عاتية الى الجانب الآخر من الكون الفسيح.
بعد ساعات قلائل عبر الملك وعلى ظهره الزيدي صحاري واودية واسعة ودخل الى شرق تشاد.وعند الظهيرة وصل الملك الى وادي القرع وطار في مستوى منخفض ومن تحته شاهد بيوتا مهلهلة، مصنوعة من الخيش وجوالات البلاستيك ومتناثرة على حواف الوادي وسط الصحراء.
هنا تأكد لملك الطيور ان الحرب قد اصابت اهل الجبل في مقتل إذ اجبرتهم على ترك الأراضي الخضراء ومصادر المياه العذبة وقذفت بهم في هذه الاصقاع الموحشة والارض البور القاحلة سأل ملك الطيور الزيدي:
لماذا يقتلونهم ويحرقون ديارهم ويخرجونهم منها الى هذا القحط؟
لاذ طائر الزيدي بالصمت لأنه لا يدري ولا يريد ان يقول انه لا يدري لشيء في نفسه.
هبط ملك الطيور بالقرب من معسكر قاقا للنازحين تحت شجرة من اشجار الحراز المنتشرة في تلك البقاع ثم طلب من الزيدي ان يذهب الى داخل المعسكر ويأتي بموسى حالا لان الملك كان في عجلة من امره بعدما شاهد بعض المسلحين الذين يحرسون المعسكر فخاف ان يفكر أحدهم بإطلاق النار عليه إن رآه.
ما هي إلا دقائق معدودات وقد عاد الطائر يرافقه موسى. شعر موسى بشيء من الرهبة فانعقد لسانه ولم يقدر على إلقاء التحية على ملك الطيور فأذهب عنه الملك الحرج وبادره بالتحية فتزين وجه موسى بابتسامة هي خليط من الحزن والفرح. انها ابتسامة الضعيف امام القوى المنقذ. صعد الزيدي فوق ظهر الملك وجلس موسى فوق رجليه ثم ارتفع ملك الطيور في هدوء الى اعلى وطار غربا في اتجاه جبل مرة وفي هذه الاثناء كان هناك ولد يعدو مسرعا خارج المعسكر ملوحا بيده ويصيح بأعلى صوته:
(وداعا يا موسى، سأفتقدك كثيرا)
فرد عليه موسى:
وداعا يا صديقي صالح سنلتقي يوما ما تحت شجرة الهشاب في طرا وسيغنى لنا طائر الزيدي كما كان يغنى لنا كل يوم
بعد ان غادر ثلاثتهم معسكر قاقا وسبحوا في الفضاء الازرق الرحب بدت بيوت النازحين في البعيد وكأنها حبيبات متناثرة من الحصى، صفراء وزرقاء وسوداء وصار اشجار الحراز المنتشرة حول الوادي كخرق لثوب اخضر باهت اللون معجلك. السماء صافية والنسمات الباردة تهب من الجنوب الى الشمال وفي رأس كل من المخلوقات الثلاثة تهب افكار ورؤى مختلفة لكنها تصب في مجرى واحد وتنتهي بسؤال واحد لا يستطيع أحدهم او ثلاثتهم الاجابة عليه (الى اين سينتهي هذا الخراب؟)
اثناء الرحلة سأل ملك الطيور موسى:
صفْ لنا سعادتك وانت في طريقك لمقابلة اسرتك بعد كل هذه المدة الطويلة!
قال موسى: (ان سعادتي لا توصف ولكن...ثم لاذ بالصمت فجأة وكأنه تذكر شيئا عكّر مزاجه فسأله ملك الطيور؟
ولكن ماذا؟
رد موسى:
بالرغم من سعادتي برؤية أهلي عما قريب ولكنني أحس بسعادة غير كاملة فطارده ملك الطيور بالسؤال:
ولماذا تحس بسعادة غير كاملة؟
قال موسى والكلمات تخرج من فمه حزينة ومرة كأوراق اشجار الموركي:
لن تكتمل سعادتي إلا بالعودة الى قريتنا طرا، الى بيتنا والى المدرسة والى الخلوة والى شجرة الهشاب والى حقل ابى والى قبر حبوبتي، الى كل الناس الذين كانوا معنا هناك)
كان موسى اتيم يحس في تلك اللحظة وهو معلق بين السماء والارض فوق رجلي ملك الطيور بانه شخص بلا جذور وبلا أصل، كأنه مقطوع من شجرة ومثل هذا الاحساس قد يتحول مع تطاول المأساة الى شعور بالمهانة والاذلال لن تطفئ نيرانه كل مياه الشلالات في اعلى الجبل ولربما لا يدري المسكين ان قريته طرا، المكان الذي ولد فيه وعاش ومات اسلافه جيلاً بعد جيل لم يعد يملك منها الآن سوى ذكريات ستتآكل مع مرور الزمن وجراح النزوح وستنتهي الى مجرد اسم يدل فقط على مكان في شهادة ميلاده.
في الطريق الى دربات طلب موسى من ملك الطيور على استحياء ان يمر فوق قريته طرا وكان كمن يريد ان يغتنم هذه الفرصة التي قد لا تتكرر ويقف على الحال الذي آلت اليه القرية بعدما وقعت الواقعة، فهذه ارضه الاولى وسماؤه الاولى التي الفت عيناه ازقتها وتعودت على اشكال البيوت وسحنات الناس وابتساماتهم في الافراح ودموعهم في الاتراح إنه يحن الى كل معلم فيها. يحن ان يرى مجاري المياه عند هطول المطر والى المسجد عندما يرتفع صوت المؤذن والى الخلوة في اوقات الظهيرة والى طاحونة الغلال في الحي الغربي حيث يتعمد الذهاب اليها لمقابلة مريم الجميلة ابنة سائق اللوري والتي يهيم بحبها ويحلم بالزواج منها عندما يكبر ويصير شابا. يحن الى كل شيء.
استجاب ملك الطيور الى طلب موسى ولعله فهم قصد الصبي وقدر ظرفه. انحرف الطائر الضخم عن مساره قليلا وبعد فترة ليست بالقصيرة وصلوا فوق سماء القرية المنكوبة وهاهو الملك يُحلّق في حذر خوفا من القناصة على الارض.
كانت قرية طرا تبدو من على البعد مثل كومة رماد.تتوزع حوله قطع من الفحم والحجارة كما لو وضعت فوق ملاءة خضراء. عندما اقتربوا قليلا، بدأت التفاصيل تتضح شيئا فشيئا. هناك حفرة كبيرة خلفها سقوط صاروخ على يمين المسجد. البيوت في الحي الغربي اختفت بشكل كلّي واصبحت اثرا بعد عين، فقط هناك بقايا متكومة لطاحونة الغلال وعلى مسافة منها عظام لبقرة نفقت. وسط القرية يبدو أفضل حالا من غيره إذ تشاهد فيه بقايا لبيوت متفرقة من بينها بيت صديقه صالح وعندما اقتربوا قليلا رأى موسى ان بيتا جديدا شُيّد على أنقاض بيت صاحبه ورأى جملا يرقد وحوله مجموعة من الماعز ترضع صغارها.
بعد هنيهةٍ انتقلت عينا موسى لتحط على البيت المجاور. انه بيت اهله ومرتع حنينه الأول، حيث ولد وعاش طرفا من طفولته الى ان وقعت المأساة في ذاك الصباح الحزين، حين اتت الطائرة الملعونة وصبت النيران فوق ازقة القرية.
شعر موسى بالغبن ينهش كبده وتجمد الدم في عروقه وتصبب جسمه عرقا. ها هو بيتهم امامه، حقيقة لا خيال. بيت كان عامرا فلم يبق منه الآن سوى قطية صغيرة كانت تستخدم كمخزن لحفظ الادوات الزراعية وبعض الحاجيات وعندما اقتربوا أكثر وصاروا على بعد أمتار رأى الولد المسكين ان ازيار الماء في بيتهم لا تزال على حالها ولم يلحق بها ضرر ولكنها فارغة وتبدو يا بسة كالحجارة.دقق موسى النظر حولها فرأى فردة نعل لأخته فاطمة وخرقة من ثوب برتقالي اللون كانت تلبسه امه عادة في ليالي الاعراس وتذكر في الحال آخر مرة شاهد فيها امه ترقص وتسبح بصدرها وتضرب الارض برجليها. كان ذلك في حفلة زواج حليمة، كبرى شقيقات صديقه صالح، على مقربة من بيتهم يقف دكان الحاج عبد المولى المبنى من الواح الزنك وقد ذهب نصفه وبقي النصف الآخر مستندا على بعضه وبعض اجزائه متفحمة من أثر الحريق. امام القرية لا تزال شجرة الهشاب في مكانها واقفة وشاهدة على فظاعة ما حدث في ذاك الصباح الحزين ثم لاحظ موسى ان ثمة جسماً ابيض اللون يتحرك تحتها وبعد لحظة تحرك الجسم مبتعدا عن ظلال الشجرة، فكانت المفاجأة ان رأى النعجة العرجاء والتي كان يظن انها ستكون من اوائل الهالكين يوم حدوث الكارثة. ابتسم موسى من سخرية هذا القدر العجيب، فرغم الحرب التي شرَّدت اهل القرية في الاصقاع وقتلت المئات منهم واحرقت البيوت وبدّدت الممتلكات وهتكت اعراض النساء والفتيات واجبرت حتى طائر الزيدي على ترك عشّه، بالرغم من كل ذلك بقيت النعجة العرجاء في مكانها تحت شجرة الهشاب كأنها عنقاء الرماد. نعم بقيت كآخر المخلوقات الاحياء في طرا وقد تركها الخيالة والعسكر في حالها كأنها شيء لا ينفع ولا يضر،وهيالتي جاءت من مكان مجهول ولا يعرف الناس لها صاحباً، وليست أصلاً من بين بهائم القرية وحيواناتها.
سأل موسى طائر الزيدي إن كان باستطاعته النزول على الارض وسؤال النعجة العرجاء عن والد صديقه صالح الذي تركته الاسرة مع ابنته حليمة بسبب إعاقته وعجزهم عن نقله معهم اثناء فرارهم. رغم فوبيا الخوف التي اصابت الطائر الصغير من هذا المكان، إلا انه توكَّل على الله وطار وحطَّ بالقرب من النعجة ثم عاد بعد فترة قصيرة منكّس الرأس ومثقلاً بخبر لا يقوى على حمله في صدره الصغير وتحاشى ان يضع عينيه في عيني موسى. وهنا تيقّن موسى ان ما كان يخشاه اهل صالح حيال ابيهم وابنته الكبرى، حليمة، قد حدث.
موسى:
ماذا قالت لك النعجة؟
الزيدي:
قالت انها كانت في مساء ذلك اليوم تتجوَّل في وسط القرية وشاهدت ألسنة النيران تتصاعد من منزل الحاج أبو صالح وسمعته يصرخ ويستغيث وفيما تعتقد انه كان في داخل القطية التي تحترق ولم يساعده أحد، فقد كان هناك رجال يتحلَّقون حول القطية ويضحكون ويقهقهون. وعندما همّت بالابتعاد عن المكان، كان الصراخ قد انخفضت وتيرته وبعد لحظات بلغها مصير الرجل، عندما وصلت الى منخاريها رائحة الشواء الآدمي.
موسى:
وماذا عن حليمة؟
الزيدي:
قالت النعجة انها قد رأتها في صبيحة اليوم التالي مع مجموعة من النسوة والفتيات يقودهن رجال يركبون على ظهور الخيل الى خارج القرية وكانت بينهن، سعاد، ابنة الحاج عبد المولى، صاحب الدكان. اراد الزيدي ان يضيف شيئا مما ذكرته النعجة، لكنه تلعثم وارتبك واخرج من منقاره جملا مبعثرة كهذيان المحموم، فأصاب القلق موسى وصاح في وجهه بانفعال وتوتر شديدين:
قل لي ماذا تخفي؟
قال الزيدي على لسان النعجة ان البتول زوجة سائق اللوري، آدم ابو طاقية، قد اغتصبتها مجموعة من الخيّالة والعسكر امام زوجها وكان زوجها يصرخ بأعلى صوته فزجروه وشتموه وأشبعوه ضربا ثم ذبحوا كليهما وتركوهما يسبحان في الدماء. وقد فهمت النعجة من حديث قائد العسكر الى أحد جنوده ان سائق اللوري لديه ثلاثة اخوة قد التحقوا بالمتمردين في سفح الجبل في منطقة روكرو ذات المياه الدافئة. نظر موسى الى الطائر الصغير نظرة حذرة، كمن يريد ولا يريد ان يسمع خبرا لا يضمن عواقبه على نفسه وكان الزيدي يعرف ما يمور في صدر صاحبه لذلك قال دون ان يسأله موسى " ان النعجة لا تعرف شيئا عن مريم الجميلة ولم تشاهدها ولا تدري إنْ كانت بين القتلى او النازحين".
انتهت الرحلة بعد مغامرة كبيرة وحطَّت القافلة الفضائية فوق معسكر دربات. عاد موسى الى حضن اسرته واعاد إليهم فرحا كاد ان يذهب تحت اقدام الخيالة ونيران الطائرة الملعونة في ذلك الصباح الحزين. وقفل راجعا ملك الطيور الى قمة الجبل في سرّنق ليأخذ صغاره الى السباحة في طرف البركة تحت الشلال، وعاد طائر الزيدي الى عُشِّه الجديد في غابة دربات،وكأنَّ الصدفة قد اتت به الى هذا المكان بالقرب من الطفلة التيأحبهاليردّ جميلا كان دينافي رقبته منذ ايامهم الخوالي في ذاك الزمن الجميل. لم ينقطع التواصل بينه وبين فاطمة فكانت تراه كلما خرجت لجمع الحطب والاعواد اليابسة فيالغابة. كان يغنِّى لها ويطربها ويقصّ عليها أحياناً رحلته الى سرنق وروعة الطبيعة في تلك القمم العالية،و صعود الشمس فوق الجبل ونزولها الى السهول الخضراء الواسعة كأنها غزال يقفز فوق تل صغير، و ذات الحسن والجمال صاحبة المقام العالي ملكة الطيور. ذات مرَّةٍ سألته فاطمة: هل سنبقى في دربات الى ان اتزوج وأنجب أطفالي ويأتون الى هنا لتغنِّى لهم وتطربهم ام سنعود قريبا الى طرا؟؟
لاذ طائر الزيدي بالصمت لأنه لا يدري ولا يريد ان يقول انه لا يدري لشيء في نفسه.
انتهت


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.