هنا نقف على السؤال: كيف؟. أي كيف لا يكون في الإنتخابات الحل النهائي؟. وقد ذكرت سابقآ أنه: ( لن يكون في الإنتخابات المقبلة الحل النهائي والشامل لأزمة البلاد الممتدة على طول تاريخ السودان الحديث!. والسبب عندي هو أن البنيات المدنية الفوقية "الآيدولوجيات" القائمة لا تعبر ولا تمثل بشكل جدي إرادة و "مصالح" البنيات المدنية الأصيلة المشكلة لموزايك المجتمع المدني السوداني "أعني المجتمع المدني وفق فهمي له هنا، أنظر الخلاصة" وبالتالي فإن محصلة الإنتخابات وفق هذه الرؤية لا تفضي إلى رؤية موحدة للعيش المشترك. تلك الرؤية "الوطنية" الموحدة للعيش المشترك هي المحك في طريق الإستقرار السياسي والإزدهار الإقتصادي والسلم الإجتماعي. ولدينا تجربة إنتخابية ثرة في السودان ممتدة بين إنتخابات الجمعية التشريعية عام 1948 وإنتخابات الإنتفاضة عام 1986 هي خير مثال على تأكيد مزاعمي هنا( كيف؟.). بالرجوع إلى التاريخ القريب قد يتكشف لنا صدق هذا الزعم. فلنأخذ محصلة إنتخابات 1986. سأقوم بمحاولة تحليل نتائجها في الحلقة القادمة. إنتخابات 86 كانت صحيحة من الناحية الفنية ولا توجد شكوى واحدة جدية أو أي زعم مدعوم بالأدلة في عدم صحتها الفنية. لكنها لم تؤدي إلى إستقرار سياسي. كانت كما سبقها من إنتخابات "ديمقراطية" سرعان ما تلاها إنقلاب عسكري قامت بهي جماعة مدنية "سودانية" تسمى الجبهة الإسلامية مستخدمة كوادرها داخل مؤسسة الدولة العسكرية في الإستيلاء على السلطة التنفيذية للدولة ومن ثم إعادة تشكيل الدولة من جديد وفق الرؤية الذاتية لتلك الجماعة "آيدولوجيتها" الخاصة. وهو ذاته ما حدث بعد إنتخابات 1958 إذ جاءت الجماعة المدنية التي تزعمها الجنرال عبود ثم هو ما حدث بعد إنتخابات الثورة "العظيمة" في إكتوبر 1964 إذ جاءت الجماعة المدنية التي تزعمها الجنرال نميري وفي تلك الحالتين كما هو حال "الجبهة الإسلامية" تم في البدء الإستلاء على الجهاز التنفيذي للدولة عبر آداة العنف المادي وعليه تم إعادة صياغة الدولة وفق رؤية ذاتية مفردة فرضت نفسها على مجمل الرؤى الأخرى بل تم نفي تام للرؤى الأخرى عبر أدوات القمع في الحالات الثلاثة مع إختلافات طفيفة في نوع ومقدار حدة المواجهة بين الدولة ومجمل بنيات المجتمع المدني السوداني. ما هو السر؟. لماذا لا يستقر النظام الديمقراطي في السودان؟. كما يحدث في هولندا والهند وماليزيا على سبيل المثال. بل ذاك سؤال جزئي وينطوي على آيدولوجي!. السؤال الصحيح هو: لماذا لا يوجد إستقرار سياسي في السودان على وجه الإطلاق؟. إذ أن لا الديمقراطية وحدها التي لا تستقر ولا تجلب إستقرار بل الإنظمة الشمولية بدورها لا تستقر ولا تجلب إستقرار. لماذا لا يستقر النظام العسكري "الشمولي" في السودان كما هو حادث في تركيا ومصر وتونس؟. فنظام عبود سقط عبر هبة شعبية ناغمة وهو نفسه الشيء الذي حدث لنظام نميري. ونظام "الإنقاذ" ما زال في سدرة السلطة لكنه كما هو واضح للعيان غير مستقر في ذاته ولا متماسك في بنياته كما أنه فوق ذلك جعل بقاء "الدولة" بحدودها وسيادتها على أراضيها محل شك. الإجابة من الناحية النظرية عندي تكون في أن تنوع المجتمع المدني السوداني وشبه تكافوء القوى في إطار بنياته لا يسمح لجماعة مدنية واحده بسيطرة دائمة ومطلقة على الدولة في صورة إنزال دائم وفرض مقيم لآيدولوجيا مدنية واحدة وبالتالي سيادة تلك الآيدولوجيا عبر العنف المادي وحده مثل حالات تركيا ومصر وتونس. غير ممكن. لم يحدث حتى الآن. وجميع المؤشرات تقول بأنه السيطرة على الدولة في السودان عبر العنف المادي وحده غير ممكنة التحقق في المستقبل القريب لذات السبب. وذاك بإختزال هو السر وراء عدم إستقرار النظم الشمولية في السودان. وهو نفسه السبب وراء فشل المحاولات الديمقراطية الرئيسية الثلاثة في السودان!. ولأن هذه النقطة من الأهمية بمكان سأستفيض بعض الشيئ في شرح فكرتي من ورائها. (كثيرآ ما نسمع أن السودن بلاد منوعة الأعراق والثقافات والمناخات. لكن كيف يفعل هذا التنوع فعله عند لحظة "الدولة"، ذاك ما نحن بصدده هنا). لماذا لا تستقر النظم الديمقراطية "بما هي ديمقراطية" هل فقط لأن عندنا مؤسسة عسكرية ناشز وعسكريون مغامرون؟. أو عندنا أعداء مدنيون للديمقراطية؟. كما يردد البعض. الإجابة لا يمكن ان تستقيم عند هذا التبسيط. الإجابة العاجلة أن الدولة عبر تاريخ السودان الحديث لم تمثل ولا للحظة واحدة " رؤية موحدة للعيش المشترك" كما يجب. إن أي إنسان حر وسوي سيتوقع من الدولة شيئان رئيسيان وهما: جلب الخير له ولأسرته ولجماعته ودرء الأذي عنهم. غير أن ما يحدث في السودان أن الدولة لا تجلب الخير لمعظم الناس ولا تدرأ الأذى عنهم بل كثيرآ ما تكون الدولة ذاتها مصدر أذى لمعظم الناس. وفي هذه الحالة تكون الدولة على الدوام في مكان العدوء لبنيات مدنية هيكلية مختلفة. إذ يلجأ الناس إلى ولاءاتهم المدنية الأصيلة لدرأ أذى الدولة ومحاولة الدفاع عن أمنهم ومعاشهم وبقائهم. سوءآ كانت تلك البنيات المدنية حديثة أو تقليدية، نقابة أوطائفة دينية، منظمة حقوقية أو قبيلة. (وهذا ما قد يفسر تعالي الأحاسيس العرقية والقبلية في سودان اليوم أكثر من الماضي وبما يناقض مسيرة التاريخ). حيث يكون صدام وشقاق بين الدولة ومعظم البنيات الفاعلة للمجتمع المدني. فلا يكون إستقرار. تكون حرب. وقلنا من قبل في مكان ما من هذا الخيط أن أكثر البنيات المدنية ذات المقدرى على ولادة "آيدولوجيا" تكون خاصتها في السودان هم ثلاثة هياكل مرتبة من حيث الأسبقية على الوجه التالي: القبيلة والطائفة والنقابة. هذه الهياكل الثلاثة تشكل الدولة وتعيد صياغتها كل مرة من المرات ممثلة في الإيدولوجيات خاصتها. فالحرب في دارفور تقودها القبيلة. ليس دارفور وحدها بل كذلك كانت حرب الجنوب وحرب "البجا والرشايدة" في الشرق كما الحركات السياسية الجديدة مثل كوش وحزب الفونج القومي وإتحاد الفولاني . والطائفة ذات تأثير واضح في تشكيل الدولة بالذات في الأوقات التي تعقب إنتخابات ديمقراطية حرة. كما أن الإنقلابات العسكرية والإنتفاضات الشعبية في السودان تقودها في البدء "النقابة" أي المجتمع المدني المديني بهياكله الحديثة. فالإنقلاب العسكري والفعل المضاد له "الإنتفاض الشعبي" عليه تقودهما النقابة على حد سواء من واقع أن المجتمع المدني المديني متناقض في ذاته وليس كتلة صماء. في أول مقال من هذا السلسلة تحدثنا فيه عن الإنسان والمجتمع المدني والدولة كان من إفتراضاتي الأولية التالي: ( المجتمع المدني في السودان ينقسم في كتلتين تتوازيان مرة وتتقاطعان في بعض المرات، تختصمان في لحظة ما وتتصالاحان في لحظة اخري، في نفس الوقت الذي يعتمل في داخل كل منهما مجموعة من التناقضات الذاتية بفعل اختلاف اواختلال منظومة القيم الواقفة وراء تمظهرهما( أي ان كل كتلة في ذاتها تتراكب من جزيئات تتشابه حينآ و تتمايز تراكيبها بعضا عن بعض أحيانآ آخرى). هذان المجتمعان يتمثلان بشكل مجمل في المجتمع المدني "المديني" والمجتمع المدني " القروي" او الريفي. ولكل منهما تمظهراته المختلفة عن الاخر، ومنظمومة قيمه الخاصة.). هذا الإفتراض ثبت أن هناك أدلة مادية تجعل منه شئ أقرب إلى الحقيقة. نرجع بصورة أكثر عملية إلى السؤال : لماذا لا تستقر النظم الديمقراطية "بما هي ديمقراطية"؟. يتواصل ... (نحو أفق جديد) !