بعد يوم شاق وراء لقمة العيش عاد عبد الرحمن الى منزله لينال قسطا من الراحة وقبل أن يغفو قام كعادته بقراءة الرسائل التي وصلت الى هاتفه النقال خلال فترة النهار .. اندهش عبد الرحمن حينما رأي رسالة لم يكن اسم صاحبها مخزنا لدية .. وعندما بدأ فيقراءتها شدته فجلس على السرير ليقرأها بتمعن فوجد الرسالة تقول " كيفك ياأبوعوف .. طبعا رسالة غريبة من زول اخر مرة شفتو قبل خمسة وثلاثين سنة .نعم أنا أحمد صالح بيقولو الحي يلاقي .. والله مشتاق ليك ياأبوعوف ولشلة الاصدقاء ..ما عارف الحي منو والميت منو .. المهم لازم نتلاقى يوم الجمعة الساعة سبعة في حديقة الموردة .. عايزين نتذكر الايام الجميلةياابوعوف .. ما تنسي تجيب معاك العود .. بعدين كل حاجة علي .. عارف حساسيتك في المسائل دي . فى يوم الجمعة جاء عبد الرحمن مبكرا الى الحديقة التي قرر الاصدقاء أن يلتقوا فيها .. كانت تلك عادة عبدالرحمن منذ أن كان موظفا في بنك باركليزفيمطلع الستينات من القرن العشرين .. كان معروفا بالتزامه وانضباطه حيث كان العمل يمثل بالنسبة له قيمة وأمانه. لم ينسي عبد الرحمن أن يحضر معه الة العود الذي اقتناه منذ ان كان في ريعان شبابة والذى ظل ملتصقا به حتي بلوغه منتصف الستين .. تذكر عبد الرحمن كيف كان هذا العود نجم جلسات الأنس التي كانت تجمعه بشلة أصدقائه في ذلك الزمن الجميل .. و الذين افترقوا لما يقارب الخمسة وثلاثون عاما ولولا الجهود الحثيثة التي بذلها صديقهم أحمد صالح المغترب في ابوظبي لجمعهم مرة اخري لم يكن احد يعلم ان كانوا سيلتقون مرة اخرى ام لا. ولحين وصول الأصدقاء بدأ عبد الرحمن يدندن بأغنية الكابلي التي ظل متيما بحبها لسنوات طويلة (ضنين الوعد)كلمات الشاعر صديق مدثر.. يا ضنين الوعد أهديتك حبي من فؤاد يبعث الحب نديا انيكن حسنك مجهول المدى فخيال الشعر يرتاد الثريا كلما أخفيته في القلب تنبي عنه عيناكا ولا يخفى عليا أنا إن شئت فمن أعماق قلبي أرسلوالالحاناشلالا رويا وابثو الليل اسرار الهوى واصوغ الصبح لون بابليا لا تقول إنيبعيد في الثرى فخيال الشعر يرتاد الثريا يا ضنين الوعد **** كان بالأمس لقاءنا عابرا كان وهما كان رمزاعبقريا كان لو لا أنني ابصرتهو وتبينت ارتعاشا في يديا بعض احلام التيانسجها في خيالي واناجيها مليا يا ضنين الوعد ****** ومضة عشت على اشراقها وانقضت عجلا وما أصغتإليا كلمة خبتها في خافقي وترفقت بها برا حفيا . . من دمي غذيتها حتىغدت ذات جرفا ياسر الاذن شجيا وافترقنا وبعينياالمنى قالها الدمع وما ابصرتشئيا ان تكن أنت جميلا فانا شاعرا يستنطق الصخر العصيا ان تكن أنتبعيداً عن يدي فخيالي يدرك النائي القصيا لا تقول إني بعيد فيالثرى فخيال الشعر يرتاد الثريا فهذه الأغنية تعيده الى ذلك الزمن الجميل الذي مضي ولن يعود .. تذكر كيف كانت الخرطوم جميله ..شوارعها نظيفة ..مكاتبها أنيقة .. شبابها وشاباتهايتألقون جمالاوحسنا.. كيف كانت لياليها مقمرة .. وهواءها عليل .. كانوا يتابعون الأفلام الأجنبية والعربية وهي لم تشاهد بعد في فضاءات العالم .. كانت دور السينما تتنافس في الجودة والارتقاء بذوق المشاهد (النيل الأزرق .. كوليزيوم .. الخرطوم غرب .. )وخلال فترة العمل كانت الساندويتشات تأتيهم طازجة ..حارة من محلات زكي القريبة من البنك أو من أتينية حيث ساندويتشات السمك التيلايزال طعمها في فمه .. يأتون بالحلويات من بابا كوستا .. يشربون القهوة في مقاهي الخرطوم الجميلة .. من سرق الخرطوم من أهلها .. كيف تحولت هذه التحفه الرائعة الى هذا المستنقع .. لم يعد السوق الافرنجي أفرنجيا أو السوق العربي عربيا .. أين ذهبت الطراحات وأصوات مناديها ما يزالفي الفضاء .. أمدرمان بالموردة .. أم درمان بالأربعين ..بحري المحطة الوسطي .. السجانة بالنص .. كم قضينا من وقت ننهل فيه من فيض المعرفة بالمراكز الثقافية ..الفرنس والأمريكي ومعهد جوته . كان القسم الشرقي يتباهى بحدائقه الغناء والخرطوم أتنين المعطرة برائحة الزهور عند العصاري .. الموظفين بملابسهم الانيقة والموظفات بأثوابهم البيضاء من ماركة أبو قجيجة .كيف أخذنا هذا الزمن المأزوم على حين غره ولفظنا خارج دائرة العالم المتحضر.. كيف ترك السودان أجمل أبنائه وبناته يهيمون في بلاد العالم يبحثون عن لقمة العيش والحياة الكريمة .. كيف لبلاد تتمتع بهذا الكم الهائل من الخيرات أن تترك صناع المستقبل للمجهول . من قادنا لهذا الفشل وهذه الأزمات المتلاحقة .. من يعيد للخرطوم نضارتها وللسودان عافيته التي فقدها.. وبينما عبد الرحمن في سرحانه فوجئ بأحمد صالح صديقه الأثير يفتح زراعيه للقائه .. وقد ملأ الشيب شعره وحفر الزمن خطوطه على وجهه. . [email protected]