أبدأ الموضوع بسؤال هام، وهو هل يمكن تطبيق نظرية إدارة المخاطر في البلدان الأقل تقدماً؟ للإجابة على هذا السؤال سوف أضع السودان تحت دائرة الضوء وأحكى لكم تجاربي وتجارب الآخرين مع المخاطر الجمة فيه تاركاً لكم حرية التفكير والتحليل ثم الإجابة على السؤال. لكن قبل أن أتناول التفاصيل والأحداث لابد من تعريف مختصر مبسط لنظرية إدارة المخاطر لمصلحة الذين قد لا يعلمون حتى تسهل متابعتهم للموضوع وخاصة قصص ومواقف محاولات إدارة المخاطر التي واجهتني وغيرى في السودان وهي قصص لا تخلو من طرفة ومغامرات بالرغم من أننا، لاحظ، نتحدث عن المخاطر وهذا هو حال السودان وقديماً قالوا: شر البلية ما يضحك. إدارة المخاطر (Risk Management)، هي اَلية تمثل الأسلوب العلمي لتحديد المخاطر التي قد يتعرض لها الفرد أو المُنشأة ثم تصنيفها وتحليلها وقياسها ثم اختيار السبل المناسبة لمواجهتها أو لمواجهة الاَثار المترتبة عليها بأقل كُلفة ممكنة. والأساليب المناسبة لمواجهة المخاطر كثيرة وسوف أعدِّد لكم هنا بعضها مع ذكر أمثلة توضيحية لكل أسلوب. أولاً: أبدأ بتجنب أو تحاشى الخطر – مثال لذلك إذا كان ركوبك أو قيادتك للسيارة يمثل خطراً على حياتك نتيجةً لحوادث السيارات فما عليك الا أن تتخلى تماماً عن ركوب وقيادة السيارة وتقضى مشاويرك مشياً على الأقدام وبذلك تكون قد تجنبت هذا الخطر تماماً. ثانياً: الوقاية من الخطر – مثل أن تتفادى البدانة ومخاطرها من أمراض وغيره بالتغذية الصحيحة والحمية والنشاط الرياضي وكذلك بالحلول الجراحية الحديثة من قص للمعدة وإدخال بالون لتصغير حجمها أو مثل ربط حزام الأمان في مقعد السيارة للوقاية من مخاطر الاصطدام. ثالثاً: تحمُّل الخطر – أي افتراض الخطر وتحمل نتائجه لكن هناك نوعان من التحمّل سلبى وإيجابي - مثال أن تمارس عادة التدخين الضارة بالصحة، رغم التحذيرات بأضراره حتى من صانعيه غير مكترثٍ بأضراره الصحية المعروفة والجسيمة وهذا يعرف بالتحمّل السلبى أما التحمّل الإيجابي فهو أن تحتاط لتحمل نتائج الخطر الذى تحملته- فمثلاً اذا قررت أن لا تؤمِّن بيتك ضد الحريق لأى سبب من الأسباب فيجب عليك أن تجنِّب مبلغاً من المال سنوياً لمقابلة نفقات صيانة منزلك في حالة التلف نتيجة لحادث حريق بالإضافة الى اتخاذ الاحتياطات اللازمة لتجنب الحريق. رابعاً: تقليل الخطر – مثلاً اذا كان هناك خطر للحريق في مطبخك فعليك تركيب اطفائية للحريق بجانب الطباخ أو البوتجاز والتأكد دائماً بأن أسطوانة الغاز مغلقة. خامساً: تحويل الخطر الى طرف ثانٍ – مثال التخلي عن الخطر عن طريق اتفاقية أو عقد مقاولة مع مقاول عمل أو مقاول خدمة أو تحويل الخطر الى طرف ثالث مثل شركة تأمين تدفع أو تعوّض بالنيابة عنك الاضرار المادية عند وقوع أو تحقق الخطر- مثال اذا أردت أن تؤمِّن احتياجات أسرتك واعالتهم في المستقبل ضد تبعات الوفاة أو العجز الجزئي او الكلى فيمكن تحويل أو نقل هذا الخطر الى شركة تأمين تجارية بشراء وثيقة تأمين الحياة والحوادث الشخصية مقابل قسط سنوي. عادةً ما يركِّز الناس على إدارة المخاطر في المُنشآت (المصانع والبنوك والشركات والمؤسسات الكبيرة الخ...) لكن هناك أيضاً مخاطر للأفراد كما أن اَليات إدارة المخاطر المتعلقة بالمنشآت هي نفسها التي يمكن اعتمادها لإدارة المخاطر التي تواجه الافراد. ولما كنتُ وما زلتُ أعمل في مجال التأمين وإدارة المخاطر ما يقارب الاربعين عاماً لذا أطبِّق نظرية إدارة المخاطر في حياتي الشخصية بطريقة تلقائية حتى في أبسط الأشياء والأعمال كما سوف أذكرها لاحقاً، مع العلم أن زوجتي لا تشجعني على التحوّط والحرص الشديد وتقول لي دائماً: الحذر لا يمنع القدر وتوكل على الله، وفى كل مرة أذكِّرها بالحديث الشريف: أعقلها وتوكّل. فمثلاً أخاف من الظلام ولا أتحرك فيه شبراً من مكاني الا بوجود ضوء كافي، ففي الظلام لا ترى عين الانسان لأن العين تعمل حين تستقبل الاشعة وترسلها للدماغ عكس بعض الحيوانات كالقطط والكلاب وهي كائنات ليلية لا يؤثر الظلام في قدرتها على الابصار. فالعين صمام الأمان للبشر، والظلام مصدر كبير للخطر أتحاشاه. وأخاف أيضاً من الدرج أو"السلالم" "فياما طحنا" عليها في الصغر عندما كنا نلعب لعبة "السك سك" ولذلك عادة أختار الغرف الأرضية في المنزل أو الفندق الذي أنزل فيه. وأستعمل المصعد للوصول الى مكتبي رغم أنه يقع في الطابق الأول فقط وذلك كله لتحاشى مخاطر السقوط والكسور. ثم أن أرضية حمامي كلها مرصوفة بقطع السجاد والاسفنج حتى أتفادى السقوط وكسر "المخروقة" لا محالة، علماً بأن الانزلاق والسقوط في الحمام احتمالاته كثيرة، ونتائجه خطيرة وقد تؤدى أحياناً الى الوفاة. وأيضاً أتفادى قيادة السيارة بقدر الإمكان، واذا اضطررت لذلك فلا أبارح السير في الحارة الوسطى من الطريق قيد أنملة، كما أن سرعة السيارة لا تتجاوز الثمانين كيلومتراً في الساعة حتى أأمن شر المسرعين أصحاب الحوادث والسوابق. كما أواظب على فحوصاتي الطبية العامة كل شهر حتى أطمئن على الصحة ثم أصرف أدوية الفايتمينات الوقائية لكي لا يداهمني المرض على حين غرة. وبالمناسبة المنازل التي نعيش فيها جل أوقاتنا، فيها مخاطر جمة مثل الكهرباء والبوتجاز والحرائق والانفجارات والأدوات الكهربائية والمياه المغلية والغاز الخ. ولذلك تجدني أتجنب المعدات والأدوات المنزلية ولا أحاول تشغيلها أو إصلاحها لمخاطرها، وللسلامة أترك العيش لخبازيه كما يقولون، عكس صديقي واخى عبدالمجيد كنينه، حفظه الله، الذى يعشق ذلك ويتمنى أن تتلف الأدوات حتى يمارس هواية الاصلاح التي لا تخلو من خطورة، فأحياناً أراه متسلقاً فوق سطح منزله منهمكاً في تبديل مضخة المياه، ومرة من المرات رأيته وقد أخرج "مصارين" غسالة الملابس الكهربائية لإصلاحها، وكثيراً ما أراه ممداً تحت سياراته يبدل الجيربوكس أو الماكينة وأحياناً "بدلاً من أن يكحّلها يعمّيها" فتسخر منه زوجته الفاضلة، فتقوم المعارك الكلامية بينهما في كل مرة. بيد أنه لتطبيق نظرية إدارة المخاطر تطبيقاً فعالاً لابد من وجود بيئة صالحة، وأقصد بذلك أن تكون البلد التي تعيش فيها متحضّرة ومكتملة الأنظمة والبنيات التحتية من رصف للطرق ومباني حديثة وشبكة صرف صحي مكتملة وصحة وتعليم وشرطة ودفاع مدني وقضاء وأنظمة حكومية ومؤسسات عقابية واصلاحية وقوانين ولوائح منظمة ووعي تأميني الخ.... فبدون ذلك تكون نظريات ادارة المخاطر حبراً على ورق ونتيجة لذلك تكثر المخاطر على المنشآت والافراد على حد سواء وحين تبقى بدون إدارة مخاطر فعالة تضعف المنشآت ويعجز الانسان أو يفنى. هناك بلاد كثيرة من دول العالم الثالث غير صالحة البيئة لتطبيق نظرية إدارة المخاطر على مستوى المنشآت والأفراد. فاذا أخذنا السودان مثلاً، فأين البنيات التحتية؟ لا توجد طرق مرصوفة وذات إرشادات مرورية والقلة المرصوفة غاصت في التراب...أين شبكة الصرف الصحي في أرقى أحياء الخرطوم، الرياضالطائف المعمورة ! ماذا عن الكهرباء اليوم وبعد أن هلّلنا للسدود ! ...أين الخدمات الصحية؟ هناك الآن معركة ما تزال رحاها تدور – هل يبقى مستشفى الخرطوم، وعلى علاته، أم لا يبقى! المؤسسات الحكومية والخدمة المدنية استشرى فيها الفساد ولا حياة لمن تنادى...أين مشروع الجزيرة العملاق؟ ..أين الخطوط الجوية السودانية؟ حتى خطوطه قد تم بيعها... وأين الخطوط البحرية السودانية؟.. أين الإنسان السودانى الأصيل؟ انه محبط ويائس تماماً بما يدور من حوله وأين...؟ و واين...؟ وقد كتب الأخ الكاتب الكبير جعفر عباس(أبوالجعافر) بالأمس في صحيفة الوطن: أنه يفكر في الاستقرار في السودان بعد 30 سنة غربة وشجن إلا أنه كلما يزور السودان يجده رجع الى الوراء عشر سنوات في كل زيارة فيغير رأيه وينقلب راجعاً الى حيث يغترب. أنا أختلف في هذا الرأي مع الأخ جعفر لأن السودان قبل أكثر من خمسين سنه كان قطعاً أحسن من اليوم بكثير في كل شيء، وهذه حقيقة لا يتناطح فيها عنزان، وبالتالي لو كان السودان راجع للوراء، كما يرى الأخ جعفر، لكان في وضع أحسن، لكن يبدو أنه "زاغ" أو ضل سواء السبيل الى جهة ما غير معلومة !! فكل ما عدّدته بإيجاز شديد أعلاه هي أساسيات غير موجودة في السودان والدول الأقل تقدماً لخلق البيئة الصالحة للقضاء على الأخطار أو تقليلها. فلذا نجد السودان مليء بالأخطار المحدقة به وعلى الشخص الذي يعيش أو يزور السودان أن يتوقع حصول مصيبة في أي لحظة مهما عمل من احتياطات وإدارة. وحتى أدعِّم هذا القول سوف أضرب لكم عدداً من الأمثلة لبعض الاحداث التي حصلت لي ولغيري إبّان وجودنا في السودان. الواقعة الأولى: كانت فيها مخاطر مركبة (Multiple) وحصلت قبل عدة سنوات حينما كان المغتربون جميعاً يعشقون حقائب السامسونايت المحمولة في اليد عند سفرهم الى السودان حتى ولو كانت فارغة أو فيها عدة حلاقة. في بدايتها حلقت بنا الطائرة الاثيوبية فوق سماء مطار الخرطوم ولم تتمكن من الهبوط في المدرج الذي كان قد غرق في مياه الامطار، وبعد عدة محاولات عادت الطائرة أدراجها الى مطار أديس (علماً بأن أمطار اثيوبيا غزيرة أكثر من أمطار السودان) حيث قضينا ليلتنا هناك ووصلنا الخرطوم مساء اليوم الثاني. في المنزل وجدنا التيار الكهربائي مقطوعاً منذ صباح ذلك اليوم وسرعان ما حلّ الظلام الذي أخاف منه فآثرتُ أن أقضي ليلتي في الغرفة خوفاً من مخاطر الظلام ثم حذراً من زوار الليل في الليلة الظلماء، ولم يخب ظني، وقالوا: "البخاف من المرفعين يطلع ليهوا المرفعين"، أيقظتني زوجتي بعد منتصف الليل بأن الحرامي أو اللص قد فتح الدولاب وحمل معه حقيبة المغتربين السامسونايت خاصتي وخرج للتو. ماذا أفعل مع هذا الخطر الثالث في أقل من 24 ساعة من وصولنا؟ هل أتّبع نظرية إدارة المخاطر كما تعودت وأواصل نومي حتى أكون في الجانب السليم؟ - كما فعل أحد حكمائنا الذى سوف أحكى لكم قصة حكمته في الواقعة الثانية - أم أركب الصعب لأفك أسر حقيبتي السامسونايت التي بها كل أغراضي من جوازات سفر وشيكات وأمانات؟ أمران أحلاهما مر! لكن بمجرد أن تذكرت جوازات السفر، وما أدراك ما جوازات السفر، قفزت من على السرير بطريقة تلقائية وانطلقت جارياً خلف اللص من غرفة الى غرفة ومن درج الى درج في جنح الظلام غير مكترثٍ بالمخاطر حيث كان أملى إما أن يرمى اللص حقيبتي أو أن ألحق به حينما يحاول أن يفتح باب الشارع الرئيسي لكنه كان أشطر منى وصاحب خبرة، فعندما دخل المنزل متسلقاً السور أول ما فعله فتح الباب الرئيسي من الداخل وتركه مفتوحاً على مصراعيه حتى يؤمِّن مخرجه وقد كان، فاللص أيضاً يدير المخاطر من وجهة نظره بكفاءة. ولذلك فشلت خطتي، الا أنه من حسن حظى اتجه يمنة نحو مبنى إحدى السفارات مقابل المنزل، فتنبه شرطي الحراسة بالسفارة ثم انضم الىَّ في الركض وراء اللص، ولما ضيّقنا عليه الخناق وأصبحنا قاب قوسين أو أدنى تسلق اللص سور الجيران محاولاً الاختفاء بدخول المنزل إلا أن الشرطي الشجاع أحسن التصرف وأطلق من بندقيته رصاصة في اتجاه رجليه لتعطيله إلا أن الرصاصة أخطأت هدفها وأصابته في مقتل نتيجة لقفزته، فسقط ميتاً في الحال للأسف الشديد،لأن اللص أيضاً هو ضحية مخاطر البطالة الاجتماعية والأمنية، وسهرنا ليلتها حتى الصباح في التحقيقات وإجراءات الشرطة. لكن المهم عادت إلىَّ حقيبتي السامسونايت كاملةً غير منقوصة بفضل الشرطي الشجاع. الغريب في الأمر أنني كنت أحضر جلسات محاكمة الشرطي طيلة سنتين شاهداً والتي انتهت للأسف بإدانته بالقتل الخطأ ومعاقبته بالسجن لمدة عامين مع الأشغال الشاقة. قلت لكم في البداية أنها مخاطر مركبة حيث كان سببها الأساسي قطع التيار الكهربائي الذي أدى الى الظلام ثم تبعتها سلسلة من الأخطار أدت إلى نهاية مأساوية. الواقعة الثانية: كلكم يعرف الرجل الحكيم والسياسي المحنك ورجل الخدمة المدنية المعروف طيب الذكر "داود عبداللطيف" رحمه الله. وتعرف الأجيال الجديدة ابنه الأكبر الأستاذ "أسامة داود"، رجل الأعمال المشهور وصاحب شركة "دال" ومؤسساتها الناجحة. ويحكى أن المرحوم داود كان نائماً في منزله ذات ليلة وبعد منتصف الليل اذا بزوجته الفاضلة المرحومة "ابنة العمدة داود" طيب الله ثراها تناديه: "يا داود الحرامي في البيت..." فالتفت اليها وبكل أدب جم رد عليها بمنطق قائلاً لها: "الحرامي قال عايزداود؟.." ثم واصل نومه، فسرح اللص في منزل المرحوم داود لكن لم يعثر على ما يسد رمقه وخرج بخفي حنين وما درى هذا الجاهل أن ذاك المنزل محروس بكل أدوات الحماية من أبواب محكمة وخزائن وأجراس انذار الخ... الشاهد من هذه الواقعة أن المرحوم داود أدار الخطر بحكمته المعهودة وسلِم هو وزوجته من أسلحة اللصوص ثم أن الرجل بعلمه وثقافته العالية وحنكته أدرك فن إدارة المخاطر وطبقها في حياته فى ستينيات القرن الماضي بالأساليب العلمية للوقاية من المخاطر فسلِمت مقتنياته الثمينة من خطر اللص الجاهل. وقطعاً هذا الفن والأسلوب الحضاري الذي ادار به حياته الشخصية طبقه في أعماله وشركاته منذ وقت مبكر فكانت من ضمن أسرار نجاحهم المضطرد. الواقعة الثالثة: أخرج بكم من عالم اللصوص الى عالم اَخر لكنه أكثر خطورة، ألا وهو عالم السيارات وحوادثها. الناس في الخرطوم الآن يعانون عناءً شديداً من قيادة السيارات وما صارت قيادة السيارة متعة مثل أيام زمان، فقد اكتظت الطرق بالسيارات ولا تخطيط للشوارع الجديدة ولا صيانة للقديمة ولا إشارات مرورية ولا حارات تقسم الشارع ولا أولويات والأهم لا فن ولا ذوق في القيادة بل فوضى ضاربةً بأطنابها فى كل الشوارع تؤدي في كثير من الأحيان إلى ما يُعرف بغضب (خناقات) المرور أو الطريق (Road rage). وفى هذا الخضم من المخاطر كنت راكباً في سيارة أحد أصدقائي قبل عدة سنوات وأثناء مرورنا بأحد الشوارع في الخرطوم وسط، لا أدرى إن كان رئيسياً أو فرعياً فليست هناك علامات ارشادية، دخلت فينا سيارة صالون وصدمتنا بجهة المقعد الأمامي الذى كنت أجلس عليه، وسرعان ما ترجل قائدها من السيارة، وكانت سيدة، قالت واضعة يديها في خصرها والغضب يعلو وجهها: الشارع حقي!.. ونزل صديقي من سيارته ومن الغيظ رد عليها: إشتريتهو بكم ؟..ثم قامت معركة كلامية بينهما وأنا داخل السيارة أتلوى من الألم حيث انكسرت ترقوتي من جهة اليمين إثر الاصطدام الذي كان متعمداً عقاباً لمشاركتنا شارعها دون استئذان! تخيل ذلك...! فمثل هذا الخطر المتعمد الذي لا يحصل إلا في السودان، لا يمكن التحسّب له وإدارته بل أصلاً لا يخطر على بال أحد أن هناك بشر وصلت بهم الحماقة والجهل أن يعرِّضوا حياتهم وممتلكاتهم، دعك عن الاخرين، الى خطر الموت والدمار بسبب أحقية المرور في شارع مغمور!! الواقعة الرابعة: هو فرح انقلب في لحظة الى كارثة. كنتُ حاضراً لمناسبة حفل زواج في فناء نادى فخم في وسط الخرطوم. ولما كان النادي مكتظاً بالرجال والنساء والأطفال وقفت قريباً من المدخل، وما هي الا دقائق من دخولي النادي لم أصدق ما رأته عيناي أمامي وكأنني أشاهد فيلماٌ سينمائياً. إذ رأيت العريس والعروس وحاشيتهما من أولاد وبنات قد سقطوا على الأرض ثم رأيت المسرح العالي بطوله وكراسيه وأضوائه أصبح ركاماً على الأرض فوقهم، فقد زاد الحمل عليه أثناء التصوير الجماعي وتدفق الأفواج للتهنئة في اَن واحد. ولسوء الحظ صادف أن أطلق عم العريس طلقة في الهواء من خرطوشه في اللحظة نفسها ابتهاجاً فدوى الصوت، فاختلط الحابل بالنابل وتعالت الأصوات والصراخ وعويل النساء والأطفال وجرى الى جهة اليمين من كانوا على جهة اليسار وجرى الى جهة اليسار من كانوا على جهة اليمين بحثاً عن مخرج الى مكان اَمن وصاروا كالمجانين. المخرج الوحيد ضاق بتخزين حاجيات المأكل والمشرب ثم بالعربة المزّينة التي حملت العريس والعروس، وتدافع الناس للهروب من هذا المخرج الضيق فسقط العشرات مغشياً عليهم. وحُمل العريس والعروس إلى المستشفى بدلاً من الفندق الذي حجزا فيه. إنها بحق كانت كارثة ومأساة، خففها الله، وقد تسببت فيها إدارة النادي التي لم تتحسب لمثل هكذا خطر، ولم تفكر في مخارج للطوارئ ولم تحدد مكاناً فسيحاً اَمناً للتجمع يتجه اليه الحضور في هذه الحالات، ولم تعيّن مرشدين أو مارشال لتوجيه وقيادة الناس، ولم تراع طريقة التخزين في المخرج الوحيد، ولم تتنبه للطريقة الآمنة لرصف الكراسي والعدد المناسب في المكان المناسب ولا طريقة شدّ المسرح ثم لم تتصل بإدارة الدفاع المدني لطلب المساعدة. واللوم أيضاً يقع في جزءٍ منه على المدعوين عموماً فهم يجهلون أبسط قواعد وإجراءات السلامة وكيفية التصرف في حالات الطوارئ كما أنهم يصطحبون معهم الأطفال في هذه المناسبات غير المناسبة لهم. وأذكر أنه عندما كتب رجل الأعمال المعروف المرحوم "محجوب محمد أحمد"، طيب الله ثراه، لأول مرة في السودان فى بداية السبعينات في بطاقة دعوة زواج ابنه الأكبر "رجاء عدم اصطحاب الأطفال" قامت الدنيا ولم تقعد في ذلك الزمان، لكن تبرهن الآن أن الرجل كانت نظرته ثاقبة وكان له إدراك وبُعد نظر للمخاطر قبل أكثر من خمسين عاماً، أما الآن فقد أصبح ذلك التحذير بعدم اصطحاب الأطفال في مثل هذه المناسبات شيئاً عادياً بل أمراً مطلوباً وكليشيه ثابت في بطاقات الدعوة.. الشاهد أن تلك الحادثة كانت درساً قاسياً لإدارة النادي لكن هل استوعبت إدارة هذا النادي وغيره من الأندية والصالات الكثيرة النتشرة الآن هذا الدرس؟ سؤال يحتاج إلى إجابة !لكن فيإعتقادى لا أظن ذلك. وقبل أن أختم مقالي هذا أورد الواقعة التالية – ففي السودان أتذكرون قصة الخواجة المنتدب من الأممالمتحدة الذي سأل مواطن سوداني: كم راتبك الشهري؟ فأجابه 100 جنيه ... فأردف سائلاً: كم ايجار منزلك شهرياً... فأجابه 120 جنيه... فتحّير الخواجة وسأله: كيف تعيش إذاً ؟ فأجابه: الله كريم. ثم سجل الخواجة إجابته فرحاً عله يطّبق نفس النظرية في دول فقيره مماثلة. فبكرم الله ورحمته ولطفه يعيش الناس وسط هذا الكم الهائل من المخاطر. هناك قصص وأحداث واقعية كثيرة بسبب نقص التوعية وثقافة السلامة ثم عدم التقيّد بوسائل السلامة وأساليب إدارة المخاطر على مستوى الفرد والمنشآت، لكنى سوف أكتفى بهذا القدر من الأمثلة حتى لا أطيل عليكم، ويبقى السؤال الذي بدأت به الموضوع، تاركاً لكم حرية التفكير والتحليل ثم الإجابة عليه – "هل يمكن تطبيق نظرية إدارة المخاطر في البلدان الأقل تقدماً – ذات المخاطر التي لا تخطر على البال ؟" [email protected]