بسم الله الرحمن الرحيم إرتبطت مدينة الجنينة دوماً فى الذاكرة .. بالخضرة والعطور والتمازج الفريد لسكان السودان بل وحتى آخرين من خارجه ..وإسم مدينة الجنينة يعنى أنها بقعة من الأرض ممرعة تزخر بأشجار الفاكهة والأزهار .. فى الإسبوع المنصرم أتاحت لى مفوضية أراضى دارفور فرصة السفر إلى المدينة الحدودية فى إطار شروع المفوضية فى تدشين مشروع جمع الأعراف والتقاليد المتعلقة بإستخدامات الأراضى .. المشروع يمثل إنزالاً للمادة (20) من إتفاق سلام دارفور – أبوجا إلى أرض الواقع, و كانت المفوضية قد نفذت الشق المتعلق بولاية شمال دارفور قبل شهر رمضان المعظم والآن بصدد التنفيذ فى ولاية غرب دارفور, على أن تلحق بهما ولاية جنوب دارفور فى مصطلح نوفمبر القادم. نزلنا فى مطار صبيرة الدولى .. وصبيرة من قيادات الإنقاذ من أبناء الجنينة إستشهد فى حرب الجنوب ولذا كرمت الحكومة ذكراه بإنشاء هذا المطار والذى لم يكتمل منه سوى المدرج وهو بحق مدرج عالمى ولكن البناء لم يبدأ بعد فى ملحقاته من مبانٍ مدنية.. بعدها إنتقلنا إلى داخل المدينة .. وأول ما لفت أنظارنا هو حالة الترقب والقلق فى عيون الناس .. وقد وجدنا تفسير لذلك بعد أن لاحظنا أن على بعد كل مائة أو مائتين متر داخل المدينة تقف عربة لاندكروز فى حالة تأهب قصوى .. على ظهرها مدفع دوشكا فى وضع إستعداد و جنود متجهمى الأسارير يدورون حولها ، وهى مشاهد تُوحى بأن ثمة رصاص على وشك الإنطلاق .. وأن معارك طاحنة ربما تندلع بين الفينة والأخرى .. وهذه حالة تدعو فعلاً إلى القلق .. لم نشهد طيلة فترة بقائنا إطلاقاً للنار ولكن التجهم الذى يسيطر على أجواء المدينة والوجود المكثف للمدرعات وسيارات اللاندكروز التى تحمل مدافع الدوشكا على متنها يمنح المتجول داخل المدينة إحساساً بعدم الأمان .. أما متى سينطلق الرصاص وعلى من سيُطلق فهذا ما لم نجد له إجابة؟ سألنا عدداً من المواطنين عن الأمر لكنهم لا يملكون خطاباً! كل الذى يعرفونه ويتحدثون عنه هو أن هناك خطراً مُحدقاً يتوقعونه فى أى لحظة. من زار مدينة الجنينة الآن يلعن السياسة والسياسيين، ومن نظر إلى المدينة وتفرس فى مبانى سكانها الذين هجروها وتنسم رائحة العراقة فيها .. لعنها مرةً أخرى .. وكيف أن التهميش والنسيان قد جعل منها مجرد مدينة تحكى عظمة تاريخ .. وأن فردوساً هنا قد أُضيع .. أى مشهد نظرت إليه فيها يصرخ بأعلى صوته يشكو من التهميش والنسيان.. تملك مدينة الجنينة طبيعة ساحرة وجو غاية فى الإعتدال ومستوى من التضاريس تؤهلها لأن تكون أجمل المدن إذا تم إيلائها بعضاً من الإهتمام .. ولكن من يفعل ذلك ؟ والحكومات التى تعاقبت على حكم البلاد منذ الإستقلال وحتى اليوم لاتنظر أبعد من حدود ممقرن النيلين من لاحظت أن منازل المواطنين بناؤها مكتمل ومنسق تُفصح عن من كانوا يقطنونها وعلى مستوى الثراء الذى كانوا يعيشون فيه .. سألت عنهم .. فأعطونى نبذةً مختصرة عن من ما كان هؤلاء ومن أين أتوا؟ وكيف كان حال النسيج الإجتماعى الذى دثرًّهم؟ وكيف هجروها بعد أن يئسوا من من أن تُقيم الحكومة مشاريع للتنمية تُحى الأمل فى نفوس ساكنى المدينة ؟ فضلاً عن إنعدام خدمات الكهرباء والمياه وفقر المستشفيات وإنعدام الطرق المسفلتة.. فالزائر لمدينة الجنينة يُدرك أنها مدينة تلاقحت فيها ثقافات عدة وأن هذه الثقافات بالضرورة تمثل أجناس أتت من مختلف جهات الدنيا لتخلق نموذجاً إجتماعياً متفرداً وحالةً رائعة من التعايش السلمى.. ومرة أخرى لعنت الساسة والسياسيين أسهموا فى فتق نسيج المدينة الإجتماعى وأجبروا ساكنى المدينة على، التى شهدت توليفة إجتماعية رائعة منهم، على هجرها إلى مناطق وبلدات أخرى .. أما من بقى منهم ففرقتهم إلى عرب وزرقة. وهو الباحث شمو إبراهيم شمو شاع الدين حدثنى ، الباحث شمو إبراهيم شمو ، أحد وجهاء المدينة عن تاريخ وحاضر مدينة الجنينة وعن سكانها الذين كانوا يقطنونها .. فقال لى أن الجنينة تم تأسيسها عام 1910م أسسها السلطان تاج الدين الملقب ب "أندوكة" وكانت عاصمة دار مساليت فى منطقة دار جيل التى وقعت فيها معركة دار جيل الشهيرة بين جيش سلطنة دار مساليت والجيش الفرنسى .. حيث هزم السلطان تاج الدين الجيش الفرنسى فى معركة "دروتى" وقتل قائد الحملة ، وقد آثار مقتله جنون دولة فرنسا فى ذلك الوقت .. على العموم كان منزل السلطان هو أول منزل شُيِّد فى منطقة الجنينة الحالية وكان ثانى منزل يبنى جوار منزل السلطان هو منزل السيد السنوسى النفَّار المهاجر الليبى والذى تربطه بالسلطان علاقة صداقة قوية بموجبها أسهم النفَّار فى كل المعارك التى خاضها صديقه السلطان .. وكان من المساهمين فى الخطط الحربية .. وكان السنوسي النفَّار قد هاجر من منطقة جالو بدولة ليبيا وكان يمارس التجارة بين ليبيا وغرب دارفور .. وهو من جلب شتول أشجار المنقة وزرعها فى منطقة الجنينة الحالية والتى بسببها سُميت المدينةبالجنينة .. وأخبرنى أيضاً أن النفَّار كان أمة بحالها وأتبعه من بعده إبنه مصطفى النفَّار الذى حافظ على موقع والده الإجتماعى والإقتصادى. سألت عن أسماء بعض الأسر التى كانت تسكن المدينة ، فعلمت أن سكانها كانوا خليطاً من أهل السودان ، فكان هناك من هم من وسط السودان وشماله مثل أسرة التنى ومن البنى حسين فى منطقة السريف آل تبن آدم وإبراهيم محمد نور ومن الهوارة آل صالح فضل المولى ومن الجزيرة آل شمو شاع الدين وإبراهيم حسن شمو الذى يُعد من أكبر التجار فى الغرب ومن البطاحين آل يوسف نجَّار ومن الشوام كان هناك آل جوزيف بدره وألياس عدى وآل حبيب وخليل شاشاتى .. وهناك من الوسط آل الدَّعاك ومن الفلاتة آل مصطفى البنا وآل تنقو وآل بيلو إضافة سكان الذين يمثلون القبائل المحلية كالمساليت والقبائل العربية والقمر والأرنقا إلى آخر توليفة سكان الجنينة الرائعة ، أرجو أن تدقق أخى القارئ فى هذه الأمثلة من أسماء الأسر لتدرك حجم تنوع النسيج الإجتماعى الذى كان ، ولتعرف حجم الخسارة الإجتماعية التى مُنى بها السودان بزواله ، وبمناسبة هذا الحديث كان لى شرف معرفة أسر عديدة من أهل الجنينة الذين رحلوا منها واتخذوا من الخرطوم سكناً ومستقراً ، جمعتنى بهم عدة مناسبات فلاحظت أنهم ينعمون بعلاقات ودودة ، فقد انتقلت معهم ثقافة مدينة الجنينة إلى العاصمة القومية ، فتراهم يتداعون إلى مناسباتهم وأفراحهم كأنهم لازلوا فى مدينة الجنينة ، وهو شعورٌ طيب يؤكد كيف كان النسيج الإجتماعى متماسك هناك وكيف نمت هذه العلاقات واستمر تأثيرها حتى بعد أن استقروا فى الخرطوم ، نأمل أن تنتبه الحكومات للأهمية الإستراتيجية لمثل هذه المدن وخاصة مدينة الجنينة التى يمكن أن تكون منطقة لإنتاج الكثير من المحاصيل ، كما أن وقوعها فى أقصى غرب السودان يرشحها لأن تكون ميناءً برياً يربط السودان بغرب أفريقيا ويمكن أن تقوم منطقة حرة كبرى تُتيح فرصاً للعمل لسكانها وتفتح أمامهم آفاقاً أكثر رحابةً و أملاً مشرقاً ، بدلاً من حياة الترقب والحذر والخوف من إنطلاق الرصاص فى أى لحظة . almotwakel mohammed [[email protected]]