(1) إن الوثيقة السرية المتداولة عن اجتماع اللجنة الأمنية والعسكرية تقليد بائس وسرقة غبية للخدعة الرائعة التي كان نفذتها أجهزة الأمن البريطانية ضد ألمانيا النازية في العام 1943. فيما اطلق عليه "عملية مينسميت"، أي "عملية اللحمة المفرومة"، أو إذا شئت "عملية الكُفتة"، ونحن في عيد الأضحى.. قصدت سلالة الإنقاذ خدع المعارضة. والسودانيين بصورة عامة. بصناعة الوثيقة، وتسريبها عمدا ليتم تصديقها على أنها محضر لاجتماع حقيقي. (2) بالتفكيك فبإجراء عمليات تفكيكية بسيطة لنص الوثيقة، توصلت بسهولة إلى أنه لم يكن هنالك أي اجتماع للجنة الأمنية العسكرية. ولا محضر. ولا خرق أمني. وأن الوثيقة كتبها شخص واحد في جهاز الأمن مثلا، بالاستعانة ببعض الأشخاص منهم من وردت أسماؤهم في الصفحة الأولى. ومن ثم تم تسريب الوثيقة بخدعة إضافية تضليلية أيضا. عبر أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة أمريكية. وعبر الأستاذ فتحي الضو. كلاهما من الذين يمقتون نظام الإنقاذ. وهنا نجد أن جهاز الأمن كان عبقريا. لابد أن نعترف لهم في هذه الجزئية المتعلقة بتنقيل الوثيقة وتسريبها وتوصيلها. فنجحت الخدعة. حين تم تصديق الكذبة. إلى أن أخضعتُها لمبضع التفكيك، بينما كانت تغالبني النعسة. فصحوت. وما لبثت الوثيقة الاحتيالية أن بدأت تفصح عن أسرارها وتنهار. بسرعة مذهلة. بسبب النقل غير الخلاق من قبل جهاز الأمن للعبة لعبوها البريطانيون زمان. فأقدم هنا الخطوط العريضة لبيان الخدعة. وأشجع القراء أن يقرأوا الوثيقة مجددا من خلال العدسة التي أقدمها لهم في هذا المقال القصير. أن الوثيقة السرية لم تكن محضر اجتماع، بل كانت بقلم كاتب فرد. وآمل أن أكتب عنها مقالا أطول في المستقبل القريب. (3) الخدعة البريطانية الرائعة ألخص الخدعة البريطانية التي سرقها جهاز الأمن السوداني وفشل في أن يخدع بها الجميع. بينما كان جهاز الفبركة البريطاني نجح قبل سبعين عاما في غش الألمان الما بيتغشوا! قصة عملية اللحمة المفرومة معروفة في الكتب والسينما والإنترنيت. لكن أفضل مرجع عنها هو كتاب نشرته جامعة أكسفورد في العام 2010 لدينيس سميث وعنوانه "الخداع الموتي: عملية اللَّحمة المفرومة" (بالدارجي). كنت قرأت هذا الكتاب في سياق دراستي عن "الخداع" في السلطة القضائية الفاسدة. وهي القراءة التي شكلت العدسة التي قرأت بها الوثيقة عن محضر الاجتماع الذي لم يتم أبدا. مثل اسم الفيلم عن العملية البريطانية، "الرجل الذي لم يكن هناك أبدا" تتلخص قصة عملية اللحمة المفرومة في أن جهاز الأمن البريطاني خطط ونفذ لتمرير معلومات مضللة استراتيجية إلى القادة العسكريين النازيين في العام 1943. فكتب المخططون البريطانيون المعلومات المضللة في وثيقة وضعوها في جيب البزة العسكرية لجثة رجل بريطاني عادي اسمه غليندوار مايكيل.كان أصلا مات بسم الفئران. وكانت العملية متخيلة بروعة، وتم تفعيلها بعبقرية، ونفذوها بجرأة غير عادية. كما يقول المؤلف. فقد كان هدف الحلفاء البريطانيين والأمريكيين هو غزو صقلية (وإيطاليا من شمال أفريقيا). فقرروا أن يخدعوا القادة النازيين بأن اليونان هي الهدف للغزو، وليس صقلية. لكي يسحب الألمان قواتهم من الهدف الحقيقي إلى الهدف الزائف. فتتم مباغتتهم في صقلية. فأرسل البريطانيون إلى الألمان الرسالة المضلِّلة مع الجثة. وكأن الجثة كانت لضابط بريطاني، العميد وليام مارتين، وكأنه كان مات غرقا وجرفته المياه إلى الشاطئ الاسباني، حيث توجد قوة ألمانية. فوجد الألمان الجثة المهترئة ملقاة على الشاطئ. وقرآوا الأوراق في جيب الضابط الغريق، وفيها القصة المضللة. وصدقوها. بالطبع بسبب أن البريطانيين الشداد اللضاد أضافوا حركات زيادة، مثل حركات عمر البشير لما طلع من المستشفى. والقصة معروفة في الثقافة العسكرية العالمية. لأنها من أروع قصص الخداع في الحرب والأكثرها إمتاعا، بسبب المكر الفظيع الذي اكتنفها والمتمثل في استخدام جثة لحمل الرسالة المضللة. فاستلف جهاز الفبركة في حكومة الإنقاذ هذه القصة، أو هو سرقها. وصمموا رسالة زائفة تتحدث عن خططهم، وسطوتهم، وهيمنتهم، ومعرفتهم التي تضارع معرفة رب العالمين بكل صغيرة وكبيرة. غرضهم ترويع شباب السودان ليصدقوا أنه لا يمكن هزيمة نظام عمر البشير. (4) تفكيك الوثيقة إن التفكيك لنص الوثيقة لكشف ترنحها ومواطن ضعفها وكذبها واحتيالها عملية معقدة وطويلة. لن أرهق بها القارئ. لكني أنبه القراء إلى ما سيعينهم على مواصلة التفكيك بالنظر في الآتي، وهم سيتوصلون إلى ذات النتيجة: أولا، الوثيقة صادرة من حكومة الإنقاذ. لم أسمع نفيا. بينما المعتاد عند كل مجرم يتم القبض عليه أنه ينكر مباشرة. فالإنقاذ بسكوتها تدعم الخدعة لتمر. ثانيا، الوثيقة تكذب عن نفسها حين تقول إنها المحضر لاجتماع الأربعة عشر شخصا من القادة الأمنيين والعسكريين والسياسيين في حكومة الإنقاذ. وفي تقديري، كتبها شخص واحد بالاستعانة بأشخاص من بين الأربعة عشر المذكورين أو بكل واحد منهم. فلاحظ الآتي: (ألف) كل واحد من الأربعة عشر إنقاذيا قدم محاضرة متسقة وكاملة. مما لا علاقة له بلغة الكلام في الاجتماعات. فلغة الكلام في الاجتماعات، بما فيها الاجتماعات الأمنية، مختلفة جذريا من اللغة المكتوبة. فيها المقاطعة، وطلب التوضيح، والإضافة المباشرة، والجمل الناقصة، والترتيب غير الصحيح أحيانا، والعبارات المجتزأة، و التكرار، وعدم الاتساق، ولها تركيبات لغوية نحوية مختلفة. بالمقارنة مع لغة الكتابة الإنشائية. وقد عرف الكاتب المخادع هذه النقطة ، فغطى عليها باستخدام اللغة العامية. لكنها لا تسعفه. فاللغة العامية يمكن كتابتها بالطبع كما نعرف. لكنها تختلف عن لغة الكلام في اجتماع. (باء) نجد أن القصص التي يرويها كل متحدث كاملة من بدايتها إلى نهايتها، بتفاصيلها الدقيقة. وكأن كل متحدث كان يخاطب أطفالا في المدرسة الابتدائية. وكأن السامعين الآخرين في "الاجتماع" ليست لهم أية معرفة سبقية بأية جزئية من القصة، وكأنهم تحت التدريب، وكأنهم يجتمعون للمرة الأولى. لأن القصص التي أوردوها لم تكن وليدة اجتماع باريس. بل أغلبها إن كانت صحيحة كانت ستكون معروفة لجميع أعضاء اللجنة فلا معنى لتكرارها في الاجتماع للجنة الأمنية والعسكرية التي تجتمع بانتظام. والتبيين لخبث نظام الإنقاذ عنده سبب. ليعطي الوثيقة مصداقية. فالذي فعله الكاتب المفبرك هو إعداد قائمة بالموضوعات. ومن ثم حبكها في قصة موجهة للمعارضة ودول الخليج، وأمريكا، والحركات المسلحة، وياسر عرمان، وهكذا. (جيم) مسألة شكلية لكنها تتمثل جزءا من نسق فيكون لها معنى قوي في إثبات الاحتيال. انظر ترتيب نصوص المتحدثين وهو يتسق مع الترتيب للأسماء في القائمة من تحت إلى فوق. فالكاتب بعد أن حدد الموضوعات والمتحدثين، وضع المتحدثين في قائمة. قم بدأ يكتب من تحت إلى فوق. بالترتيب الدقيق. وهذا لا يحدث في محاضر الاجتماعات. (دال) انظر للتركيبات للربط بين النصوص، وإلى وضع إيران في بداية النص دائما حين يتم ذكرها، وإلى العبارات الاستراتيجية في كل نص أن من الصعب يشيلونا، ونحن نعلم كل شيء، ونراقب كل واحد. إلخ. ... فالوثيقة تكذب عن نفسها. وأشجع القراء أن يقرأوها قراءة لصيقة. وسيعرفون زيفها. عشاري أحمد محمود خليل [email protected]