مقدمة . إستعرضنا في حلقات سابقة غزل وإفتتان الأستاذ عثمان ميرغني بديمقراطية إسرائيل . ولوكان الأستاذ عثمان ميرغني يقفل باب منزله عليه ، ويتدله في حب إسرائيل وديمقراطيتها ، لما إضطررننا لتدبيج هذه السلسلة من المقالات لتفنيد وتعرية مفاهيمه المغلوطة ، أو هكذا نزعم ، وإن كان بعضه أثماً . ولكنه ينفث أفكاره المسمومة في عموده المقرؤ في صحيفته الواسعة الإنتشار ( التيار ) ، وعلى شاشات التلفزيون ، مما دفعنا لمحاولة وقف تشويه المخيلة السودانية ، وضبط البوصلة ، وإعادة الأمور الفالتة إلى نصابها . وقطعاً لم يسمع الأستاذ عثمان ميرغني بمقولات مانديلا عن فلسطين ؟ قال مانديلا : إن حريتنا في جنوب افريقيا لن تكتمل إلا بحصول الفلسطينيين على حريتهم . ونستميح القارئ اللبيب في الرجوع إلى الأبجديات والمسلمات ، لأنه قد يكون من المفيد ، أحياناً ، فتح الأبواب المفتوحة ، وتنقيط الحروف المنقطة . ونبدأ من طقطق بتعريف الديمقراطية ، ونتفق على هذا التعريف العالمي الذي إبتدره آباء الديمقراطية في أثينا القديمة ، 4 قرون قبل ميلاد يسوع الناصرة ... ارسطو وإفلاطون ( المدينة الفاضلة ) وسقراط وديجون صاحب المصباح الشهير ! ثم نقارن هذا التعريف المعياري بما تجري ممارسته في إسرائيل ، لنرى هل يمكن أن نطلق على ما تتم ممارسته في إسرائيل ديمقراطية معيارية ، كما بشر بها افلاطون في مدينته الفاضلة ؟ تتوكأ الديمقراطية المعيارية الحقة ( ديمقراطية اثينا القديمة ) على عكازين : + العكاز الأول هو مبدأ حكم الأغلبية ، + العكاز الثاني والذي لا يقل أهمية عن العكاز الأول هو حماية حقوق الأقلية ، إن كانت أقلية دينية ، أو إثنية ، أو سياسية ، او طائفية ، او ثقافية ، أو ما رحم ربك . كل عكاز مكمل للآخر ، وبدونه يصير غير ذات قيمة أو جدوى . بدون هذين العكازين مع بعض في آن واحد ، تسقط الديمقراطية كما سقط الملك سليمان في زمن غابر عندما بدأت دابة الأرض تاكل من سآته . في كلمة كما في مية ، بدون هذين العكازين ، لا تُوجد ديمقراطية ولا يحزنون . لتوضيح الصورة ، دعنا ناخذ مثال لديمقراطية حقة أصلية ماركة اثينا تتوكأ على هذين العكازين في آن ، ومثال ثان لديمقراطية مخجوجة ماركة إسرائيل ، تتوكأ على عكاز واحد هو عكاز الأغلبية ولا تعترف بالعكاز الثاني ... عكاز حماية حقوق الأقلية . 2- الديمقراطية الحقة ماركة أثينا ؟ نزعم إن الديمقراطية المُمارسة في امريكا هي ديمقراطية تتوكأ على العكازين ، ديمقراطية تحترم حقوق الأقليات . دعنا نستعرض كمثال لتوضيح هذه المسالة ثلاثة قصص لثلاثة رواد للحقوق المدنية في امريكا : * اليزابيث إيكفورد ( 1957 ) ، طالبة في المرحلة الثانوية ؛ * روبي بريدجيز ( 1960 ) ، طفلة في مرحلة الأساس ؛ * جيمس ميريديث ( 1962 ) . طالب جامعي . 3- اليزابيث إيكفورد ( 1957 ) ! في سبتمبر 1957حكمت المحكمة العليا بحق الشابة السوداء اليزابيث إيكفورد ( 16سنة ) الدستوري في دخول مدرسة ثانوية مخصصة للبيض فقط في ولاية اركنساس ! رفض حاكم ولاية اركنساس تفعيل امر المحكمة ، وأيده في ذلك برلمان الولاية ، وتقريباً كل مواطني الولاية البيض العنصريين . ولكن الرئيس دوايت ايزنهاور أصر على حماية حق اليزابيث إيكفورد الدستوري ( الأقلية ) حسب قرار المحكمة العليا ، وارسل الجيش الفيدرالي لتفعيل قرار المحكمة ، ضد إرادة ( الأغلبية ) ، التي طالبت بسحل اليزابيث . برهن الرئيس ايزنهاور على معيارية الديمقراطية في امريكا التي تصون حقوق الأقلية ضد رغبات الأغلبية . ودخلت اليزابيث التاريخ . 4- روبي بريدجيز ( 1960 ) ! في مارس 1960 حمت الديمقراطية الامريكية المعيارية حق الطفلة السوداء روبي بريدجيز الدستوري ؛ ونجحت روبي في الدخول لمدرسة ابتدائية للبيض في نيوأورلينز مصحوبة بأربعة من الضباط العسكريين الفيدراليين لحمايتها من ( الأغلبية) . ودخلت روبي التاريخ . 5- جيمس ميريديث ( 1962 ) ! في عام 1962 ، حكمت المحكمة العليا بحق جيمس ميريديث في الإلتحاق بجامعة ميسيسيبي البيضاء . رغم غضب ( الأغلبية ) البيضاء الساحقة في الولاية وفي عموم امريكا ، أصدر الرئيس كينيدي أوامره للقوات العسكرية الفيدرالية بالتدخل لتنفيذ حكم المحكمة ، وإيقاف عنف الطلاب البيض ( الأغلبية ) ، حماية للحق الدستوري لجيمس الفرد الواحد ( الأقلية ) ! وفي 3 اكتوبر 1962 دخلت وحدات من الجيش الفيدرالي داخل جامعة ميسيسبي لتحمي حق جيمس الفرد ( الأقلية ) في الإستمرار في الجامعة ضد رغبة ( الغإلبية ) ! تجد الآن تمثال لجيمس ميريديث في مدخل جامعة ميسيسبي . 6- الديمقراطية المخجوجة ماركة المانيا النازية ؟ في عام 1934 ، صار ادولف هتلر ( الحزب النازي ) القائد ومستشار الرايخ ، بعد وفاة الرئيس هندنبرج ، وبعد إنتخابات ديمقراطية في عام 1932 . ولكن ديمقراطية النظام النازي كانت ديمقراطية إنتقائية تتوكأ على عكاز واحد هو عكاز حكم الأغلبية من الجنس الآري ، ولا تحترم حقوق الأقلية من الإثنيات الأخرى . بل على العكس ، أرسل النظام النازي 6 مليون مواطن ألماني من اليهود إلى أفران الغاز في محنة الهولوكست ، ومثلهم معهم من الغجر وباقي الأقليات الإثنية . لم يكن النظام النازي نظاماً ديمقراطياً ، بل كان حسب أسمه نظاماً نازياً ، رغم إنه جاء عن طريق إنتخابات ديمقراطية ، وكان يمثل إرادة ( الأغلبية ) . ولكنه لم يقدم أي حماية لحقوق الأقلية ؛ بل أباد الأقلية ، فإنتفت عنه صفة الديمقراطية ، وصار نظاماً نازياً يبعث على الإشمئزاز والتقزز والقرف . 7- الديمقراطية المخجوجة ماركة إسرائيل ؟ تحدث إنتخابات ديمقراطية في إسرائيل يشارك فيها كل المواطنون الأسرائيليون ، يهود وغيرهم . ولكن النظام المعمول به في إسرائيل نظام فاشي يتوكأ على عكاز واحد هو عكاز حكم الأغلبية للمواطنيين الإسرائيليين اليهود حصرياً . لا يحترم النظام في أسرائيل حقوق المواطنيين الأسرائيليين من غير اليهود من الأقليات العربية والمسيحية ( حوالي 20% من السكان ) ؟ المواطنون الإسرائيليون من غير اليهود مواطنون من الدرجة الثانية ، حقوقهم مهدرة في الدستور والقانون ، في العمل ، وملكية الأرض ، وفي التقاضي أمام المحاكم ، التي تحكم لصالح المواطن الإسرائيلي اليهودي حتى لوكان خصمه الإسرائيلي غير اليهودي ( العربي ) على حق . لا تجد مواطن إسرائيلي من أصل عربي او مسيحي في أي سفارة من سفارات إسرائيل . مُحرم على أي مواطن إسرائيلي من أصل عربي او مسيحي الإلتحاق بالجيش الإسرائيلي . بعض الشركات الخاصة ترفض تأجير الشقق للمواطنيين الإسرائيليين من غير اليهود . يستولي المستوطنون الأسرائيليون اليهود على أراضي المواطنيين الإسرائيليين العرب والمسيحيين بدعم من المحاكم الإسرئيلية حسب الدستور والقانون . وإذا حكمت محكمة لصالح المواطن الإسرائيلي غير اليهودي ضد المواطن الإسرائيلي اليهودي ، لا تنفذ الحكومة الحكم . إذن النظام المعمول به في إسرائيل نظام غير ديمقراطي لانه لا يقدم أي حماية لحقوق الأقليات ولا يعترف بدولة المواطنة ، كما قال بها آباء الديمقراطية المعيارية في اثينا القديمة . المواطنون الإسرائيليون خيار ( يهود ) وفقوس ( غير يهود ) ، حسب النظام المعمول به في إسرائيل . نحن هنا لا نتكلم عن الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة ؛ وإنما عن المواطنيين الإسرائيليين من أصل عربي ( عرب 1948 ) في داخل دولة إسرائيل ، الذين يكونون اكثر من 20% من سكان إسرائيل . للأسف لن يقرأ الأستاذ عثمان ميرغني هذه السطور ، وسوف يستمر في التغزل والإفتتان بالديمقراطية الإسرائيلية ؟ 8- الديمقراطية المخجوجة ماركة السودان ؟ الأغلبية المخجوجة الممثلة في الحكومة المخجوجة في السودان : + لا تحترم حق الأقليات الدينية في جنوب كردفان والنيل الأزرق ، وتصر على الهوية الأسلامية الحصرية للدولة ، لأن هذه هي رغبة الأغلبية . + لا تحترم حق الأقليات الأثنية في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق والشرق ، وتصر على الهوية العربية الحصرية للدولة ، لأن هذه هي رغبة الأغلبية . تعامى أهل الإنقاذ عن أن الديمقراطية مبنية على مبدأين ثانيهما الحفاظ على حقوق الأقليات رغم أنف الأغلبية المخجوجة الحاكمة . إذن لا ديمقراطية في السودان ، بل ديكتاتورية مخجوجة والواضح ما فاضح ؟