[email protected] لو قدر لي أن أكتب هذا العمود في أول هذا الشهر لجاء في غير هيئته الراهنة، لأن الكتابة عقب الاحتشاد بالمشهد تجئ معبرة عنه وناقله لمشاعر التدفق فيغلب عليها طابع الانفعال والغضب، لكن لطف الله فالكتابة عبر استدعاء المشهد تختلف كثيرًا عن الكتابة تحت تأثيره المباشر. أقر بأنني قد نسيت الموضوع تماماً. موضوع مطار الخرطوم، لكن الكاتب البصير الأستاذ حيدر المكاشفي أعادني لتلك الأجواء بما سطره حول مطار الخرطوم، هنالك كتاب أحرص على قراءتهم ولو فاتني ماكتبوه أعود لمدوناتهم لأطالع مافاتني بينهم حسن إسماعيل، وجمال علي حسن، وبالطبع الأستاذ حيدر المكاشفي. صاغ حيدر صورة ميلودرامية لمسلم من غرب أفريقيا كان يحمل زجاجة فارغة في هزيع الليل بمطار الخرطوم يبحث عن ماء يتطهر به، وتلك مهمة يجب أن يتصدى لها القائمون بأمر المطار لضمان طهارة كل جسد في مطار رسالي بتوفير الماء القراح لأنه ما من وسيلة للطهارة غير الماء، وحتى لو جوز (المعتزلة) طهارة (قطع الجمار) عن طريق التيمم فهذا أمر لايستأنسه الجسد وتتأفف منه الروح! على حد مشاهدة حيدر حام ذلك الأفريقي الذي تربطنا به آصرة الديانة الواحدة ونعمة الإسلام كل مواسير الحنفيات بمطار الخرطوم فلم يظفر (بحنفية شغالة) فاشترى زجاجة ماء قضى بها حاجته وتمتم برطين غير مفهوم لم يتبين حيدر معناه، لكنني أظن أنه قال : إن مطار الخرطوم أجبرنا على اتباع مذهب (الحنفية)!!. لا أدري عما إذا كان المسؤولون عن هذا المطار يحسون برعشة خجل حين يزورنا الأجانب أم أنهم يتبعون (المذهب الحنفي) فقد واجهت في غرة أكتوبر الماضي منذ الثانية صباحاً حتى الرابعة مشاهد لاتراها العين إلا في (الدلالة) أو (سوق الجمعة). أكوام قاذورات على مدخل بوابة المستقبلين، علب سجائر فارغة، وآثار تمباك (وعلب ببسي فاضي) ونثار تسالي، ونوى نبق، وعند مدخل الصالة قبالة بوابة الوصول كان يجلس رجل (يستاك بمسواك أراك) حتى الموظف الذي تستفسره عن وصول الرحلة يعبر بمفردات منبثقة عن هذا السوق فقد سألته هل وصلت الطائرة التركية؟ فأجابني: (جات قبيل والركاب مرقو شت) لكن بعد دقائق معدودة عرفت أن الطائرة تأخرت في اسطمبول وأنها الآن بين قيثارة الأرض العظيمة والسحب، وأن الركاب (شت عليهم) بمن فيهم زوجتي في العلو الواقع بين منزلتين!. بعد تيقني من أن زوجتي لاتزال مجاورة للسحاب سحبت كرسي بلاستيك وجلست قبالة الرجل الذي كان يستاك وفي تلك اللحظة بصق على صحيفة يومية سياسية مستقلة لم تعصمها صفاتها المدنية من البصاق العفوي غير القاصد الإساءة لها فكل شيء في هذه الباحة عفوي وغير مقصود! بعد أقل من عشر دقائق فرّغت إحدى شركات الطيران الخليجية غير التابعة (للأياتا) من جوفها بشرًا (بعراريق وبُقج) تدفقوا بعفوية على الصالة الضيقة فصرت أراقبهم حتى (مرقو شت) وصرت على هذا الحال حتى الرابعة صباحاً وسط النفايات والزجاج البلاستيكي الفارغ وصوت المايكروفون الذي يتفوه بعبارات إنجليزية ركيكة تتناسب تماماً مع هذا السوق الموغل في الشعبية. في الربع الأخير من الليل لمحت زوجتي خلف رجل يقود حقائبها بعربة تمشي في اتجاه الشرق وهي تقصد الشمال و (تتهوزز) مثل ركشة تركض في (دقداق) صافحت العربة قبل زوجتي لما تحمله من ملامح سريالية جديرة بالعناق رغم أنني بعد المرض أصبحت (لا أصافح)!. هذه مشاهد حية من صالة الوصول أنقلها مع (السواك) مباشرة لأولي أمر المطار عل تلك السلطات تعيد لمطارنا وسامته المدنية.