انقسم العالم إلى فسطاطين بشأن قرار المؤتمر العام لحزب المؤتمر الوطني بإعادة انتخاب الرئيس البشير رئيسا للحزب ومرشحا في انتخابات رئاسة الجمهورية، منهم من يري أن هذا الإختيار دليل جدية والتزام بمواصلة عملية الحوار الوطني وصولا للتسوية السلمية عن طريق الحوار والتفاوض السياسي، وفريق آخر يري أن إعادة الإنتخاب يمثل هزيمة لمشروع الإصلاح السياسي وأن الحزب الحاكم كشف عن حقيقة نواياه لكسب الوقت والتسويف في تقديم مستحقات التسوية السياسية.و بين هاتين الرؤيتين خرج فريق ثالث يري أن إعادة انتخاب الرئيس حتمية تاريخية لأنه القيادة الوحيدة التي تستطيع أن تقود عملية الإصلاح والتسوية السياسية الشاملة الي مبتغياتها النهائية،كما أنه سيغلق باب الجدل عن دور الجيش في معادلة السلطة والحكم في ظل المهددات الأمنية الراهنة، هذا فضلا عن كونه عاصما من قواصم التشرذم والإنشقاقات داخل الحزب الحاكم. يستطيل زعمي للتقرير أن ورقة الدكتور عطا البطحاني استاذ العلوم السياسية بجامعة الخرطوم عن (الحوار الوطني الوطني في السودان: التجارب التاريخية والتحديات الراهنة) والتي نشرها باللغة الإنجليزية عن مجموعة الديمقراطية أولا تعتبر اسهاما علميا مميزا في دراسة ظاهرة الحوار الوطني في السودان بتجلياته التاريخية وتحدياته الراهنة.يضاف اليها من حيث الجدية الورقة المنشورة للدكتور الواثق كمير (الي قوي التغيير:هل نعيد أختراع العجلة) صدرالدكتور عطا البطحاني ورقته بمقولة مارتن لوثر كينج وهي أن تحديات اللحظة الراهنة لا تدعوا للراحة والاستجمام والارتكان الي مهدئات التدرج بل لا بد الوفاء بمستحقات الوعد الديمقراطي. ولا شك أن هذا الاستشهاد يتميز بالنفحة الثورية المميزة لقائد الحقوق المدنية ولكنها تتناقض مع طرح الدكتور البطحاني نفسه في ذم التعجل لإنفاذ الحوار الوطني دون توفر شروط نجاحه. في تحليله لأسس نجاح تجارب الحوار الوطني السابقة في تاريخ السودان المعاصر يركز البطحاني علي شرعية تمثيل القضية والارتكاز علي قاعدة شعبية عريضة للتعبير عن تطلعاتها وقضاياها وشروطها للتسوية. ولعل العبارة المفتاحية في هذه الورقة هي أن اتفاقيات السلام يجب أن تكتب لإنصاف الضحايا وليس لإغراء النخبة. في سياق تحليله للعوامل المقعدة بالحوار تناول البطحاني أهمية توفر الإرادة السياسية حتي لا تتحول العملية السياسية الي محض تكتيك لكسب الوقت وتحسين شروط التفاوض،ولكن اللافت للنظر أنه في اطار تحليله لموقف اللاعبين السياسيين في عملية الحوار الوطني وصف المؤتمر الوطني بأنه احد معوقات التسوية السلمية لأنه من خلال تسنمه للسلطة لمدة ربع قرن ارتبطت به مصالح النخبة النيلية التي تتعارض مصلحتها مع أي تغيير شامل.وقال إن المؤتمر الوطني يخاف من أي تغيير راديكالي خوفا من فقدان السلطة وبالتالي الأمن الشخصي لقيادته ، واستشهد في هذا الصدد بالتحليل الذي اورده المبعوث الأمريكي السابق ليمان والباحث بمعهد السلام جون تيمن علي أن المؤتمر الوطني لن يقبل اي تسوية تهدد بقاءه في السلطة او تفكك بنيته السياسية ولإنجاح اي حوار لا بد من مخاطبة انشغالات أمن قيادته وحفظ مستقبله السياسي.وعضد البطحاني وجهة النظر هذه بمزاعم تآكل الطبقة الوسطي التي تمثل قاعدة الدعم الشعبي للحكومة بخروج مظاهرات سبتمبر وكذلك الإنشقاقات التي تمت في عضوية المؤتمر وبعض قيادته السابقة. إن مشاهد المؤتمر العام للحزب الحاكم والتي دعت الرئيس البشير الي وصفه بأنه حزب مخيف تتعارض مع ابجديات التحليل الذي صدر به البطحاني ورقته لأن عنصر الأمن الشخصي لقيادة الحزب ليست دافعا لأختيارات قواعد المؤتمر العام بل لم تعد عاملا مؤثرا في العملية السياسية داخل الحزب الحاكم،ولعل المنصفون يرون ان عامل التهديد الامني واستمرار الحرب هو العامل الأكثر تأثيرا مما يدفع بضرورة وجود الجيش في معادلة السلطة وهذا فضلا عن توفر قيادة كارزمية لها كسبها السياسي المشهود رغما عن قوة شعارات الإصلاح ومنطق التغيير. يبدو الدكتور عطا البطحاني شديد التأثر بمخرجات العملية السياسية التي افرزتتها اتفاقية السلام الشامل باعتبارها نموذجا حيا لقضية الحوار والتسوية السياسية، ويفرق البطحاني بين سلام يخاطب جذور الازمة والنزاع ويستجيب لتطلعات الضحايا وبين سلام تقرره النخب وفق مصلحتها السياسية. و يعول في هذا الصدد ما أسماه أبل ألير من قبل التمادي في نقض العهود المواثيق ويرد دكتور البطحاني حتي انفصال جنوب السودان عام 2011 الي نزعة نقض العهود والمواثيق في مسيرة السياسة السودانية وهو أفتراض فيه نظر واستدراكات. ويري البطحاني أن أنجح نماذج الحوار الوطني في تاريخ السودان هما أتفاقيتي السلام مع جنوب السودان عامي 1972 و 2005 حققتهما الشروط الوطنية للتراضي واللاعبون السياسيون وكذلك دور المجتمع الدولي. ولكن مقارنة تلك التجربة مع مسار التسوية والحوار الراهن فإن الشروط اختلفت ولم يعد للمجتمع الدولي رغبة في فرض شروط التسوية النهائية كما أن أطراف الصراع الداخلي أكثر ضعفا من تحقيق الإنتصار النهائي أما عبر الوسائل العسكرية أو التفاوض السياسي. يفرق الدكتور البطحاني بين الحوار السياسي الذي تم بتأثير القوي الداخلية وبين عملية التسوية السلمية التي قادتها القوي الخارجية. وفي رصده لمسار الحوار منذ عام 1956 حتي تاريخ اللحظة الراهنة يري أن أربع مؤتمرات تمت بقيادة القوي الداخلية مقابل أثني عشرة تسوية تمت بقيادة القوي الخارجية. ويفرق البطحاني بين حقبة التاريخ الوطني منذ المائدة المستديرة عام 1965 مرورا بأديس أبابا عام 1972 وكوكا دام 1986 وأتفاقية الميرغني قرنق 1988. وذلك مقارنة بأثني عشرة مؤتمرا وأتفاقية تمت في حقبة حكم الإنقاذ منذ عام 1989 حتي الوقت الراهن. وفي أطار دراسته لأهم العوامل التي ساهمت في انجاح الحوارات الوطنية في السابق قال إن توفر قاعدة من الشرعية والدعم الشعبي والإرادة السياسية، وكذلك ضعف حدة الإستقطاب والنزعة التكتيكية لتحقيق مكاسب جزئية عابرة وليس الموقف الإستراتيجي الكلي هي أساس نجاح التجارب السابقة. ولعل أهم العقبات التي تضعف من المردود الكلي للحوار الوطني حسب التجارب التاريخية في السودان تتمثل في انعدام حسن النية وغياب الإرادة السياسية لتحقيق تسوية سلمية شاملة واستخدام تكتيكات كسب الوقت علي أمل تحقيق أنتصار عسكري حاسم و نهائي، وكذلك عدم استصحاب الأغلبية الصامتة وحصر الحوار بين الحكومة والمجموعات المسلحة. وفي تقديري أن أهم نقطة أوردها دكتور البطحاني هي عدم توفر ضمانات سياسية وحياتية واقتصادية كافية للخاسرين من عملية التفاوض والتسوية السلمية، وكذلك غياب استراتيجية خروج آمن ضمن آليات التسوية السياسية والقانونية في أعقاب التوصل لتسوية سلمية لوقف الحرب والعنف. كما أشار في ورقته المتميزة الي انعدام محفزات استمرار عملية السلام وتغليب المصالح الشخصية للنخبة الحاكمة وتحويل أتفاق السلام الي إجرائيات لتقاسم السلطة مما يشكل عبئا أضافيا علي الميزانيات الضعيفة والتي تعاني أصلا من العجز. تتلخص الدروس والعبر المستفادة من التجارب التاريخية السابقة في عملية الحوار الوطني والتسويات السلمية حسب استدراكات البطحاني في شمولية عملية التسوية السلمية، لأنها تحقق ديمومة أكثر رغم سلبية البطء والتعقيد، هذا اضافة الي صعوبة توحيد موقف الحركات والاحزاب السياسية. من الدروس الأخري أيضا الإرتهان الي ضيق مفهوم السلام وحصره في انهاء الحرب القائمة وتجاوز حل بقية المشاكل والصراعات المسلحة الأخري الموازية. كما اشار أيضا الي أهمية بناء السلام واعطاء دور أكبر للإعلام للقيام بعملية التوعية والتنوير ونشر المعلومات والحوار المفتوح وكذلك الإهتمام بمستحقات السلام خاصة الإصلاح الأمني والعسكري. سبق وان ذكرت ان المنهج التحليلي للدكتور البطحاني في ورقته الموسومة يستظهر شيئا من التأثر بأساليب التسوية والحوار مع القوي السياسية والحركات العسكرية في جنوب السودان منذ مؤتمر المائدة المستديرة عام 1965. ولعل ديناميكيات الحوار والتسوية لقضية جنوب السودان عبر الحقب التاريخية المتعددة تختلف في تقديري أختلافا تاما مع مجريات الحوار الوطني الراهن لخصوصيتها التاريخية وحمولتها السياسية النوعية وللإهتمام الدولي المتعاظم بالقضية التي اسهمت في التعريف بهوية السودان وصورته أمام العالم. عليه رغم عمق الورقة في رصد وسرد عمليات الحوار والتسوية التاريخية في السودان وما اعتراها من خلل واخطاء وما يمكن استدراكه من عبر و دروس لا ينطبق وقع الحافر علي الحافر علي مسار التسوية والحوار الوطني الراهن. حسب الأدبيات المنشورة لقادة ومثقفي الحركة الشعبية في السابق ومانفستو الحركة السياسي فهي كانت تسعي لإعادة تشكيل السودان لأن هويته وتركيبته الراهنة حسب زعمهم لا تمثل الواقع التاريخي والتنوع المعاصر للسودان الذي ظلت تتحكم فيه النخبة النيلية وصبغت بالجبر والإكراه أفكارها وقناعاتها هوية قسرية علي عموم أهل السودان. لذا وضع زعيم الحركة الشعبية الراحل جون قرنق تحقيق السودان الجديد شرطا لازما لإختيار الوحدة الطوعية بين شطري البلدين آنذاك. وحسب إفادات الدكتور منصور خالد وقتها فإن السودان يجب أن يستعد ليحكمه جنوبي من خارج دائرة النخبة النيلية. وهي ذات المقولة التي رددها ياسر عرمان مؤخرا في مؤتمر هيرمانسبورغ في ألمانيا محفزا أهل الوسط النيلي بأن لا يخافوا من حكم زعماء الهامش. لا بد من تقريظ الجهد العلمي المميز للدكتور عطا البطحاني في الورقة مثار النقاش رغم اختلاف وجهات النظر وهو بلا شك من أبرز المثقفين في حقل تخصصه الأكاديمي وفضاء الشأن العام في السودان، وظل يصدر دراساته وأوراقه العلمية المتميزة والعميقة في مراكز البحوث والمؤتمرات الدولية المتخصصة باللغة الإنجليزية، وهكذا ظلت بحوثه ودراساته متداولة في حيز ضيق من أيدي النخب المتخصصة داخل وخارج السودان، وبذلك فقد ضن بإسهامات فكره وتنوير عقله علي أروقة الجدل العام في السودان، وقد استدرك علي بعض ذلك القصور بترجمة ونشر أوراقه العلمية في كتاب صدر باللغة العربية قبل عامين في قضايا الشأن العام في السودان. وهو ما يزال ضنينا بإطلالة شافية في الإعلام وبمشاركات مفتوحة في الندوات العامة، أو بكتابات طازجة في الصحف السيارة.