حول رواية الأديب جمال محمد إبراهيم: محمد آدم عثمان- سيئول - كوريا الجنوبية كنت هنا ، في مهجري الكوري البعيد، على موعد جديد مع الدهشة،عندما وصلني مظروف يحتوي على الرواية الأخيرة للأديب جمال محمد إبراهيم، سفير السودان السابق في بيروت بعنوان "نقطة التلاشي"، وهي عبارة عن رواية من 144 صفحة صدرت عن دار الساقي في بيروت. كان ذلك بعد فترة من استمتاعي بديوان الشعر السابق للأديب المذكور بعنوان "امرأة البحر أنت "،وهو ديون شيق انفعلت به، وحلق بي في رحاب بعيدة ،ومن فرط إعجابي به قرأته عدة مرات، وكتبت حوله مقالا نشرته صحيفة الأحداث في وقت سابق ، تحت عنوان " سفير الجمال الذي زاده الوهج البيروتي جمالا". عندما سمعت بصدور رواية جديدة لنفس الكاتب، سعيت للحصول عليها ، ولكن دون حماس شديد أول الأمر ، لإحساس انتابني بأن الرواية قد تكون خصما على الديون الشيق، وأن جمال قد ينهج نهج كتابة الرواية بأسلوب الشعر،فتأتي مثل السجع أو القصيدة النثرية ، ذلك إني أعلم أن الشعر والرواية ،هما في أكثر الحالات ، مثل الضرتين اللتين يصعب الجمع بينهما تحت سقف واحد . صحيح أن هناك شعراء كتبوا أجمل الملاحم والمسرحيات في تاريخ البشرية مثل شكسبير ومثل صلاح عبد الصبور في رائعتيه "مأساة الحلاج" و" وبعد أن يموت الملك " ، ولكني لا استحضر في هذه اللحظة اسما لأديب فذ جمع بين الإبداع الشعري والإبداع الروائي ، فهما مثل مرج البحرين بينهما برزخ لا يمتزجان كثيرا في مجرى واحد . غير أني ، عند قراءة الرواية، نسيت تماما جمال الشاعر، الذي صار بالنسبة لي أثناء استغراقي في القراءة نسيا منسيا، و أثرا بعد عين ، فالرواية مكتوبة بأسلوب رشيق شفيف سلس ، يجعلك تحس بالكثير من الخدر والدغدغة والانتشاء وأنت تتجول بين سطورها ، وكأنك تترجل داخل حديقة فيحاء زاهرة أو بستان فيه ما لذّ وطاب من الأطايب . اللغة البديعة والرشيقة هي نقطة الإبهار الأولى في هذه الرواية ، وهي لغة تحسها تسري في أوصالك، وتتخلل مسامك وأنت تقرأ ، وتزرع في داخلك إحساسا عميقا بأن من البيان لسحرا . لغة لها قدرة خارقة على التصوير من خلال استعمال كل فنون وأسلحة وأدوات البلاغة من تورية وطباق وجناس ومحسنات بديعية وتشبيه. لغة لها قدرة عجيبة على الإيحاء والترميز والرسم بالكلمات لخلق لوحات زاهية بديعة وصور حية ونابضة. نجح جمال كذلك بشكل لافت للنظر في توظيف المونولوج الداخلي والحوار مع الذات لعكس الكثير من الصور والمواقف التي أراد إبرازها. المونولوج الداخلي كما استعمله جمال في تقديري كان من أهم نقاط الإبهار في الرواية ، وقد استعمله جمال بصورة فعالة حتى إنه كان يؤثر أحيانا، سلبا ، على ما يعقبه من حوار بحيث يبدو الحوار ضعيفا متكلفا مقارنة مع المونولوج المتدفق مثل شلال والمؤثر على القارئ الذي قد يحس بنوع من الانسجام وعدم الرغبة في الخروج من البستان الوارف للمونولوج لدهاليز الحوار الجاد. أستطيع أن أقول ، ودون إحساس بأي مبالغة أو مكابرة إن الرواية من ناحية سلاسة في اللغة وثراء في الألفاظ والمفردات وتسخيرها لإبراز الموقف ، وتوظيف المونولوج الداخلي لتوضيح الصور ، ورسم الأحداث من خلال الكلمات والألفاظ ، لا تقل عن أعظم الروايات التي قرأتها في العربية وعلى رأسها "موسم الهجرة للشمال " و "ثرثرة فوق النيل" . أقول ذلك من ناحية لغة وسلاسة في الأسلوب ، ولكن من ناحية بناء روائي ودرامي ، فإنني أعتقد أو أحس على الأقل أن الرواية كانت بحاجة لمزيد من التجويد و الإعداد والتوسع ،ولرؤية أشمل ، وتناول أعم .وربما كانت بحاجة لمزيد من اللحم والشحم والشخصيات الإضافية. فالموضوع الذي اختاره جمال لعمله الروائي الأول ، عمل صعب ومعقد ومتشعب ،وهو رصد وتسجيل لمرحلة دقيقة وحساسة بكل ما فيها من تداعيات وانعكاسات وتقاطعات ،حيث أن الرواية كانت تدور حول الفترة التي أعقبت زيارة الرئيس السادات للقدس وما أعقب ذلك من تفاوض وتطبيع مع العدو الإسرائيلي وانتقال الجامعة العربية من القاهرةلتونس ، وقد كان كل ذلك بالطبع نقطة تحول مفصلي هام في التاريخ العربي المعاصر ، نقطة بدأ فيها موروث سياسي واجتماعي ضخم في التغير وربما التلاشي، وبدأ فيها واقع جديد خطير مخيف في التشكل،والصورة كما حاول جمال رسمها في روايته لم تكن كلها كامب ديفيد والسادات وبيجن ، بل كان لها أبعاد أخرى ، منها ذلك البعد الذي هو بين المشرقين والمغربين ، عندما انتقلت الجامعة من قاهرة المعز بكل ما فيها من تاريخ عريق أصيل رأي البعض أنه بدأ في التشوه ،إلى تونس الخضراء ، وهي أيضا صاحبة موروث تاريخي تراثي لا يقل عراقة ، ولكنه ربما قد بدأ في التعرض، وقبل كامب ديفيد بسنوات طويلة، لتشويه من نوع آخر بفعل الفرنسة والتغريب حتى صارت تونس الخضراء عند البعض مثل خضراء الدمن.والأعجب من ذلك أن العرب عندما قرروا الهروب بجامعتهم من قاهرة السادات الذي يرونه ارتمى في أحضان إسرائيل لم يفروا بها إلا لتونس بورقيبة الذي كان قد دعا لما دعا له السادات قبل ثلاثة عقود حسوما، ومن هنا جاءت المفارقات التي لم تزد الأمر إلا تعقيدا. لهذا أقول إن الموضوع الذي اختاره جمال لروايته الأولى كان صعبا متشعبا رغم أن جمال حاول الاستعانة بتجربته الدبلوماسية ، كدبلوماسي في سفارة السودان في تونس في ذلك الوقت ،وبقدرته الخارقة على التوصيف والتوظيف اللغوي ،لرصد ونقل التجربة الصعبة. ومما جعل الأمور أصعب في تقديري، أن محور وجوهر الرواية وبطلها، هو الراوي ، وهو سوداني يعمل في الجامعة العربية ،وهو كما قال جمال بعظمة لسانه ،من عرب الأطراف ، الذين لا يمكن أن يكونوا جوهر ومحور قضية عربية مركزية تاريخية هامة لعرب المركز،من وجهة نظر عرب المركز على الأقل . كسوداني أقول إن من الصعب للسوداني، بتكوينه النفسي،وتشكيله الوجداني، أن يصلح لهذا الدور الذي كان محور قصة جمال ، ليس فقط بسبب رفض عرب المركز لتطاول عرب الأطراف، ولكن حتى بسبب معركتنا الذاتية مع أنفسنا ، وهي معركة محتدمة منذ زمن طويل بين الغابة والصحراء ، وبين ثقافة العروبة وعروبة الثقافة ،وبصور وأشكال مختلفة منها الخشن الجاف بين مغالاة أدعياء العروبة وشطط أعدائها ،ومنها اللطيف الذي يصوره جميل مبدع مرهف الحس مثل محمد المكي إبراهيم بذلك الشكل الخلاسي ، بعض العربي ، بعض الزنجي. ومما يزيد الطن بلة ،أن السودان في أيام كامب ديفيد ، كان قد اتخذ موقفا مؤيدا للموقف المصري ، ولكنه كان تأييدا خجولا حييا لم يدعم ولم يعزز الموقف المصري ، ولم يجد سوى الاستهجان والازدراء من أعداء مصر ، وهو الموقف الذي صوره وأشار له جمال في روايته بموقف الهرولة نحو الحمامات واللجوء لدورات المياه في أروقة الجامعة العربية ، عند التصويت على أي موضوع يخص مصر أو كامب ديفيد في ذلك الوقت، وأنا مثل جمال أعرف أن تلك كانت أياما صعبة ، فقد كنت أنا أيضا في ذلك الوقت عام 1978، دبلوماسيا في بعثة السودان الدائمة في الأممالمتحدة في نيويورك، وأذكر جيدا ، إننا عندما كنا نطلب التوجيهات من الخرطوم حول القرارات الخاصة بمصر وقتها ، كانت تجيء التعليمات صريحة لا مواربة فيها بالتغيب عن الجلسات أي الزوغان . أذكر مرة إنني كنت أحضر مع على سحلول ، مندوب السودان في الأممالمتحدة وقتها ، اجتماعا للمجموعة العربية في نيويورك لتدارس قرار حول كامب ديفيد ،وكان سحلول قوميا عربيا ملتزما، وناصريا يجاهر بناصريته، أسمى ابنه الأول ناصر ،وتشاجر مع زوجته عند قدوم مولودته الثانية أنثى لأنه أراد أن يسميها جمال . يومها قرر تحدي التعليمات وحضور الجلسة وعدم الهرولة للحمام ، ولكنه بالطبع ما كان يستطيع مخالفة التوجيهات الخاصة بالتصويت وإلا فقد وظيفته. عندما قرر رئيس الاجتماع طرح مشروع القرار على التصويت، طلب من المؤيدين رفع أياديهم فارتفعت أيادي كثيرة، واستفسر عن المعترضين فارتفعت يد مصر وحدها ،ثم سأل عن الممتنعين عن التصويت فارتفعت يدا مندوبي جيبوتي وسلطنة عمان. وهنا حدج الرئيس، سحلول بنظرة مستغربة وسأله عن موقفه فما كان منه إلا أن رد قائلا " سيدي الرئيس ألا ترى إنني لم أتمكن من حضور هذا الاجتماع ؟" ربما لمثل هذا السبب آثر جمال في روايته البديعة أن يكتفي بمجرد لمحات وظلال عابرة من الصورة، ليحفظ لروايته بهائها ورونقها الدبلوماسي الأنيق ، ويركز على الجانب الرومانسي، وتجاذبه بين فاطمته القاهرية ونجاته التونسية ،بكل ما لذلك من رمزية ، من خلال تلك اللغة الشفافة البراقة الزاهية دون أن يغوص في تفاصيل القضايا المتشعبة المعقدة التي كانت تفصل ما بين القاهرةوتونس يومها. ولكن رغم ذلك فقد حفلت الرواية بالكثير من الرموز والإيحاءات التي تعرض لها جمال من خلال العديد من الأحداث، والتي ربما تكون قد جسدت جانبا من شكل العلاقات والممارسات العربية السائدة ، مثل سعدون العراقي البعثي السخي الذي لا يبخل في العطاء باليد اليمنى، ولكنه لا يتردد في قبض الثمن مهما كان باهظا باليسرى ، والسفير عبد الله الصومالي الهامشي المهمش والمنغلق على ذاته رغم أنه مدير الإدارة العربية التي يفترض أن تكون القلب النابض للجامعة . تفوق جمال على نفسه وهو يبدأ العديد من فصول روايته مخاطبا تونس بعبارات من شكل " جئنا إليك يا تونس أم أنت التي جئت إلينا " ثم يستعمل ذلك مدخلا إما للحديث عن تاريخ وتراث تونس المقر الجديد للجامعة ، أو لوصف بعض أماكنها وتضاريسها ومعالمها التي تدور فيها الرواية. من أجمل نقاط الإبهار الأخرى في الرواية تلك النهاية السينمائية الفنانة التي وضعها جمال للرواية والتي فاجأتني ، وأجزم أنها قد فاجأت كل من قرأ الرواية، عندما شاهد الراوي ، وهو يتأهب للسفر ومغادرة تونس ، بسبب رغبته في العودة لفتاته ، التي لم تغب عن ذاكرة الوعي أو ذاكرة الحلم، فاطمة، تطأ قدماها أرض تونس ، سنديانة قادمة، تتخلل أنفاسها وشذى عطرها، ذلك الجدار الزجاجي السميك، وقد رسمها جمال بشكل سينمائي بديع. أتمنى أن تنال تلك الرواية بأسلوبها الساحر الأخاذ حظها من القراءة والانتشار والنقد ، وقد حزنت كثيرا وأنا أقرأ الرواية لوفاة الناقد المبدع رجاء النقاش، فرواية مثل "نقطة التلاشي " بكل ما فيها من نقاط إبهار وتوهج وبهرجة ، تحتاج لناقد في قامة رجاء النقاش،ليلفت إليها الأنظار، وهي ، مثل شقيقها الأكبر ، ديوان الشعر الشجي ، " امرأة البحر أنت " ، تستحق قراءة يستغرق فيها القارئ قبل أن يخرج وذاكرته " ملأى بالدرر والمرجان والقواقع والمحار وبينها جنية اصطادتها الذاكرة من مياه البحر". أقول بالصوت العالي والجهير وقبل أن يختنق صوتي إن "نقطة التلاشي " ، جنية يحلو معها السمر والعشق والمؤانسة ، " فمن يسمعني، من يسمعني ، من يسمعني".