زيادة الإنتاج الزراعى وحدها ليست كافية لتفادى حدوث المجاعة !! Ibrahim Kursany [[email protected]] لم نكد نفيق من هول الصدمة التى أحدثتها فى نفوسنا الأخبار المتواترة عن المجاعة التى تضرب أهلنا فى منطقتى الدندر و النيل الأزرق، و نتجاوز صداها الداوى، و نحلل أبعدها و آثارها الكارثية، بذهن مفتوح، حتى تواترت لنا الأنباء عن الإحتمال الوشيك لحدوث مجاعة أخرى فى جزء عزيز آخر من البلاد، وهو جنوب السودان. لم تحمل تلك الأنباء أجهزة القوى المعارضة لنظام الإنقاذ، أو منابرها الإعلامية " العميلة"، أو حتى أجهزة ومنابر "الطابور الخامس"، و إنما وردت إلينا تلك الأنباء من منابر أخرى، و أجهزة هيئات ليست لديها أدنى مصلحة فى "تشويه" صورة النظام الحاكم، وهى هيئة الأممالمتحدة. هل يمكن لعاقل، أيا كان إنتماؤه الفكرى أو السياسي، أن يشكك فى مصداقية تلك المنظمة حول موضع المجاعة بالذات، حتى و إن تم التشكيك فى العديد من مجالات أنشطتها الأخرى، بغض النظر عن الدولة المعنية بها؟ وهل يمكن لأى عاقل أن يظن، و إن بعض الظن إثم، بأن جميع دول العالم، المجتمعة تحت مظلة الأممالمتحدة، ليس لها من عمل تعمله، أو "شغلة" تملأ بها أوقات فراغها، سوى "إستهداف" نظام "التوجه الحضاري"؟ و لمذا تجمع شعوب العالم قاطبة على إستهدافه من الأساس؟ وقديما قال أهلنا الطيبون،"إتنين كان قالولك راسك مافى... أتبنو"!! بل هل يمكن لأي حكومة "عاقلة" فى الدنيا، أن تنتظر إعلان المجاعة، و الدعوة لإغاثة مواطنيها الذين يتضورون جوعا، من أي جهة غيرها ، سواء كانت تلك الجهة داخلية أو خارجية، ناهيك عن الأممالمتحدة نفسها؟ بل ما هى المهمة المركزية لأي حكومة، إن لم تكن توفير الأمن و الأمان لمواطنيها، وضمان سلامتهم الشخصية و البدنية، حتى و إن كانوا خارج حدودها السياسية، ناهيك عن توفير الغذاء و الرعاية الصحية لهم؟ أم أن هذه المهمة المركزية تقع خارج دائرة إهتمام الحكومة السنية؟ ام أنها تعتبرها من ترهات الدنيا الزائلة، ولا تتسم مع رسالة التأصيل، و إعادة صياغة الإنسان السوداني، التى تضعها فى أعلى سلم أولوياتها؟! ماذا يمكن القول عن حكومة ترى شعبها يموت من الجوع و المرض، أمام أعينها، وهي تزعم بأن جميع سياساتها التى أفضت الى هذا الوضع المأساوي، لم يكن القصد من تنفيذها سوى التقرب الى الله سبحانه و تعالى؟ بل ترى ماذا سيقولون لله سبحانه و تعالى، حينما يلتقونه يوم الحشر العظيم، مجردين من كل شئ من أعراض الدنيا الزائله، إلا ما كسبت أيديهم، حول المجاعات التى تفتك بأهلنا فى العديد من أطراف البلاد؟ لكن المفارقة الكبرى تكمن فى إنكار الحقائق الدامغة؟ كيف يمكن لأي إنسان سوي، أن يرى إنسانا يموت من الجوع أمام ناظريه، ثم يزعم أنه قد مات بداء الملاريا ، على سبيل المثال؟ فهل هنالك مثال للمكابرة أسطع من هذا؟ و قديما قيل، "الإختشو... ماتو"!! لكن الأنكى و الأمر من ذلك، هو أنه و بينما يستعد العالم بأجمعه، ممثلا فى الأممالمتحدة، بمختلف هيئاتها، ليهب لإنقاذ الغلابة و المساكين من المصير المحتوم، ألا وهو الموت جوعا، فى هذا الوقت بالذات تزعم الحكومة السنية، بأن ما يجرى فى تلك المناطق المنكوبة ليس سوى "فجوة غذائية"، يمكن "ردمها" من الموارد الذاتية !! ألا يحق لنا أن نتأمل جيدا،عند هذه النقطة، الحكمة المأثورة التى قالها أهلنا الطيبون، ألا وهى..."جو يساعدو فى دفن أبوهو... دسا المحافير" !! و هنا بالتحديد تكمن ثالثة الأثافى، كما يقولون. إننا نزعم بإستحالة "ردم" هذه "الفجوة الغذائية"، وفقا لمنطقهم، فى ظل علاقات الإنتاج و التوزيع الراهنه، و التى تشكل أساس التركيبة الإقتصادية و الإجتماعية لسودان التوجه الحضارى. هذا الزعم يستند الى حقيقة بسيطة، و هى أنه، من الصعوبة بمكان، إن لم يكن من المستحيل، توصيل المواد الغذائية الرئيسية، كالذرة على سبيل المثال،حتى و إن توفرت بما فيه الكفاية، الى مستحقيها فى ظل نظام التوزيع الراهن، و الذي يسيطر عليه سيطرة تامة، و يديره، عناصر الشريحة الطفيلية، المتنفذة بالكامل، ليس على نطاق التوزيع فقط، و إنما على الأجهزة المسؤولة عن التمويل و التوزيع بأجمعها. الدليل الدامغ على صحة زعمنا هذا، هو ما حدث أثناء المجاعة التى ضربت غرب السودان فى العام 1984. إن أحد الأسباب الأساسية التى أدت الى حدوث المجاعة، و تفاقمها فى إقليمي دارفور و كردفان، ليس ندرة الإنتاج الزراعى فى السودان فى ذلك العام، و إن حدث ذلك فى مناطق المجاعة، و إنما فى سوء توزيع ما توفر منه. إن انتاج الذرة فى مناطق إنتاجه التقليدية المطرية، كالقضارف و الدالى و المزموم، لم ينخفض مطلقا فى ذلك العام. إذن لماذا حدثت المجاعة ،فى بعض أجزاء البلاد، على الرغم من توفر الإنتاج الزراعى فى أجزاء أخرى منها؟ حدث ذلك ببساطة نتيجة للمضاربات التى مارستها الشريحة الطفيلية حول هذه السلعة الإستراتيجية، و التى يعتبر أمر توفيرها، مسألة حياة أو موت، بالنسبة لمعظم سكان السودان. ساروى لكم القصة بأكملها، حتى نبين دليلنا الدامغ لزعمنا. لقد قامت بعض البنوك بشراء الذرة من مناطق إنتاجه، بأسعار بخسة، ثم قامت بتخزينه فى مدينة كوستي، فى إنتظار الوقت المناسب، لبيعه بأضعاف سعر شرائه، فى الوقت المناسب. وقد سنحت لهم الفرصة، و حان ذلك الوقت، حينما تراءى لهم فى الأفق شبح المجاعة وهو يضرب بأهلنا فى دارفور و كردفان. حينها قامو بترحيل مخزونهم من الذرة صوب غرب السودان. لكن إرادة الله الغلابة حالت دون تحقيق الأرباح الخرافية التى كانوا يمنون بها النفس، وذلك لسببين. الأول هو سوء وبطء وسائل الترحيل، لأسباب مناخية و لوجستيه فى ذلك الوقت. أما السبب الثانى، وهو الأهم، هو عجزهم عن بيع معظم ما تم ترحيله للجوعى، ذلك أن أسعار البيع التى حددوها، جعلته يقع خارج دائرة القوة الشرائية لمعظم الفقراء و المسحوقين من أبناء و بنات تلك المناطق. لذلك فقد مات هؤلاء تحت أعين الشرائح و الفئات الطفيلية، دون أدنى شفقة أو رحمة، أو حتى رمشة جفن !! عندها تفتقت عبقرية شعبنا الأبى، و أطلق كنيته الشهيرة على تلك البنوك، وسماها ب"بنوك العيش" !! وهو ما فتح الطريق واسعا لتوزيع "عيش ريقان" على أؤلائك البؤساء، حتى تمنوا له من أعماق قلوبهم أن "يرزق" بحجة مبرورة! ما أرق قلوب " الكفار" ... و أغلظ قلوب بعض المسلمين... فى بعض الأحايين!! و حينما إنتصرت إرادة شعبنا الغلابة فى أبريل 1985، و أطاح بالحكم المايوى البغيض، فى إنتفاضة مشهودة، كان من أوائل ردود فعله على ذلك الظلم، هو تكسير الواجهات الرسمية ل"بنوك العيش"، بإعتبارها أحد أكبر رموز ظلم و فساد النظام البائد... فتأمل !! هذا ما كان من أمر هذه البنوك حينما كانت تجد الرعاية الكاملة من جهاز الدولة، فما بالك بممارستها سيئة الصيت وهى تسيطر عليه سيطرة كاملة، دون أدنى منازع؟! فهل يمكن لمثل هذا الجهاز أن يهب لنجدة الملهوف، أو لقنوات التوزيع تلك، أن تسمح بوصول الذرة لمستحقيها فى أطراف البلاد النائية التى تضربها المجاعة؟ إننى أشك فى ذلك، بل أكاد أجزم بإستحالته. إذ كيف سيتسنى لجهاز دولة قائم على مص دماء الشعوب بمساعدتها فى ذات الوقت؟ و كيف يمكن لشرائح طفيلية، تسيطر على قنوات التوزيع جميعها، أن تقوم بتوصيل الغذاء لمستحقيه، و هى ترضع من ثدي ذلك الجهاز الفاسد، و تجنى أربحاها الهائلة على حساب الغلابة و المساكين؟!! دلت هذه التجربة المريرة على أن الفساد، و سوء الإدارة، و خراب الذمم يمكن أن تكون سببا كافيا لحدوث المجاعة فى بعض الأطراف الطرفية من البلاد، على الرغم من توفر المخزون الغذائي فى أجزاء السودان الأخرى. نقول هذا لأنه غالبا ما يتم تحميل الظروف المناخية وزر حدوث "الفجوة الغذائية"، و هى فى ذلك بريئة براءة الذئب من دم إبن يعقوب!! ثم أليس من المضحك حقا، و بعد كل مآسي المجاعات تلك، أن تزعم أبواق النظام بأننا "نأكل مما نزرع"؟! على كل حال إننى أعتبر ذلك من رابع المستحيلات، إذا لم تتغير التركيبة السياسية- الإقتصادية الراهنة فى البلاد. الى أن يحدث ذلك كان الله فى عون شعبنا، وليس هنالك من مخرج من الموت جوعا، سوى بتصعيد الحملة العالمية لإغاثة شعبنا، و من فوق جميع المنابر المتاحة، بما فى ذلك منبر الأممالمتحدة. و كذلك إستنفار القوى الوطنية فى الداخل، لضمان وصول الدعم الخارجى لمستحقيه فى المناطق التى تأثرت بالمجاعة، بما فى ذلك جنوب البلاد. كما يجب أن لا يهدأ لنا بال إلا بعد نجاح "الحملة الوطنية لحماية شعبنا من الموت جوعا" ؟!