لم يعد سراً أن مليشيا التمرد السريع قد استشعرت الهزيمة النكراء علي المدي الطويل    جبريل: ملاعبنا تحولت إلى مقابر ومعتقلات    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    موعد مباراة الهلال والنصر في نهائي كأس الملك !    مسؤول أميركي يدعو بكين وموسكو لسيطرة البشر على السلاح النووي    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الخميس    عائشة الماجدي: (الحساب ولد)    تحرير الجزيرة (فك شفرة المليشيا!!)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الخميس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الخميس    ستغادر للمغرب من جدة والقاهرة وبورتسودان الخميس والجمع    تحديد زمان ومكان مباراتي صقور الجديان في تصفيات كاس العالم    السوداني هاني مختار يصل لمائة مساهمة تهديفية    شهود عيان يؤكدون عبور مئات السيارات للعاصمة أنجمينا قادمة من الكاميرون ومتجهة نحو غرب دارفور – فيديو    الغرب "يضغط" على الإمارات واحتمال فرض عقوبات عليها    وزارة الخارجية تنعي السفير عثمان درار    العقاد والمسيح والحب    شاهد بالفيديو.. حسناء السوشيال ميديا السودانية "لوشي" تغني أغنية الفنان محمد حماقي و "اللوايشة" يتغزلون فيها ويشبهونها بالممثلة المصرية ياسمين عبد العزيز    شاهد بالصورة والفيديو.. نجم "التيك توك" السوداني وأحد مناصري قوات الدعم السريع نادر الهلباوي يخطف الأضواء بمقطع مثير مع حسناء "هندية" فائقة الجمال    شاهد بالفيديو.. الناشط السوداني الشهير "الشكري": (كنت بحب واحدة قريبتنا تشبه لوشي لمن كانت سمحة لكن شميتها وكرهتها بسبب هذا الموقف)    محمد وداعة يكتب: الروس .. فى السودان    «الذكاء الاصطناعي» بصياغة أمريكية إماراتية!    مؤسس باينانس.. الملياردير «سي زي» يدخل التاريخ من بوابة السجن الأمريكي    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    "الجنائية الدولية" و"العدل الدولية".. ما الفرق بين المحكمتين؟    السودان..اعتقال"آدم إسحق"    لأول مرة منذ 10 أعوام.. اجتماع لجنة التعاون الاقتصادي بين الإمارات وإيران    فينيسيوس يقود ريال مدريد لتعادل ثمين أمام البايرن    أول حكم على ترامب في قضية "الممثلة الإباحية"    بعد اتهام أطباء بوفاته.. تقرير طبي يفجر مفاجأة عن مارادونا    الحراك الطلابي الأمريكي    تعويضاً لرجل سبّته امرأة.. 2000 درهم    أنشيلوتي: لا للانتقام.. وهذا رأيي في توخيل    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة خطاب الهامش ... بقلم: ناصر السيد النور
نشر في سودانيل يوم 15 - 11 - 2009

برز ما يعرف بالهامش والمركز كنتاج لبحث مضني إكتنف مساجلات المثقفين في محاولتهم لنزع هويات مفترضة محدّدة القسمات على واقع متراكب يتأبى على التصنيف وفق نزعات ترى رؤية ما تتمناه في سراب التاريخ متحققاً على خارطة تتنافر ثقافاته بتعدد مكوناته العرقية و الثقافية. ففي غمّار معترك التنظير لحوار يستوعب التركيبة الإثنية للسودان تداخلت الأماني والرؤى بين غابة وصحراء وعروبة و أفريقيانية، ولم يوفق الحوار في التوفيق بين مثالية الطرح وصدمة الواقع. فانتهى إلى إنتاج بلد تتنازعه هويات منقسمة على ذّاتها مما حدا بفرانسيس دينق عالم الاجتماع السوداني وأبرز مثقفيه على وصفها بصراع الرؤى. فبدأت المحاولات لقراءة وتفسِّير مسألة الهُوِيَّة - ليس على ما يبدو لبناء وطن؛ فالأرجح لتأكيد ذوات مسلوبة - والدور الذي تلعبه في إدارة الدولة وعلاقات المجتمع من خلال واقع الأزمات المركبة التي رافقت نشوء وتطور هذا الكيان الذي يشكل التعدّد أبرز سماته وأفدحها. فتعددت مسارات القراءة وتباينت رؤى التأويل بين سلطة السياسات الحاكمة بين مركزية لا تأبه إلا للمركز إلى فيدرالية شكلية تعمل بموجهات سيطرة المركز . ولم تفلح محاولات التنظير التي دشنتها مدرسة الغابة والصحراء انتهاءً بالكتاب الأسود إلا في تقديم شهادات متخيلة Imagined Statements في دولة لا تستقرأ معطياتها من واقع الجغرافي و الاقتصادي في علائقه الاستراتيجية في محيطها الإقليمي تمشياً مع مصالحها؛ بل من خيلاء الإنتماءات الجهوية. فالذي استعصى على الفهم ومن ثمّ التقدير الإستثناء الذي إقتصر على الواقع السوداني وثبات أوضاعه، أي يكن حجم المتغيرات التي تحدث من حوله دون مساس بجوهره الراسخ.
على مدى حقب الصرِّاع المتعاقب تعاظل الحوار بين مركز الدولة السودانية وهامشها و انتهى إلى صيغة تنازع ثقافي وسلطوي بين مركز وهامش شكلتهما جغرافية جهوية أفضت إلى واقع يتطور ضمن نسق ثقافي واجتماعي ويحدد شروط وجود كل من الطرفين. فالطرفان لا تنطبق عليهما شروط المماثلة من حيث التوازن إلا في حدود المقارنة التي تسمح بها القيِّم في سطح الإنتماءات والولاءات الرسمية، دون القدرة على تفاعل تقوده قوى ناعمة دون تدخل الدولة – طرف المركز- وهي مطالب بالكاد لا تجاوز أماني الساسة الذّين لا ترغبون في خسارة طرف. فبالتحول التأريخي قادت الصيغة المنتاقضة إلى انتاج خطابين، يعبّر أحدهما عن مركز افتراضي يوحي بهيمنة مطلقة وفق تصور مركزي استعلائيEthnocentric غذى رمزية الإنساق الثقافية التي تشكل تصوره نحو الآخر معززاً بقوة ناعمة مؤثرة (الهيمنة الثقافية)، وسلطة مادية ضاربة ووجود فيزيقي حاد في تمثله لمؤسسات الدولة و توظيفها. وفي الجانب الآخر خطاب مُتردِّد خَفيض الصوت والأثر تعوزه قوة التأثير المطلوب لإحداث أي تحول أو ترقي لمنسوبيه، فوفق العلاقة الفيزيائية، خطاب خاضع مُنقْاد مستجيب لتحدي القوة و شرطها الحضاري كما عبر أرنولد تونبيي، أو مغلوب يتبع الغالب بحسب فرضية ابن خلدون. فطالما أن النزاع يتفاعل ضمن حدود مؤسسة ذات طبيعة وظيفية (الدولة)؛ فإن النوع الذي يمكن أن توصف به الدولة السودانية، دولة تنطق بفصاحة عن وظيفة إحتكار العنف في نسختها الفلسفية وزادت عليها تعريفاً يجدر بالاعتراف به في حالة إحتكار الأقلية في وجود الأغلبية حيث تكاد تكون شرطاَ وجودياً تتقاسمه بمعايير العالم الثالث عدد من دوله.
لكن يبقى السؤال، ما الذي أطال من أمد صراع القوميات في السودان؟ فعلى نقيض الدول المشابهة لتركيبة السودان في العالم التي أمكنها تجاوز مثل هذا الواقع عبر خيارات متعددة على أقلها الصراع الدموي في حالة يوغسلافيا السابقة أو الاختيار التاريخي - جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق، أو فوضى الواقع وانهيار الدولة في الصومال بدويلاته المتناسلة. فمن حيث المحيط وحدود الإمكانات وتشابه التكوينات، فإن الحالة الصومالية (الصوملة) كادت أن تقترب من نموذج السودان، ولكن بقيت الدولة في السودان قائمة بفعل تناقضات الواقع السوداني وليس انسجامه في أدنى حدوده، فالشروط التي أوجدت حالة الدولةStateness لم تقد إلى تكوين إطار مقبول للدولة القومية Nation-State ؛ فبنية المجتمع قبلية في تحول دائم ( بداوة) تستنفر في إضطراد الأوابد Atavism القبلية المستوحشة أو القبائلية كما يطلق عليها الناقد السعودي عبد الله الغذامي، وهو مصطلح يوحي بدلالاته العنصرية الكثيفة. في إطار المركز أستقرت النظم القبلية واستوعبت آليات الدولة فتشكل خطاب المركز على خلفية تصورات القبيلة وهي بالضرورة منظومة محدودة التمدد ومغلقة على أفرادها، فحتى حين استطالت كأحزاب سياسية كإطار سياسي لاستعياب الأفراد ضمن نظم أحدث في منظوماته الطائفية، إنتهى الأمر بأن التي تحزّبتْ القبائل وليس الكيانات الاجتماعية برأي الدكتور حيدر إبراهيم. فأصبح المركز مغلقاً على من خارجه مهما تكن صلتهم بالدعاوى التي يستنسخها المركز كالإنتماء العروبي، مهما تبدت قَحَاحَة عناصره في الهامش وخلصت عن ملاقح وأخلاط المركز مما أوجد تهميشاً محدوداً غير محسوس ضمن محيطه. وفي واقع الأمر لا تعدو أن تكون تصورات لهويات تبتعد في الجغرافيا ولكنها توغل في تاريخ الروابط الغيبية لتُفسِّر هُجنْة المجموعات السودانية، لأن الفصل في بعض المنعطفات يتأسس على أساس الدين و اللغة، حين لا تصمد دعاوى المركز إثنياً.
الإطار السياسي بمكوناته الإدارية والوظيفية للدولة السودانية لا يسمح بتنامي الحس القومي ويحدُّ من نزعة الإنتماء إلى الولاءات الوطنية أو إلى روابط قومية تتماثل سماتها التأريخية والثقافية وصولاً إلى دولة المواطنة، فلا يؤمل من واقع ترسخت قيمه من واقع أضيق زواياه الاجتماعية أن يسمح بتفاعل اجتماعي يأخذ بإتجاه تحديد أولويات الدولة وخيارات الفرد إلا من خلال التفاعل الإثني، وليس من خلال مؤسسات يأمل الهامش في لمسها دون حواجزها العازلة. فهي الحالة التي ظل يحتج عليها الهامش على مستوى التمثيل السياسي في مناصب الدولة. و هنا يعتري خطابه ضعفاً مقيماً إذا جعل من مناصب الدولة هدفاً أسمى وعلاجاً سحرياً لأدوائه المستعصية على التأريخ. وهذا جزء من التعبير عن الحنق السياسي على خلفيات الإنتماءات العرقية، فلم تتطور الوسائل التشريعية في الدولة على الأخذ بمبدأ التمييز الإيجابي Positive Discrimination لإمتصاص وتمثيل الجماعات التي تعجز آليات الحكم عن إيصال صوتها المكتوم، كحالة الهند، على الرغم من أن الهامش هنا أغلبية! أغلبية لم تستنكف من أن تطلق على نفسها بالأغلبية المهمشة في بادرة غير مسبوقة للتعبير عن اليأس حين تختل موازين التقييم التي لا يجدي الحجم مهما ثقلت موازينه. فالمناصب ذات التمثيل السياسي السيادي قد تعطي الإحساس الموقوت بنزع الاعتراف وإشباعاً لرغائبه، ولكنها لا تغير من ثبات الرؤى الحاكمة على مدى أن تصبح واقعاً يتعاطاه الجميع. فمحاولة التعبير عن طريق المناصب تبدو محاولة عبثية لقيادة زمام مبادرة في محيط لا تسيطر على مفاصله كما تقتضيه قوانين القوة؛ بل وأصبحت المناصب أداة تستخدم لإسكات صوت الهامش. فأصبح المنصب يمنح ولكنه منزوع السِّحْر، بلا سلطات حقيقة، وحجة دامغة على عدالة المركز في توزيع الفرص.
على النقيض من ذلك في الهامش فإن تداعي الاحتراب القبلي بين مجموعات تأخر وجودها على التمثيل القومي، بفعل بنيتها الهشة العاجزة عن تصور فهم، أو التعاطي مع مصادر سياسية اقتصادية مبررّة بفعل المركز. فبدا أن خطاب الهامش قد أخفق في خلق تصور توافقي يسمح لجماعاته بأداء اجتماعي أفضل، ولا يتأتى هذا إلا بحشد اجتماعي ( على الأقل قبلياً) يتجاوز تكوينات الهامش نفسه الذي تكتنفه وتيرة تناقضات الهامش / المركز، أي استطاع المركز أن يخلق مركزاً وهامشاً في إطار الهامش إحتكاماً إلى مبدأ سياسي تليد: فرق تسد Divide and Rule. وهي بالتعبير السياسي دعم جماعة ضد أخرى مثلما يجري الحال في دارفور. فشل خطاب الهامش في فك الإرتباط بين المركز ومكونات الهامش المستلبة (الخلفيات العرقية) التي يرضى عنها المركز، بينما بقيت الجماعات الأخرى تحيى ضمن نسق بدائي مُنْحَطّ كحالة نكوص Regression اجتماعي استجابة إلى ضغط واقع السياسات التي يفرزها المركز، ولم يفلح خطاب الهامش في استخدام ضحايا الهامش إلا كعلامات دالة على سياسية العزل والإقصاء التي تمارس من قبل المركز، فإذا كان الهامش يسعى إلى تغيير المركز لا إلى تفسيره (وفق السياق الماركسي) أو هكذا عبرت البيانات التأسيسية لمجموعات الهامش السياسية، والتي تدور حول نصوص الدولة السودانية كأنها نصوص مقدسة! فلم تختلف برامجها السياسية المؤسسة بالإستثناء شروحات ظلامات التهميش التاريخي عن سائر برامج الأحزاب الأخرى. فإن أول ما يفتقده الهامش الجماعات المرجعية في تصوره للآخر قبل البدء في مغالبته ومنازعته في حقوق لا يراها المركز سوى نظم أوجدت لأجله؛ أي بمعنى إنه علة وجودها ويستحقها عن جدارة تنفي عن الآخر (الهامش) حق المطالبة بما لا يستحق. إلا أن خطاب الهامش لم يقف على الشرط الاجتماعي المرجعي في حشد المطالبة بالحقوق، وهو قدرته على تجاوز الصراعات التي تقوض أسسه الاجتماعية، وهو الأمر الذي تجاوزه المركز. فقد كتب ألكس دو فال مدير مجلس أبحاث العلوم الاجتماعية ببوسطن المهتم بالشأن السوداني حول فشل أزمة دارفور – رغم فداحتها - في إحداث تغيير يهز أركان النظام، مرجعاً ذلك إلى فشلها في تنظيم تظاهرات مدنية ذات مستوى أكبر كتلك التي أقتلعت كثيراً من نظم الحكم السابقة. فالخرطوم تخرج في مسيرات هادرة ضد تعليق مناقشة تقرير غولدستون في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، ولكن تستبعد تماماً حدوث ذلك لصالح دارفور، أو الجنوب على مدى سنوات حربه الطوال. الشاهد أن التظاهرات والهبات الشعبية ظلت قوة دافعة لاقتلاع أنظمة الحكم في السودان، فكان أن قدر للهامش أن تكون عناصره أدوات تستخدم في الصراع دون استحقاق المشاركة. فعقود تداول السلطة وبيروقراطيتها الإثنية ضمن مجموعة محددة الملامح، قد أبقت على أظلم مناحي التاريخ الاجتماعي وفي تجدد دائم للتَزِيّ بأدوات السلطة دون مساس بجوهر المفاهيم السائدة ورمزيتها الصادمة التي لا يتحرج المركز عن كشف سوءتها من حين لآخر، وهو الشعور الذي يرى من خلاله المركز الآخر، فأقصى مطلب للهامش تمثل في إعتذار لرد الاعتبار استدراكاً على علائق تاريخية مثخنة بالجراحات.
تكوينات الهامش السياسية و منظوماته الجهوية، أعترتها ثنائية خلقت إزدواجاً أحالها إلى حالة من التضاد لا توحي بخط سياسي قابلاً للحوار. فبإستثناء الجنوب لخصوصيته الثقافية، فإن التنظيمات الإقليمية كانت ضمن الخط الحزبي و الطائفي الذي انتظم مسار التطور السياسي و الاجتماعي في البلاد. فلا يمكن قراءة كيانات الهامش التي نهضت في خمسينيات و ستينيات القرن الفائت بمعزل عن المجموعات الريفية في مناطق نفوذ الأحزاب الطائفية الختمية و الانصار في الشرق و الغرب. شكلت هذه الدوائر المغلقة مصدراً لشرعية الأنظمة الديمقراطية حيث ظلت آلية ميكانيكية ذات قدرة ساحقة في تكوين الحكومات. فعضو الهامش المنتمى إلى أحزاب تحمل صفة القومية لديه ملجأ يجمح إليه عندما تنسد الطرق نجو المراكز العليا في الحزب الذي تنطوي على ثقافة المركز في التصنيف. و حين تقود طبيعة الحركة الهامش إلى موقع الحراك، يضطرد إلى الخروج على الحزب الذي لا يعبر عن طموحه، و من ثَّم سلطة المركز أي تكن نسختها ديمقراطية أو عسكرية. و لعل هذا ما يفسر سيل الحركات و الكيانات المنشقة عن الأحزاب التقليدية حتّى شكلت بعضها عبئاً زائداً غير مريح في عضوية أحزاب مقيدة بالحقِّ الجهوي.
ظل المركز على مدى عقود عصياً على الاختراق، متشدداً في مناجزته لدعاوى الهامش التي صبغها طابع احتجاجي حال دون تبلورها إلى رؤى مشروعات إقليمية حتَّى في حدود هامشها. فعادت أجندته تكرر وتجتر دعاوى المركز في نسختها المشوهة وتعمل في إنتاج خطابين: خطاب بموازة المركز ضد مكونات الهامش نفسه فأصبحت ضمن نطاق تنظيمي غير محسوم ذات أهداف غائمة، وعدم قدرة على قيام نظم سياسية تمتاز بالرقابة والتنظيم، وخطاب آخر يستجدي مكون الهامش ضد المركز يستحيل الإجماع حوله. فالمركز أبان عن قدرته في التفلت براغماتياً من عقال الانتماءات في مواجهة العالم في فضاءات الانتماءت الايدولوجية والسياسية، فطالما استدعى المركز خطاباً عروبياً بزعم مهددات الأفريقانية واستخدام هذه المهددات ضد مؤامرات الغرب لإعادة إستعمار أفريقيا وتدخلات الصهيونية. وهي السياسات التي أفلحت إلى حدٍ كبير في الحد من تحركات حركات الهامش في بعديها العربي والأفريقي.
في حواره مع جريدة رأي الشعب (29/10/2009) في رده لتبرير الحاجة من قيام مهرجان الضعين الثقافي تحدث المفكر الدكتور الوليد مادبو عن حالة الإستلاب التي تعتري الأشخاص الذين يوظفهم المركز، وهم بحاجة إلى علاج ثقافي، هكذا علاج ثقافي أمصاله تستخلص برأيه من التحدر التأريخي (حضارة الأندلس) والإحساس بالأصالة الصميمة لشعب دارفور؛ فالعلاج الموصوف هو نفسه واحد من خطابات الهامش ضد الهامش ما يجعله خطاباً غير مؤهل في دعواه. فإذا كان المركز (النيلي) قد تطور كما ذكر بالتجارة وكالةً في المتاجرة بالرق وقيام مشروعات اقتصادية إلا أن إقصاءه للهامش إنبنى على ذات الدعاوى، فالهوية المتصورة قادرة على انتاج نسخ تبرر الحق الدائم بالثقافة أو بالتاريخ وتحسمه بالعِرْق. فعروبة الأندلس المفقودة تستبعدها تصورات المركز وعروبته (بني العباس)، ولا ترى فيها سوى جماعات وافدة. إذاً يجدر بالمعالجة الثقافية أن تتوسل وسائل تستبعد المعالجات التي تزاوج بين خشونة الإنثروبولوجيا ونشوة الناستولجيا و هو منشأ الأزمة والبحث عن تكامل اجتماعي Social Integration يعيد تأهيل عناصره المتنافرة. فالمعالجة الثقافية تكشف عن إلتباس في التشخيص يغبش المعنى، وتذكر بمصطلح أكثر تقدماً وإن تكن قد شابته غِلْظة، التدخل الثقافي Cultural Intervention استخدمه البروفيسور أبو القاسم قور لفض النزاعات – القبلية بالطبع- كواحد من أدوات الإسهام الثقافي لتمثُّل العادات الفلكورية في البنية الثقافية لمكونات المجتمعات المحلية. ولكن يبدو من المبكر الحديث عن دلالات المصطلحات ووظيفتها كعلامة للتشخيص ومدخل إلى البحث وفرضية لقياس النتائج، فذاك شأن آخر. فالتحدر التاريخي القبلي من هويات تاريخية جعل بعض من مكونات الهامش أن تعيد إكتشاف أصولها في بحث دارويني لإيجاد صلة تربطهم بالمكون الأولي، فما من جماعة عرقية إلا ولها أصول مهاجرة إنسلت إلى السودان بعد هزيمة رهط فلان أو فرارها، ومن ثم اختلطت بالأعراق السودانية، بل وربما تخلت عن مكونها اللغوي ليحل محله لسان ذي عجمة. أي رهق يستنفد ما بقي من لجاجة الحوار. فالذي فشل على ما يبدو مشروع التنمية الإنسانية لتقيل عَثْرة إنسان المركز أو الهامش على السواء في التنمية و الاستقرار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.