ما أن أخطرني، عبر الهاتف، الصديق محمد الجزولي بنبأ زيارة شقيقه، الصديق حسن الجزولي، لمدينة برسبن الأسترالية، حيث يقيم ويعمل محمد، حتى فكرت – كما فكر أصدقاء آخرين وصديقات أخريات – في حثه له على زيارة ملبورن، حيث أقيم الى جانب عدد كبير من السودانيين والسودانيات. ثم فكرنا – نحن بعض أفراد من الجالية السودانية في مدينة ملبورن ممن تربطه بهم- بهنّ أواصر مختلفة – في أن نجعل لزيارته طعماً اجتماعيا وثقافيا عاما. فكانت فكرة أن نستضيفه في أمسية حوارية، التي مالبثت الصديقة تماضر محجوب، ذات الحساسية الاجتماعية الرحبة والذكية، أن أقترحت أن يكون طابعها تسامريا وليس نخبويا. وجد اقتراح تماضر منا ترحيبا وحماسا. ومن ثم غدا المفهوم التسامري أرضا أنشأت عليها حوارا امتد لبضع حلقات – حتى قبل وصول حسن الى ملبورن – عبر وسيط الاسكايب. من تلك الحلقات تمخطت معظم المحاور التي تناولها حديث حسن في "أمسية مسامرتنا" له في ملبورن. حاوره عادل القصاص * لنتعرف على جوانب أخرى في تجاربك الحياتية من ناحية العمل العام ومساهماتك وتأثيرها عليك؟!. + هنا إنتقلت لمستوى تاني من الوعي، وبحكم زخم نهاية سنوات الستينات ونحن على أعتاب الانتقال من مراحل الصبا الباكر إلى مراحل الشباب غض الآهاب إن صح الوصف، كانت تلك السنوات هي عز التصعيد الثوري والأممي في العالم، حيث تشهد مناطق واسعة انتفاضات وثورات جماهيرية وهبات عمالية، وانتظام جماهير واسع لشبيبة العالم خلف شعارات عزيزة تنادي بالسلام ورفض الحروب ونزع السلاح والدعوى بتحقيق العدالة والتقدم الاجتماعي، وكانت الأجواء العامة تطرح براحات الاشتراكية والمزيد من الديمقراطية والحريات العامة للشعوب والجماهير، وقطعاً تأثرنا بكل هذه الأجواء، وبعد مراحل الكشافة البرية في حقول المناشط الاجتماعية العامة، انتقلنا لدرجة أعلى تعرفنا فيها على المنظامت الشبابية المتعددة التي كانت تعج بها الحياة في العاصمة في تلك السنوات، حيث انتظمت في اتحاد الشباب السوداني، ومارست فيه نشاطاً اجتماعياً وسياسياً وثقافياً فتبوأت مناصب قيادية فيه ، وصقلت هواياتي في الكتابة والعمل الصحفي بأن أهلني ذلك مستقبلاً كي أتشرف برئاسة تحرير صحيفة اتحاد الشباب " الشبيبة " والتي كانت تصدر بصورة سرية، في سنوات 82 – 85 فترة الحكم العسكري الثاني والديكتورية المايوية، كما توفرت لي إمكانية المشاركة في مهرجانات شبيبية عالمية واجتماعات متعددة لمنظمته الدولية. وحصلت على منحة دراسية لكوبا أولاً لدراسة السينما وتم تعديلها لاحقاً للدراسة بهنغاريا بعد الانتفاضة وتعديل الدراسة للمجال الآدبي. * وماذا عن الانتماء الحزبي والنشاط السياسي الواسع؟!. + ما ذكرته لك من أنشطة على المستوى العام والخاص كان لابد له أن يترك أثره البين على وعينا، فتفتحت مداركنا السياسية والفكرية والتنظيمية، وتوسعت دوائر معارفنا المفاهيمية، فولجنا العمل السياسي الذي انتظمنا فيه منذ المرحلة الدراسية، وقطعاً إن الواقع المزري للحياة في دولة ضمن دول العالم الثالث، هو الذي يستفزك ويحرك فيك مناطق الادراك بأهمية المساهمة ولو بالقدر القليل في تغيير واقع أمتك المؤلم، سيما ونحن ضمن جيل لم يستمتع مطلقاً ببراحات الديمقراطية والحريات العامة، حيث أُجبرنا على العيش في ظل أنظمة قهرية عسكرية كفترة ديكتاتورية مايو والنميري طيلة 16 سنة!، ولكن إنتقم منه جيلنا بالمشاركة الواسعة في التحضير والاسهام في الانتفاضة العظيمة التي اقتلعت نظامه الباطش من جذوره والقت به في مزبلة التاريخ!. * مؤكد أنك تنطلق في حديثك هذا عن تجربة عشتها طويلاً خارج السودان وتستطيع تلمس الفوارق بين مجتمعات السودان وأهل تلك البلاد التي نمت مداركك أكثر وسط شعوبها التي تتنسم فضاء الديمقراطية والحريات العامة وصيانة حقوق الانسان الطبيعية؟!. + ظروف الدراسة أولاً واللجوء السياسي الإختياري الذي فُرض علينا حرمنا من العيش الطبيعي بالسودان، حياتي في أوربا نفسها سواء في بودابست العاصمة الهنغارية أو لندن ومدنها الأخرى ببريطانيا، فأنا لم آت إليها غازياً في عقر دارهم كمصطفى سعيد أو كمنتقم من التاريخ كما ذكرت في حوارات صحفية سابقة، ،، بل بتصالح تام مع نفسي وتاريخ أسلافي، إقتربت منهم قدر اقترابهم من قضايا التحضر وإعلاء قيم الحماية والدفاع عن حقوق الانسان ،، وما أزال احتفظ لهم بجمائلهم في أنهم آوونا وفتحوا لنا بيوتهم وقلوبهم وقاسمونا لقمة العيش والحماية القانونية والأخلاقية ونحن ندين لهم بكل ذلك ونحفظه لهم عن ظهر قلب. هذا إلى جانب أن معايشاتنا لمختلف هذه الشعوب وأنماط معيشتها أعطتنا إلماماً بسيطاً بالفروق الاجتماعية والاقتصادية وخلافها بين شعوبنا في السودان وتلك الشعوب المتقدمة في نمط حياتها وسبل كسب عيشها، وجعلنا نقترب من الأسباب التي تقعد بنا هنا بينما تؤهلهم للنمو هناك!. * بحكم تربيتنا غير المتوازنة ربما هم يتفوقون علينا في النظرة الشاملة لواقعية الكون وقدرتهم على تفسير ناموس حياتهم؟! + أتفق معك جداً، ودي واحدة من بلاوينا الأزلية!، معرفتي بريزم إيقاع الحياة الأوروبية وكيفية مسايرة ناموس الحياة ،، قربتني من معرفة كيفية إقتحامنا أسواق العمل الهامشية والكاجوال، في عدد من البلدان مما أهلنا لأن نشفى من أمراض التأفف والتعالي على الوظيفة فيما يتعلق بسبل كسب العيش الشريف ،، السودانيون بطبعهم ونتيجة التربية الغلط يتعالون على المهن الهامشية ،، يمكن أن يقبلوا بوظيفة كناس في أوروبا "تحت تحت" دون إلاعلان عنها، ولكنهم يتأففون منها في السودان ، نحن كسرنا القاعدة دي ،، إشتغلت في عدة مهن بتاعت كاجوال ( نظافة طرق+ غسيل عدة في مطاعم + نظافة عربات سكة حديد + عمال نظافة وترتيب في مصانع مياه غازية + عمال جني في مزارع التفاح والعنب في أوروبا، عمال نظافة تابعين لمجالس البلديات للمدارس والكليات والمباني الحكومية + مساعدي حلل وطهاة في بوفيهات ومطاعم وغيرها من المهن الهامشية،، والتي درجتنا وعرفتنا على مجتمعات ما كان يمكن أن تتوفر لنا ظروفاً وفرصاً لمعرفتهم عن قرب، من نواحي التعرف على الناس والعمال المرتبطين بمهن زي دي ،، أجواء وطبيعة العمل كانت بمثابة المطهر لنا من درن البرجوازي الصغير الذي يتأفف من إرتياد مثل هذه المهن ، وهو مفهوم غير سوي، نابع من غبن الطبقة الوسطى والبرجوازي الصغير الذي لا يخون طبقته نزولاً للارتباط بالطبقات العمالية أو الدنيا في قاع المجتمع! ،، باختصار أصبحت بحكم تكويني الطبقي العمالي أكثر قرباً من هذه الطبقة المجيدة ،، عشان كده أصبح ما عندنا قشة مرة ،، ولو فقدت وظيفتي الحالية لأي سبب من الأسباب وكانت حوجتي وحوجة أسرتي الصغيرة والكبيرة ماسة في سبيل تدبير لقمة العيش، فلن نتردد في طرق أبواب عمل قد يعتبرها البعض منا فيها "مهانة وتقليل من البريستيتج بتاع الواحد" لكين أنا ما ضمن الواحدين ديل، وقد تخلصت وللأبد من عقد إجتماعية زي دي. درجة إنو تعلمنا أن مهن زي دي تساعدك وتؤهلك للحصول على وظيفة ما إذا ما أدرجتها ضمن السيرة الذاتية تبعك عند التقديم للوظيفة ،، تزيد رصيدك عند هذه الشعوب، خلافاً لما هو متصور في نخاع التنشئة والتربية الخاطئة عندنا وما يعرف بوهم "المستوى" البخليك تتعالي وتتأفف من نوع مهن زي دي!.. ولذلك فأحرص دوماً على أن أدرج في كل تجديد للسيرة الذاتية تبعي، فأشير بفخر وإعزاز للمهن بتاعت الكاجوال اللي قمت بتأديتها!. وجنباً لجنب فقد عملت في مجال سبل كسب العيش وأنا في أوربا ،، كمراسل صحفي لعدد من الصحف السودانية والعربية ،، عملت محرر في الصحافة الهنغارية ( مجلة حواء المجرية) ، عملت سكرتير تحرير في مجلة صحارى التي أسستها إحدى كريمات الشاعر العراقي الجواهري ببودابست ،، عملت محرراً إقتصادياً في مجلة عربية لرجال الأعمال ،، تعاونت مع عدة صحف عربية بلندن ،، أصبحت سكرتيراً لتحرير صحيفة الفجر اللندنية والتي رأس تحريرها الصحفي المخضرم يحيي العوض وكان مدير تحريرها الصحفي الأكبر صديق محيسي، وزاملت فيها الصحفييين الراحل حسن ساتي والفاتح التيجاني إلى جانب د. عبد الله علي إبراهيم وغيرهم. ثم عملت ضمن تخصصي الأكاديمي موظافاً للتوثيق في المكتبة الجامعية التابعة لأكاديمية إستيفن سن كوليدج بأدنبرا. وحالياً صحفي ومحرر بجريدة الميدان والمشرف فيها على قسم المنوعات، ومتعاوناً مع عدد من الصحف المحلية والخليجية، متحصلاً على شهادة القيد الصحفي من اتحاد الصحفيين السودانيين. * ما الذي تلقيته أكاديمياً من هذه الشعوب؟!. + أصبح لدينا إلمام بسيط ومتواضع بعدد من اللغات كالهنغارية والانجيليزية وبعض العربية!. وتأهلت أكاديمياً فتحصلت على مؤهل علوم المكتبات ثم الماجستير في علوم التوثيق، والدراسات العليا في العلاقات الدولية ودبلوم علوم الصحافة من معهد أنتال جوزيف ببودابست. * حسناً لننتقل للمؤلفات + أصدرت بالقاهرة عام 1992 مجموعة قصصية مشتركة بعنوان (بوابة قوس قزح) مع الصديق القاص مصطفى مدثر. كتاب بعنوان (بيوت سيئة السمعة) وهو حول تجربة نقابي عمالي في سجون النميري وبيوت الأشباح، وهي التجربة التي سجلتها موثقة مع إفادات للشهيد علي الماحي السخي الذي إنتقل من بيوت الأشباح للندن لتلقي العلاج من آثار التعذيب في بيوت أشباح الانقاذ وما لبث أن قضى فترة بسيطة وتوفى إلى رحمته تعالى وبقيت مذكراته وصمة عار في جبين أؤلئك الذين نكلوا به وبزملائه داخل مراكز الحجز والاعتقال!. في العام 2007 صدر لي عن دار مدارك للنشر مؤلفي (عنف البادية) ،، وقائع الأيام الأخيرة في حياة عبد الخالق محجوب السكرتير السياسي للحزب الشيوعي السوداني. كما أصدرت لي دار هارامبي للنشر عام 2008 كتاباً بعنوان ( أرشفة الضحك ) 200 طرفة وملحة ذكية – الجزء الأول " وهو عبارة عن طرئف وحكايات سودانية حقيقية وغير مؤلفة في مختلف مناشط السودانيين" تحرير كتاب صدر عام 2012 عن أستاذنا الراحل التيجاني الطيب رئيس تحرير الميدان بعنوان (دفاتر الغياب والرحيل ) وهو عمل مشترك مع الأستاذة الصديقة إيمان عثمان سكرتيرة تحرير الميدان. دار مدارك للنشر عادت عام 2012 وأصدرت لي كتاب ( نور الشقايق،، السيدة فوز ،، هجعة في صفاتها ودارها وزمانها) ، تحرير كتاب سيرة غيرية عن القائد الشيوعي الجزولي سعيد بتقديم للأستاذة الجامعية الراحلة سعاد إبراهيم أحمد عنوانه (الجزولي سعيد ،، الثوري المهموم)، ولهذا الكتاب قصة مؤسفة ليس هذا مجال روايتها إلا في مناسبة لاحقة قريباً!. * يا ريت إضاءات سريعة عن عملك القادم؟!. بالمطبعة كتاب عن المطرب والرياضي الراحل وليم أندريا الذي أغتيل في احداث 2 يوليو 76، بعنوان أساسي ( زمن وليم أندريا) ،، وعنوان جانبي ( في تذكر غزال أسمر بنكهة نوستاليجيا السبعيات) مستعرضاً فيه سيرته الذاتية والتعريف به للأجيال التي لم تسمع به وبمأساته كونه مغني وقائد فرقة غنائية للجاز إضافة إلى أنه لاعب كرة سلة في الفريق القومي ، كل ذلك في أطار زخم السبعينات، وسيرى النور قريباً بتقديم من التشكيلي العالمي السوداني إبراهيم الصلحي. ثم عمل آخر بعنوان (الهجوم على حلة الشيوعيين) يوثق لواقعة حل الحزب الشيوعي السوداني والهجوم على دوره في العام 1965. * أي أعمال في حقول إبداعية أخرى؟!. + قمت بإعداد مادة علمية لصالح قناة أبوظبي الفضائية حول الأقليات المسلمة في جمهورية هنغاريا أخرجها إبراهيم الجزولي وتم بثها في شكل حلقات رمضانية منتصف عام 1995 كما شاركت في إعداد حلقات وسهرات تلفزيونية وإذاعية، وقدمت لي المخرجة المصرية السودانية مروة زين فيلماً سينمائياً قصيراً عن قصتي القصيرة (رائحة أمرأة) كما قدم لي المخرج المسرحي السماني لوال عملاً مسرحياً عن قصتي القصيرة (بوابة قوس قزح). __________ عن الصفحة الثقافية بصحيفة الرأي العام. [email protected]