شاهد بالصورة والفيديو.. عريس سوداني يحتفل بزواجه وسط أصدقائه داخل صالة الفرح بالإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالصورة والفيديو.. طفل سوداني غاضب يوجه رسالة للمغترين ويثير ضحكات المتابعين: (تعالوا بلدكم عشان تنجضوا)    شاهد بالصورة والفيديو.. عريس سوداني يحتفل بزواجه وسط أصدقائه داخل صالة الفرح بالإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    مخاطر جديدة لإدمان تيك توك    محمد وداعة يكتب: شيخ موسى .. و شيخ الامين    نقاشات السياسيين كلها على خلفية (إقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضاً)    خالد التيجاني النور يكتب: فعاليات باريس: وصفة لإنهاء الحرب، أم لإدارة الأزمة؟    قمة أبوجا لمكافحة الإرهاب.. البحث عن حلول أفريقية خارج الصندوق    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    إيران : ليس هناك أي خطط للرد على هجوم أصفهان    قطر.. الداخلية توضح 5 شروط لاستقدام عائلات المقيمين للزيارة    هل رضيت؟    الخال والسيرة الهلالية!    زيلينسكي: أوكرانيا والولايات المتحدة "بدأتا العمل على اتفاق أمني"    منى أبوزيد: هناك فرق.. من يجرؤ على الكلام..!    مصر ترفض اتهامات إسرائيلية "باطلة" بشأن الحدود وتؤكد موقفها    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    سعر الدرهم الإماراتي مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    ميسي يقود إنتر ميامي للفوز على ناشفيل    ضبط فتاة تروج للأعمال المنافية للآداب عبر أحد التطبيقات الإلكترونية    لجنة المنتخبات الوطنية تختار البرتغالي جواو موتا لتولي الإدارة الفنية للقطاعات السنية – صورة    بعد سرقته وتهريبه قبل أكثر من 3 عقود.. مصر تستعيد تمثال عمره 3400 عام للملك رمسيس الثاني    خلد للراحة الجمعة..منتخبنا يعود للتحضيرات بملعب مقر الشباب..استدعاء نجوم الهلال وبوغبا يعود بعد غياب    إجتماع ناجح للأمانة العامة لاتحاد كرة القدم مع لجنة المدربين والإدارة الفنية    المدهش هبة السماء لرياضة الوطن    نتنياهو: سنحارب من يفكر بمعاقبة جيشنا    كولر: أهدرنا الفوز في ملعب مازيمبي.. والحسم في القاهرة    إيران وإسرائيل.. من ربح ومن خسر؟    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    الأهلي يوقف الهزائم المصرية في معقل مازيمبي    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



جولة في منطقة "أبو حمد" (1) .. ترجمة: بدر الدين حامد الهاشمي
نشر في سودانيل يوم 24 - 12 - 2014


A Trek in Abu Hamed District - 1
H. C. Jackson هنري سيسيل جاكسون
مقدمة: هذه ترجمة مختصرة لمقال طويل عن منطقة "أبو حمد" (وسكانها من الرباطاب والمناصير) بقلم الإداري البريطاني هنري سيسيل جاكسون، والذي عمل في مجال الخدمة المدنية في السودان لأربعة وعشرين عاما متصلة، وحكم مديريتي بربر وحلفا، ولخص تجربته في الحكم والإدارة في عدد من المقالات والكتب والتي وصف في بعضها عادات السودانيين وأمثالهم في مختلف المديريات التي عمل فيها، وأرخ في بعضها الآخر لبعض الشخصيات السودانية مثل عثمان دقنة والزبير باشا رحمة. وقد سبق لنا ترجمة بعض مقتطفات من كتب ومقالات هذا الإداري الكاتب. ونشرت هذه القطعة (المدعمة بالصور والرسومات التوضيحية) بالعدد التاسع من مجلة "السودان في رسائل ومدونات" Sudan Notes and Records والصادر في عام 1926م.
المترجم
******** *********** ********
قد لا تكون جولة قصيرة في منطقة "أبو حمد" كافية للكاتب كي يسارع بنشر مقال عنها. غير أن هذه المنطقة غنية بشكل لا يصدق بالتاريخ والآثار، والتي لا يبدو أنها حظيت بأي نوع من التوثيق من قبل. وهذا ما قد يبرر كتابة هذه الملاحظات العابرة، والتي قد تصلح في المستقبل لتكون مرجعا لمزيد من الدراسات المعمقة عن المنطقة وأهلها.
ولقد قمت بزيارة تفقدية لمنطقتي الرباطاب والمناصير (واللتان تتبعان إداريا لإبي حمد) كان مبعثها الأساس هو استقصاء حقيقة التقارير التي وردت للحكومة عن حالة البؤس والفقر المدقع الذي يكابده سكان المنطقة. وبدأت أقدر تدريجيا وأنا أطوف في مختلف أرجاء المنطقة كم هي غنية بآثار حضارات قديمة مطمورة تحت الأرض. ولم يستطع عمد وشيوخ المنطقة فهم اهتمامي المتزايد بقطع الطوب المتهشم والفخار المتحطم والذي أعثر عليه في مناطقهم ولا يلقون هم له بالا، وقد لا يجده أفقر رباطابي أو منصوري مفيدا.
وكثيرا ما كان السكان - ومن باب الاحترام لوقت راحتي عند الظهيرة- لا يخبروني عن أطلال أو آثار قريبة من معسكري قد لا تبعد أكثر من ميل أو ميلين. وأزعجني بعض الشيء جهل السكان المطبق وعدم اهتمامهم بما لديهم من آثار وتحف قديمة. ولهذا السبب لم أحصل على كل ما كان من الممكن أن أحصل عليه في جولتي التفقدية إن تلقيت (من السكان المحليين) معلومات أو حقائق عن أماكن الآثار في مناطقهم الشاسعة.
وتبدأ منطقة "أبو حمد" من خط عرض 18.30 شمالا وتمتد إلى مسافة 180 – 190 ميلا حتى تصل لحدود مديرية دنقلا حتى خط الزوال السماوي (meridian) 32.15 شرقا. وتمتد المنطقة غرب النيل إلى مسافة تبلغ نحو 70 ميلا، وإلى الشرق مسافة 30 – 40 ميلا. وتصل شمالا إلى الحدود المصرية. وبذا يبلغ امتداد المنطقة من الشمال إلى الجنوب نحو 240 ميلا (أي 448 كيلومترا). وليس في الأجزاء الشمالية للمنطقة حتى الآن إدارة حكومية، وهي في حكم المناطق المجهولة، ولن نتعرض لها في هذا المقال. وهي مناطق صحراوية رملية وعرة تتخللها جبال صغيرة سوداء ، ولا يغشاها إلا العبابدة والرشايدة وهم في طريقهم إلى مصر لبيع إبلهم. وتبلغ كامل مساحة منطقة "أبو حمد" 15000 ميلا مربعا، غير اننا في هذا المقال لن نتطرق إلا لنصفها (والذي يجاور النيل).
وتتكون منطقة "أبو حمد" من منطقتين منفصلتين: أرض الرباطاب وأرض المناصير. ولم يسبق أن عانت المنطقة من أي صراعات أو احتكاكات قبلية مثلما حدث في المناطق المجاورة لهما جنوبا مثل مناطق الميرفاب والجعليين والشايقية والسواراب وغيرهم من أجل السيطرة والنفوذ على الآخرين.
وتوجد تجمعات صغيرة للرباطاب في كركوج بالقرب من سنجة، وفي النيل الأبيض أيضا. وأستقر بعض المناصير كذلك في النهود، حيث يعرفون بالمناصرة. وعدا من هاجر من القبيلتين من الرجال للعمل خارج مناطقهم فإن هاتين القبيلتين لا تزالان تشكلان وحدتين متجانستين.
ويقطن الرباطاب في الجزء الجنوبي لمنطقة "أبو حمد" من خط عرض 18.30 شمالا إلى 19.30 شمالا و33 شرقا، وفي امتداد حوالي 90 ميلا على النيل. وفي الجزء الغربي لمناطقهم يسكن المناصير حتى ديار الشايقية، والتي تبدأ بين الحدود بين مديرتي دنقلا و بربر.
ويزعم الرباطاب أنهم من نسل "رباط" وهو عم / خال (cousin) لميراف وجعل وشايق الخ. لذا فهم يدعون نسبا وصلة بالعباس بن عبد المطلب عم الرسول.
وتتكون قبيلة الرباطاب من ثمانية فروع هي الضيافاب والبديراب والعبابيس والسنجراب والصالحاب والمحمداب والعجيباب والضياباب (وشكر الكاتب هنا أبو الفتح أفندي الضاوي لمده بهذه المعلومة. وهنالك من قسمهم لإحدى عشر فرعا، وتجد ذلك في بعض المواقع الإسفيرية للرباطاب. المترجم). وتتفرع من هذه الفروع وحدات قبلية أصغر. وهنالك فرع تاسع يدعى العبابسة، وهم ينسبون أنفسهم للخليفة العباسي هارون الرشيد. ويبدو أن هذه المجموعة قد أتت للمنطقة بعد من سبق ذكرهم وألحقوا أنفسهم بمن وجوده في المنطقة قبلهم.
وفي عهد سلطنة الفونج كان هنالك مكان (ملكان) علي الرباطاب. ففي الجزء الشمالي من المنطقة كان هنالك مك من البدراب، وفي الجزء الجنوبي مك من الضيافاب. وقبيل غزو إسماعيل باشا للمنطقة ظهر رجل من العجيباب اسمه "أبو حجل" دعا للحرب ضد الجيش الغازي فعينه سلطان الفونج وقائدا للقوات المقاومة للغزو التركي – المصري في جزئي منطقة "أبو حمد". وكان أبو حجل قائدا محبوبا لدي شعبه، وأبدى شجاعة ودهاء جعل الترك يعدونه المك الفعلي لكامل مناطق "أبو حمد". وظل الرجل وابنائه من بعده على رأس السلطة بالمنطقة في عهدي التركية والمهدية أيضا. غير أنه، وللأسف، اضمحلت مع مرور السنوات سلطة وقبضة عائلة "أبو حجل" على السلطة، رغم أن الزعيم "الإسمي" للقبيلة ما زال هو "أبو حجل". وأعاد الشيخ الخلوق عمر بشير تدريجيا سلطة البديراب القديمة في شمال المنطقة، وتراجعت سلطة عائلة "أبو حجل" وانحصرت في جنوب المنطقة.
أما المناصير فهم ينسبون أنفسهم لقبائل الكواهلة والعبابدة، ويدعون أن نسبهم يمتد للزبير بن العوام وقبيلته القرشية. ويزعم قليل من الناس أن اسم القبيلة جاء من نسبتها لمدينة المنصورة في مصر، والتي منها أتوا. غير أن الكثيرين يقولون بأن اسم القبيلة جاء من مؤسسها منصور الكاهلي. وهم يقولون أيضا بأن موطنهم الأصلي كان في منطقة الكواهلة بكردفان. واضطرهم شظف العيش وقلة الماء والكلأ للنزوح مع قطعانهم من منطقتهم الأصلية واستقروا في منطقة بين بتري وأبي حمد. وبالنظر إلى مناخ المنطقة التي يقطنونها الآن فمن الصعب تصديق هذه الرواية إلا إذا كانت الظروف المناخية حين نزوحهم من كردفان (الأكثر خضرة بكل تأكيد) كانت مختلفة جدا عما هي الآن! وحتى المكان الفقير الذي استقروا به الآن، لم يحصلوا عليه إلا بعد معارك دمية مع الشايقية والرباطاب، والذين سبقوهم بالاستيطان في هذه المنطقة.
وكتب ماكمايكل في الجزء الأول من "تاريخ العرب في السودان" : " وقبل نحو 200 عاما هاجرت مجموعات كبيرة من المناصير والفاضلاب ؟Fadliin من مناطقهم النيلية وهاجروا غربا لدارفور، حيث استقروا حول مناطق سانو كارو وتولو وجبل الحلة، وهنالك أطلق المناصير على أنفسهم "مناصرة" وأطلق الفاضلاب على أنفسهم "بنو فضل". ونتيجة لذلك وعندما تحرك الحمر شرقا من أم شنقا وفتحوا غرب كردفان بتجويف أشجار التبلدي لتخزين المياه، انضم إليهم المناصير والفاضلاب. وأتى المزيد منهم مع دخول الأتراك للبلاد. غير أن أكبر هجرة حدثت في عام 1904م عندما ضاقوا ذرعا باضطهاد سلطان دارفور لهم، وهاجر أكثر من نصفهم لدار حمر، حيث أستقر المناصير حول "الأضية" وبنو فضل حول زرناخ وكبش وأم بل. بعد ذلك توافد أهالي هؤلاء وانضموا لهم في مناطق دار حمر. وما يزال بعضهم يقطن دارفور حتى الآن".
وبحسب ما يقوله المناصير في مديرية بربر فإن قسما من القبيلة (هم الوهاباب) هاجروا إلى المناطق الخصيبة في كردفان قبل 100 – 150 عاما بسبب قلة مناطق الرعي في مناطقهم الأصلية. وفي هذا تأكيد لما ذهب إليه ماكمايكل. وإذا صدقت الروايات الشعبية في هذا الصدد فإن المناصير قد هاجروا أولا لدارفور أو غرب كردفان ثم غادروها لأسباب غير معلومة (أو ربما لصراعات قبيلة مزمنة) واستقروا في مديرية بربر . ولما وجد بعض المناصير أن ظروف الرعي غير مواتية في مناطق بربر آثروا العودة من حيث أتوا. وكان في وصول المناصير المتأخر لبربر (مقارنة بالرباطاب) تأكيد لزعم الشايقية (والرباطاب كذلك) المتهكم والمسيء للمناصير من أنهم "متطفلين interlopers" على بربر، وكثيرا ما كان يذكرهم الشايقية والرباطاب في المنطقة بأنهم مجرد "ضيوف" على المدينة، وليسوا من أهلها.
وظلت المعارك دائرة بين المناصير والشايقية والرباطاب (المجردين من السلطة dispossessed) حتى مقدم الجيش التركي – المصري، حيث أثبت الحكام الجدد أحقية المناصير في الأراضي التي يقيمون فيها الآن.
وينقسم المناصير إلى ستة فروع رئيسة: الوهاباب (وأهم أفخاذهم القمراب)، والكجيباب، والسليمانية والخبرا، والهمامير والدقساب. وهم في غالبهم شبه رحل، وليس من المستغرب أن تجد في نفس العائلة فردا من الرحل، وآخر من العرب المستقرين. ولا يزالون يحتفظون بعلاقات مع باقي أفراد عائلاتهم التي هاجرت لكردفان عن طريق الخطابات والزيارات وتبادل الهدايا. ولكن لا يلمس المرء في مناصير كردفان نفس الرغبة في تأكيد صلات الدم مع أهليهم في منطقة أبو حمد، ويؤثرون أن يتنسبوا للمجتمع الكردفاني، وربما كان مرد ذلك هو خشيتهم من أن يوصفوا بأنهم مجرد ضيوف وليسوا "أهل بلد" كما حدث لمن هاجر منهم لبربر.
إن مناطق الرباطاب والمناصير فائقة الجمال. ففيها تجد نحو ربع مليون نخلة. غير أن كثيرا من هذه الأشجار للأسف عديمة الفائدة بالنظر إلى قلة اليد العاملة على ريها. وتوجد على شاطئ النيل أنواع أخرى من الأشجار مثل الدوم والسنط والحراز والطلح والسدر (أورد المؤلف هنا الأسماء العلمية اللاتينية لهذه الأشجار. المترجم). وهنالك أيضا عدد كبير من الجزر الخضراء على النيل تنمو عليها أنواع أخرى من الأشجار والنباتات المختلفة. وتجد كذلك رمالا وصخورا قد تحول مجرى النهر وتكون أحيانا شلالات صغيرة. وفي هذه الجزر تجد أيضا أنواعا عديدة الأعشاب والشجيرات الصغيرة (عدد منها الكاتب الدهاسير Indigofera paucifolia والطرفة Tamarix gallica والحلفا Desmostachya cynosuroides والسعدة Cyperus schimperianus وغير ذلك. المترجم). وتنمو على شاطئ النهر (خاصة حول السواقي) أعداد أخرى من النباتات البرية مثل النجيلة والضفرة.
وعلى الجهة اليمنى للنهر (ويطلق عليه السكان المحليون دوما "الشرق" حتى عندما يتغير مجرى النهر) لا توجد زراعة تستحق الذكر. فالرمال والتلال الصخرية الصغيرة هي السائدة، وتصل أحينا قريبة من ضفة النهر. والمنظر هنا عموما يشبه ما قد تراه في الطريق بين الشلال ووادي حلفا سوى أن التلال هنا أقصر ارتفاعا.
وتمتد على الضفة اليسرى من النهر مساحة ضيقة قابلة للزراعة لا يزيد عرضها على بعض مئات من الياردات. ولا تجد خلفها غير أرض حصبة تثير في النفس الكآبة، ولا تنمو فيها غير قليل من النباتات الشوكية الصحراوية التي لا توفر للمرء ظلا (مثل التنضب والهجليل والسيال والعشر والمرخ) وتمتد إلى أن تغدو أرضا صحراوية رملية تتخللها تلال قليلة الارتفاع.
ويوجد في المنطقة قليل من المعادن، وبها كمية من الذهب في حدودها الشرقية (ولم تستعر حملة البحث عن الذهب في المنطقة إلا مؤخرا. المترجم). وبها مايكا (Mica)، خاصة في منطقة وادي أبو حراز، وفي التلال الموجودة غرب "شريك" ولكن كميتها قليلة واستخراجها قد لا يكون مجديا اقتصاديا.
وليس هنالك في السودان منطقة تصعب فيها الزراعة كما هو الحال في منطقة أبي حمد، حتى بالمقارنة مع المناطق الصخرية في "بطن الحجر" ومناطق الشلال. فالأرض هنا بالغة الفقر، وقليلة الخصوبة وضعيفة الانتاج. ويتوقع من الساقية أن تجلب الماء من عمق سحيق يفوق 70 قدما. وقد يغير النيل من سير مجراه أحيانا ويترك الساقية منتصبة محاطة بالرمال بلا ماء لتجلبه.
وليس مستغربا والحال هكذا أن يتناقص عدد سكان المنطقة باستمرار بسبب الهجرة، وأن تقل بصورة خاصة أعداد العاملين بالزراعة. وهاجر كثير من الشباب للعمل في السكة حديد في مكوار (سنار) وكسلا ومدن أخرى، بينما بقي الصغار وكبار السن في المنطقة يكابدون شظف العيش وهم يعملون في السواقي ويزرعون القليل من المحاصيل.
ويبلغ الفقر في المنطقة حدا جعل لبس معظم النساء للمصوغات الذهبية من رابع المستحيلات، وأكل اللحم أمرا نادرا جدا. وطعام السكان ليس فيه غير بعض الذرة مع قليل من السكر – إن وجد - وغذائهم في غالب الأحوال – كما يصفونه هم بلغتهم البالغة السخرية- مثل طعام "السوسيوة". وليس لديهم القدرة على ترحيل القليل الذي ينتجونه لأي منطقة يمكن لهم فيها بيعه والحصول على نقود يشترون بها ما يحتاجونه.
وفي "أيام السوق" المتباعدة يقوم السكان بالسير على الأقدام أو ركوب الحمير (نادرا) لأميال كثيرة وهم يحملون بضائعهم القليلة من التمر أو الدوم أو البروش التي يقضون أسابيع في صنعها، ويباع البرش الواحد بمبلغ لا يتجاوز قرشين ونصف عندما تكون الأسعار مرتفعة في السوق، ولا يزيد على قرش ونصف القرش في الأحوال العادية.
ورغم أن كثيرا من مناطق أبي حمد تبدو مثلها مثل مدن أخرى في مديريات حلفا ودنقلا، إلا أن التمر في "أبو حمد" ويسمونه الجاو (وهو طعام الناس الرئيس) ليس في جودة تمور المدن المشابهة الأخرى، ويباع بأقل من نصف قيمة التمور الأخرى. وأكثر من ثلتي النخيل في "أبو حمد" لا تنتج غير هذا "الجاو" الرديء، إلا أن هنالك أيضا القليل جدا من الأنواع الجيدة مثل تمر المشرق ود لقاي وود خطيب (اسماهما الكاتب أم لقاي وأم خطيب؟! المترجم)، وحتى هذه تقل جودتهما عن البركاوي والقونديلة والتمود التي تنتج في المناطق الأخرى.
وعلى الرغم من أن التمور تزرع في مختلف من مناطق السودان، إلا أن منطقة "أبو حمد" تعد بالفعل هي الحد الجنوبي لزراعة التمور في السودان.
ويعزو الناس الفقر في منطقة "أبو حمد" لأسباب عديدة منها فقر الأرض الصالحة للزراعة وانتاجها لمحصول واحد في العام، وعدم زراعة أي محاصل نقدية مثل القطن، وغور الماء وصعوبة استخراجه من التربة، وقفر المراعي الكافية لتربية الماشية أو حتى لإطعام ثيران السواقي.
وفي العهود الماضية كان لدي السكان عدد كبير من الرقيق يؤدون غالب الأعمال في المزارع والبيوت. وكانت في مدينتي بربر والدامر أسواق كبيرة ومهمة للرقيق، وكانت قوافل تجار الرقيق المتجهة لمصر تتوقف في "أبو حمد" لتبيع (أو بالأحرى تتخلص من) الرقيق الذين يقدر التجار أنهم لن يحتملوا إكمال الرحلة الشاقة عبر الصحراء إلى عيتباي Atbai ( لعلها ديار البشاريين في مثلث حلايب بأقصى شمال شرق السودان. المترجم).
وهاجر كل من له القدرة على الهجرة بعيدا عن "أبو حمد" بسبب صعوبة ظروف العمل في المنطقة وإلغاء الحكومة الحالية للرق، وتوفر فرص الحصول على وظائف ومهن تدر دخولا أفضل كثيرا مما يمكن الحصول عليه في "أبو حمد". وهذا ما يفسر ارتداد "أبو حمد" الآن (أي في عشرينيات القرن الماضي. المترجم) لكونها غابة من الدوم، وصحراء ممتدة، وأشجار نخيل رديئة الثمار على شاطئ النيل ما تزال منتصبة، ربما لتذكر أهلها بما كان عليه الحال قديما عندما كانت ضفة النيل حزاما أخضرا ممتدا. وربما سيمر وقت طويل قبل أن تعود تلك الأيام الخوالي. إذ أن الري بالسواقي لم يعد مجد اقتصاديا، ولن يصبح العمل الشاق في السواقي في مقابل حفنة قليلة من الجنيهات في العام جاذبا للشباب الذين تذوق بعضهم نوع حياة أسهل وأرقى في المدن الأخرى.
غير أن الأهالي هنا لا يزالون يحسون بارتباط عميق وحنين لموطن جدودهم، وإن لم يبلغوا في ذلك مبلغ "البرابرة" في حلفا. وترى أحيانا بعض الشباب من أهالي "أبو حمد" يعودون لها بعد اغتراب في مدن أخرى، وقد يجلبون معهم مدخراتهم (إن لم يكن قد أنفقوها في حياة صاخبة بتلك المدن الكبيرة) لقضاء سنوات التقاعد وشراء ساقية أو مضخة ماء والعمل في الزراعة على سبيل الهواية.
ويأمل المرء في أن تستعيد هذه المنطقة عافيتها التي كانت عليها في زمن من الأزمان. فقد شهدت هذه المنطقة قديما عمرانا (ومبان من الحجر والطوب المحروق) وهي تحت الممالك الإثيوبية والمروية والمسيحية يفوق ما هي عليه اليوم (حيث لا توجد إلا عشش بائسة وقطاطي من القش، وقليل جدا من بيوت الأثرياء المبنية بالطوب اللبن). ومع استقرار الأوضاع في ظل الحكومة الحالية وشيوع السلام والأمن فقد بدأت حركة نشطة لبناء المنازل بالطين أو الطوب اللبن. ويبدو الفرق واضحا بين الحياة بالأمس والحياة اليوم (أي في ثلاثينيات القرن الماضي. المترجم) في بتري، حيث تبلغ معاناة السكان حدا لا يصدق، رغم أنه من الثابت تاريخيا أن هذه المنطقة شهدت في أيام مضت ازدهارا كبيرا.
ورغم الفقر المدقع الذي يخيم على سكان منطقة "أبو حمد" إلا أنهم يتصفون بصفات الكرم العربي المشهور كما شهد بذلك كلود (ربما كان المقصود هو العالم الطبيعي الفرنسي Frédéric Cailliaud الذي عاش بين 1787 و 1869م وزار أرض النوبة وإثيوبيا وبعثه محمد علي باشا للتنقيب عن المعادن في السودان. المترجم). ويمتاز الرباطابي بالإضافة لصفة الكرم بالسخرية والدهاء والردود السريعة وخفة الدم (wit). ومن قصصهم المشهورة ما روي عن محمد أبو حجل (وقد سبقت الإشارة إليه آنفا عندما استدعاه حكمدار الخرطوم لإجراء معاينة له، ربما لتعيينه حاكما محليا على المنطقة) وكيف أن والدته كانت تكثر من نصحه وتلقينه ما يجب أن يرد به على اسئلة الحكمدار. فكانت تقول له إن سألك عن كذا فقل له كذا، وإن سألك عن ذاك فيجب أن يكون جوابك هكذا. وهنا قاطعها الشاب الساخر بالقول: " طيب... وإن سألني عن شيء لم تذكريه لي، هل أقول له أنظرني حتى أذهب لأمي واسألها عن الجواب الصحيح!"
ومن صفاتهم أيضا البرود وعدم الانفعال عند مواجهة الصعاب. ويضرب الناس لذلك مثلا بما وقع من المك بطران (والد شيخ الرباطاب الحالي عمر البشير). فقد كان جالسا مع جمع من الناس في غرفة لا تبعد إلا مائة ياردة عن النيل. وفجأة شب حريق هائل في الغرفة فتدافع الناس وهرعوا للنهر. غير أن المك رفض الخروج والنيران تزداد اشتعالا من حوله إلا بعد أن خرج الجميع وألقوا بأنفسهم في النهر، ثم خرج أخيرا متمهلا في مشية "ملكية" نحو النهر وألقى بنفسه فيه.
أما أنواع الطيور الموجودة في المنطقة فهي قليلة نسبيا مقارنة مع ما هو موجود في شندي والدامر. وتشمل أنواع الطيور في المنطقة العصافير الإسبانية Spanish sparrow وأنواع أخرى من العصافير، وآكلات النحل bee eaters وطائر الزقزاق plover و البلابل bulbuls وعصفور النار firefinch وأنواع مختلفة من اليمام والحمام dove، وكذلك أنواع تشاهد أحيانا مثل الجوارح والغربان والنسور ومالك الحزين. وقد تجد هنالك أيضا بعض القطويات sandgrouse وبعضها ملون بصورة بديعة، وكنا نسمعه يغرد عند الأصيل. وقد ترى بعض الطيور(مثل طيور الكركي crane demoiselle) في موسم هجرتها للشمال عندما تحط في المنطقة، رغم أن شح الذرة جعل ذلك الأمر نادر الحدوث.
وكذلك توجد أنواع مختلفة من الثعابين، غير أنها ليست كثيرة في المنطقة. وتشمل أنواعا مختلفة منها الدقر، وهو ثعبان أسود رقيق الحجم ويبلغ طوله عادة 3 -4 أقدام، وثعبان الحية، وهي طويلة محمرة اللون، ويقال أن لسعتها مميتة. وتوجد كذلك الكوبرا الباصقة spitting cobra وقد رأيتها شخصيا في أعلى جبل كرباي Jebel Kurbai، و"أبو جنيب" وهو ثعبان رمادي اللون يعيش تحت الصخور، و"أبو دفان" وهو ثعبان رمادي اللون أيضا له جسم رقيق الحجم ورأس كبير ، و"أبو زنوت" وهو ثعبان أسود وله بطن بيضاء، و"أم سوميتة"، وهي /هو ثعبان أسود وله خطوط بيضاء في منطقة العنق مثل القلادة (ومن هنا أتى اسمه المحلي). وهنالك أيضا "أم الطيور" وهي / هو ثعبان رمادي اللون وغير سام ويعيش على أكل الطيور، و"أبو درق" وهو ثعبان أسود، ورمادي اللون في جانبيه. ورأيت في المنطقة عددا صغيرا من الثعابين الأخرى والتي لا يعرف لها الأهالي اسماء معينة.
ولا تزال هنالك في المنطقة بعض الأغنام الوحشية وأنواع من الغزلان و"بقر الخلا" والنعام والأريل بالقرب من آبار ساني وجبل أبو نخل، وإلى وقت قريب كانت توجد حتى مسمار ومحطة رقم 6 شمالا. وفي عهد المهدية كانت هنالك أعداد كبيرة من القرود تعيش في غابات الدوم بأبي حمد. غير إن امتلاك الأهالي للأسلحة النارية وقلة المراعي وشح المزروعات وغير ذلك من العوامل ساهم في القضاء على أعداد كبيرة من تلك الحيوانات البرية.
ولقد حدثت في السنوات القليلة الماضية تغيرات هائلة في طبيعة الشمالية وفي غطائها النباتي وأعداد وأنواع الحيوانات التي تعيش فيها. فقد أشار العالم الفرنسي فريديرك كلود (والذي سبقت الإشارة إليه) قبل مائة عام فقط لوجود فهود leopards (وليس نمور) في منطقة شرق شندي، وكانت الأسود تمرح في مناطق واد بانقا ووادي العواتيب. وأمتنع أحد الأوربيين عام 1833م عن زيارة آثار النقعة خوفا من الأسود في تلك المنطقة. وإلى الان يمكن أن يعثر المرء على قشر بيض النعام في صحراء بيوضة، رغم أن الطائر نفسه لم يشاهد فيها منذ أجيال خلت.
وفي أحيان قليلة يجلب فيضان النيل فرس النهر (القرنتية) إلى المنطقة، حيث تعيث فسادا في محاصيل الزراع سيئ الحظ، وتخرب كل ما تطأه من ممتلكات أخرى. وظهرت بأبي حمد في ربيع (؟! المترجم) عام 1926م واحدة من هذا النوع، ولكنها بقيت ساكنة بقرب الشاطئ، وظل الصغار يحصبونها من بعيد. وشوهدت في ذات العام واحدة أخرى خرجت من الماء واتجهت نحو محطة 10 في الصحراء. غير أنها وبعد مسيرة نصف ميل في الرمال والحصى عادت أدراجها للنهر.
كذلك توجد بالمنطقة أعداد من التماسيح والتي تقضي سنويا على عدد من البشر والبهائم. ففي عام 1925م خطف تمساح في كدك Kuddik رجلا كان يتوضأ على ضفة النيل. غير أن الرباطاب يقولون بأن التمساح لا يهاجم البشر في المنطقة إلا إذ "تدرب" على البقر أولا! ومعلوم أن التماسيح لا تهاجم البشر وهي تسبح في عرض النهر، وهذا من حسن حظ الذين يسبحون في النيل أو يستمتعون بالطفو فوق مائه على أخشاب الدوم أو على ظهور قرب الماء التي يملؤونها من طرف النهر.
وهنالك ثلاثة أنواع من التماسيح في أبي حمد يسمونها "النفار" وهو تمساح خطر، أسود اللون لا يتعدى طوله 6 أقدام، ويسمون أنثاه "السفيرة" وهي أفتح لونا من ذكرها ولها نفس الطول. وهنالك "التمساح" ويبلغ طوله 15 قدما أو أكثر، وليس له لون محدد، وهو خطر أيضا على البشر. ولسكان أبي حمد نظريات كثيرة عن كيفية إمساك التمساح بضحيته والفتك به.
وبينما تختفي كثير من الحيوانات البرية والمستأنسة من منطقة أبي حمد، فإن هنالك ازديادا مزعجا في نوعين من الحشرات هما النمتي والقونتيب. وقد تعرضت خلال سنوات حياتي لعضات ولسعات الكثير من المخلوقات في كثير من المناطق، غير أني أشهد أنني لم أصادف إزعاجا وضيقا يقارب الإزعاج والضيق الذي يحدثه القونتيب و النمِتّي للمرء (عثرت في الشبكة العنكبوتية على مواقع بث فيها كثير من السودانيين شكواهم وتبرمهم وضيقهم من النمِتّي، لدرجة أن أحدهم ذكر أنه اضطر للبس "ناموسية" تغطي كامل وجهه طوال اليوم، وزعم آخر أن الأبقار أجهضت بسببه، بل وأن بعض الحمير في الشمالية انتحرت غرقا في النهر بسبب النمِتّي الذي وجد طريقه لداخل آذان الحمير، ففضلت تلك الحيوانات المسكينة الموت غرقا على احتمال أذى تلك الحشرة اللعينة. المترجم).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.