(1) في الوقت الذي افتتحت فيه في الدوحة مطلع هذا الأسبوع أول عملية تفاوض جادة لحل أزمة دارفور منذ مفاوضات أبوجا التي اختتمت بحل جزئي في مايو 2006، تعاني الساحة الدارفورية من تشرذم غير مسبوق في قياداتها السياسية والعسكرية. وهذا الوضع لا يهدد فقط المفاوضات الجارية، بل يهدد مستقبل دارفور وأهلها، لأن العجز عن إبرام اتفاق سلام يعيد الأمن عاجلاً للإقليم يعني أن يواجه سكانه مستقبلاً مجهولاً لسنوات طويلة من الاضطراب. (2) ظلت معظم حركات دارفور تقاطع العملية السلمية التي ظل يقودها الاتحاد الافريقي بالتشارك مع الأممالمتحدة قبل أن تستضيفها قطر تحت مظلة الجامعة العربية ومع استمرار القيادة الافريقية-الأممية للعملية. ولكن هذه الأطراف المقاطعة لم تقدم أي طرح بديل لعملية سلمية أو تظهر قدرة على حل عسكري. وفوق كل هذا تشن هذه الحركات الحروب على بعضها البعض، أو حتى على نفسها كما نرى من انشقاقات تكاد تكون أسبوعية، مما يزيدها ضعفاً على ضعف، ويدعو إلى عملية سلمية أخرى تحل خلافاتها. (3) خلافات الحركات تعود إلى الطبيعة القبلية لمعظم الحركات، والطموحات السياسية لقيادات معظمها شابة وقليلة الخبرة، والتحالفات الداخلية والخارجية، وخلافات وجهات النظر السياسية أو الخلافات حول الاستراتيجية والتكتيك. ويندرج الخلاف حول المفاوضات الأخيرة في صراع المواقع بين الفصائل، حيث أعلن أحد الفصائل عن عمليات عسكرية ضد فصيل آخر بالتزامن مع مفاوضات الدوحة بغرض إثبات الوجود على حساب دماء أهل دارفور وأمنهم، بينما هدد أكثر من فصيل آخر بأعمال مماثلة. وبسبب طبيعتها فإن السلاح يصبح هو الوسيلة لحسم الخلافات بينها وداخلها، وأيضاً يحدد نوع القيادات التي تصعد إلى قمتها. (4) بعض القيادات المقاطعة تحدثت عن إيجاد منبر بديل للتفاوض، ولا ندري من أين سيأتون بهذا المنبر في وجود منبر تدعمه الأممالمتحدة والجامعة العربية والاتحاد الافريقي وكل الدول تقريباً. قيادي آخر تحدث عن شروط طويلة قبل التفاوض، مما يطرح سؤالاً حول ما هي الحاجة إلى التفاوض إذا كان إملاء الشروط ممكناً من شقة باريسية؟ ولماذا عجز هذا القيادي عن ترجمة هذه الشروط إلى مطالب محددة تقدم على مائدة التفاوض؟ (5) الأغرب من ذلك أن كبير مساعدي رئيس الجمهورية مني مناوي أدان المفاوضات وانتقدها، مما يشير إلى أن أزمات حركات دارفور انتقلت إلى داخل الحكومة التي تعاني من صراعاتها الأخرى، ويبدو أنها عاجزة حتى عن استشارة ممثل دارفور المفترض فيها حول أمر لا بد أنه من صميم اختصاصه! (6) قبيل المفاوضات ورد في الأنباء أن عبدالواحد نور أحد زعماء فصائل دارفور يعتزم السفر إلى إسرائيل، وهو خبر لم يرد أي نفي له من عبدالواحد وأنصاره. وإذا صح هذا تكون هذه سقطة أخرى لهذا الفصيل، لأن من يناصر إسرائيل وما تقوم به يفقد كل حجة ضد الحكومة السودانية. ومهما يكن فإن إثقال ظهر دارفور وأهلها بتحالفات من هذه النوع مع عدو للوطن والأمة يقدح في أهلية من يتولى كبره لأي دور قيادي في أي موقع. (7) في الآونة الأخيرة برزت حركة العدل والمساواة باعتبارها الفصيل الأقوى عسكرياً إضافة إلى تمتعها بقيادة سياسية أنضج نسبياً. وقد انتقدها خصومها بأن قادتها من الإسلاميين وقيادات الحكومة سابقاً، وهي حجة لا يعتد بها، فقد كان العقيد جون قرنق وسلفا كير وعدد كبير من قادة جيش تحرير السودان ضباطاً في جيش النميري، وقد خدم بعضهم في ذلك الجيش لأكثر من عقد من الزمان وشارك في سحق أكثر من تمرد في الجنوب. ولكن إشكالية العدل والمساواة الأكبر هي أنها فرضت وضعها المتميز بقوة السلاح وفشلت حتى الآن في جمع كلمة أهل دارفور. وفرض المكانة بالقوة العسكرية لا يحل المشكلة، وإلا لكانت الحكومة أوفر حظاً في ذلك. (8) بعض الحركات تعول على سراب التحرك الدولي وأوهام محكمة الجنايات الدولية، وتتخذ من هذه الأوهام مبرراً للقعود عن السعي الدءوب للحل السلمي. وواقع الأمر هو أن صدور قرار الإتهام الوشيك لن يغير شيئاً في معادلة الأوضاع السودانية، وبالقطع ليس في دارفور، بل بالعكس، قد يعطي الحكومة مبرراً للتنصل من بعض التزاماتها بموجب اتفاقيات أبوجا ونيفاشا، والمزيد من إحكام قبضتها على الأمور، مما سيطيل أمد الحرب ويزيد من معاناة المواطنين في دارفور وخارجها. وعبرة العراق وميانمار تستحق التأمل هنا، حيث لم تؤد عقود من الضغوط الدولية إلى تغيير في النظام بغير حرب مباشرة لا يتوقع قط أن يصبح السودان مسرحاً لمثلها. (8) مفاوضات الدوحة تمثل حتى الآن أفضل أمل في تحقق سلام انتظره أهل دارفور طويلاً، وذلك لما تجده من دعم قوي، وبسبب الكفاءة العالية للدبلوماسية القطرية التي تتحدث عنها إنجازاتها المعروفة، وأيضاً لأن الجو مهيأ والأطراف راغبة وقادرة على تحقيق الاتفاق المرجو. فحركة العدل والمساواة في وضع ميداني وسياسي يجعلها أقدر الحركات على أن تكون شريكاً في السلام، والحكومة متلهفة على عقد صفقة ترفع عنها الضغوط الأجنبية. ولدى الجانبين كفاءات سياسية عالية وخبرة طويلة في إدارة المفاوضات. (9) ولكن التوصل إلى اتفاق في الدوحة لا يمكن إلا أن يكون الخطوة الأولى في طريق السلام الطويل، ولا بد أن تتبعه جهود لتوحيد أهل دارفور المسلحين منهم والمسالمين، وكل قبائل الإقليم وقواه السياسية. والمأمول هو أن يدفع الحراك السلمي أهل دارفور من غير حاملي السلاح إلى التحرك السريع لتدارك تقصير وأخطاء الحركات المسلحة، وإخراج قيادات جديدة قادرة على تقديم مصالح أهلها على مطامحها السياسية الشخصية. فدارفور بالقطع تستحق قيادات سياسية أفضل مما ابتليت به من مجموعات تفتقد –إلا من عصم الله- الفهم الصحيح للواقع والالتزام الأخلاقي الذي لا يقدم مصالح أهل الإقليم وتماسك مكوناتها قرباناً على مذبح المطامح الضيقة، حزبية كانت أو شخصية. عن "القدس العربي" 13 فبراير 2009