هذه مقالات متتابعة تحكي عن حياة الشيخ بابكر بدري كما رواها هو في كتابه المسمى تاريخ حياتي .. ولقد قام هذا المحرر بتلخيص ذلكم الكتاب ، وها هو ينشره للنفع العام ، في حلقات متتابعة، على غرار (بداية المجتهد ونهاية المقتصد). لعمري لن يستغني المجتهد عن قراءة الكتاب الأصل. أما المقتصد والذي لا يجد سعة في وقته، أحسب أن هذه المحررات ستعطيه الفكرة والمعلومات الكفيلة بالتعريف بالشيخ المعلم المجاهد التاجر الفقيه والسياسي ايضاً.، رحمه الله وأحسن إليه.أرجو أن يسعد القراء بهذا العمل.. رب بارك لي وأربي صالح العمل القليل.. وأنسجن بالنور دربي واحفظني لا أميل. الصادق عبدالله عبدالله [email protected] الخروج من السجن : اضطجعت يوماً على ظهري، وصرت اقرأ القرآن. فمر ماهر بك (مسئول رفيع في صعيد مصر)، ليقف ويسمع قراءتي. ولما شعرتُ به قمتُ مسرعاً، فقال لي: أتحفظ القرآن كله؟، قلتُ نعم والحمدلله. فقال لي أتحب أن أرسلك إلى مصر لمنزلي وتقرأ في الجامع الأزهر. وتعيش مع أولادي. قلتُ خيراً، سعادتك، لكنّي تركتُ والدتي وشقيقاتي في الجبل، أريد الإجتماع بهن والأطمئنان عليهن. دخل بعض الناس الراغبون لأخذ أسرى بالضمان. وجاء رجل من جعافرة دراو يدعى موسى أبو محمود ، رغب في أخذي بالضمان. فعرض أسمى على ماهر بك ليقول لأبي محمود: هذا يحفظ كتاب الله. فأجاب أبو محمود نتركه يعلم أولادنا. فتبعته ومعه آخر على رواحلهما. وكانا مسرعين، وقد آلمني المشي خلفهما، وأنا في حالة من الجوع والضنك، حتى رق رفيقه لحالي وتناولني من ذراعي بيده ولم ينخ الجمل. انقطع عنّي الطعام: وصلنا إلى دراو، وأصبح الناس يأتون لينظروا إلى هذا القادم الجديد. وينادونني لتحية من يأتي ، حتى الأطفال منهم. مكثت ثلاثة أيام لأسال زوجة موسى أبي محمود عن الأولاد الذين سأعلمهم. لتجيب بأن الأولاد مع أحمد ابو عطا الله. ولا يمكن أن يخرجوا عنه. فلتذهب أنت للمزارع للعمل كالرجال. فانقطع منّي الطعام، وكُلفتُ بجلب الماء من الترعة على مسافة نصف ميل. أحضر يومياً نحو أربعة عشر دلواً على كتفي. وكلما سألتُ عن الطعام كانت الإجابة أما أنه لم يُعد، هذا في حالة طلبه باكراً، أو لم يبق منه شيء في حالة طلبه بعد أداء مهمتي. وقد كان أبو محمود يكرر التنبيه باطعامي. ولما ساءت حالتي من شدة الجوع، كثرت وساوسي، بأن يطلق سراحي ويُخلى سبيلي لأعمل وأكسب، أو أرجع للسجن أو أشحذ أو أهرب، وفوق كل ذلك غلب علي الشوق لأمّي وشقيقاتي. ذهبتُ مرة قبل الفجر وتوضأتُ في الترعة وصليتُ الصبح وجلستُ اقرا الراتب (راتب المهدي)، قبل أن أجلب لهم الماء كالعادة. هذا ولكي أتاخر، لأري هل سيسعون خلفي ، أم يتمسكون بي أو يهملوني؟. وقد أُخبرت بأن السيد عشرية (أحد أعيان البلاد) جاء ونزل عند ابن أخته سلامة افندي. فعبرت الترعة وذهبت إلى حيث السيد عشرية. وبعد قليل من وصولي إليه، قلتُ له إني جائع. فأمر لي بطعام ، فجيء لي بستة ارغفة ولبن رائب. فأكلت حتى كلّ فمي من المضغ.. فقال السيد عشرية لا بارك الله فيمن أجاعوك. بعدها رجعت لمنزل موسى ابو محمود المشئوم حيث واصلت عملي، ثم جاءني الله بالفرج. اضجعت يوماً ضحىً وشرعت أقرأ القرآن، فمر بي ولد يدعى نور الهدى. فوقف وسألني إذا ماكنت حافظاً للقرآن؟ واقترح علي أن أزور الكُتّاب (المدرسة) حيث يدرس القرآن. ومشى معي إليه، وجدت الأولاد يكتبون. فتناولت لوح أحدهم لأكتبه بياناً للفقيه الذي لم أجده وقتئذٍ. ليعلم زيارتي. فأخذت وكتبت برواية غير الرواية التي يكتبون بها إمعاناً في التعريف بزيارتي له. ولم ألبث كثيراً، حتى لحق بي الفقيه أحمد عطا الله، وأخذني وعاد بي لمدرسته، وجاء لي برغيف وبيض، فأكلتُ . وقد حكي الفقيه قصته أنه كان في الأسر أيضاً بالأبيض (المدينة المعروفة باقليم كردفان السوداني) ، وقد عاني كل ما يعانيه الأسير، من قيود وسخرة. وأمرني أن آتي كل يوم لأفطر عنده وسيجمعني بالشيخ حسن ود علي أبوحاج، عمدة دراو. وأن شيخ حسن يحب المساكين، خاصة أهل الدين منهم. عند رجل المروءة حسن علي أبو حاج: وفي يوم الجمعة صليت خلف الصفوف لاتساخ جبتي التي لا يزال فيها أثر مخ بنت أختي الصغيرة التي ماتت في حجري، ودم موسى أخي الذي أصيب إلى جنبي، ثم مات ودفنته . وفي الصلاة جاء رجل متاخراً وصلى إلى جنبي، لم أكن أعرفه. ومع تسليم الإمام خرجتُ. وفي طريق رجوعي رأيت جملاً يحمل قصباً، فتبعته على مظنة أن هناك قنطرة يعبر منها الجمل، بدلاً من عبور الترعة. وفي القنطرة توقف الجمل لإصلاح حمل القصب. لما رآني الرجل صاحب الجمل سلم علي ببشاشة. بادلته بمثلها. وعرفت أنه الرجل الذي صلى الجمعة إلى جواري. فقال لي: أنت من جماعة ود النجومي. قلتُ نعم. قال بلغني أن واحد منهم مع علي أبو محمود، أريد أن أقابله. فقلتُ أنا هو. فسألني عن اسمى فأجبته إسمي بابكر بدري. فقال نعم أنت هو. قال أنا حسن ود العمدة. فأردفني في الحمارة التي يركبها وقاد الجمل. حتى وصل إلى البيت. وقدّمني إلى أمه، قائلاً لها إذا أتاكم في أي وقت أطعموه. واشتروا له إن لم يكن معكم طعام. بل أشحتوا (إسألوا) الجيران إن لم تجدوا في السوق. فجاءت لنا أمه برطب ورغيف قمح. وقال لي هذا بيت أمّي ومعها زوجتي الكبرى. ثم أخذني وذهبت معه إلى منزله. وأراني غرفة لأنام فيها. وذهبت معه للفقيه أحمد ابو عطالله الذي أوصاه بي، فشكرته. وأبديت له تخوفي من عقاب آل ابو محمود، الذين فارقتهم بمجيء إلى بيت العمدة. فقال لي لا تخف، هذا سيدهم ولا يستطيعون معارضته. لما أقبل الليل، جلس العمدة علي، والد حسن على دكته، وجاءه الأعيان من أهله جلوساً أمامه. وجلست مع ابنه حسن في مصطبة. حتى وضع الطعام أمامه. فناداني حسن: تعال يا بابكر. وضع لي كرسياً وقال اجلس وتعش. فجلست وأكلت مع العمدة الذي لا يخاطبني، كأنه لا يشعر بوجودي. بقيتُ كذلك ليومين آكل معه الوجبات الثلاث. وفي اليوم الثالث كان سيدي موسى أبو محمود ضمن الجلوس. ليلتفت إليّ قائلاً من هذا: قلتُ بابكر. ومن جاء بك؟ فاضطربتُ وتمنيتُ لو بقيتُ على جوعي. فقلتُ بصوت خفيض: جاء بي حسن. قال العمدة مفتخراً، حسن ولدي؟ قلتُ نعم. ثم إلتفت إلى حسن: قال من جاء بهذا يا حسن؟ قال أنا جئت به. لماذاجئت به؟ قال ليأكل معاك. رفع العمدة يده، بدأ يعدد الأعيان، فلان لا يأكل معاي، وفلان، وموسى أبومحمود لا يأكل معاي. يأكل معاي بابكر بدليقناته ديل( بثيابه البالية هذه)؟ قال حسن : نعم. صفق العمدة بيديه، وقال: حي حي، أنا عندي بئر حلوة، وعندي ولد صالح. ثم التفت إليّ، وقال: يا بابكر حسن ابني صالح، لو لم يكن كذلك، الزيك أنت (مثلك أنت) يقبله أحد بثيابه الممزقة؟ وبعد أن رفع يده من الأكل، نهضت كعادتي. نادي العمدة حسن ، قائلاً هات لبابكر سمن يشربه، المثل بابكر لا يشبع لكنه يستحي. فجيئ لي بسمن، واستمر ذلك كل ليلة، حتى صلُحت معدتي واعتادت الأكل. كان يقول لي: كل يا بابكر، لا بارك الله في بيت لا يؤكلك، ولا في خير لا يسعك. ولم يجرؤ موسى ابو محمود التكلم معي. في يوم السوق طلب منّي حسن أن أذهب معه للسوق. وفي الطريق قال لي معنى كلام أبي (بدليقناته) يقصد أن أكسوك. وفي السوق اشترى لي حسن لباساً وقميصاً وجلباباً ووثوباً ومركوباً(حذاءاً) وعمامة. زرت يوماً بيت موسى أبو محمود (سيدي السابق)، اندهشت حماته عندما رأتني ، وسألتني عن من كساني. فأجبتها: حسن ولد علي ابو حاج. صرت أجلس مع حسن لنقرأ في الكتب. وجدني العمدة أبو حاج مرة قد جمعت بعر حصانه في طبق لأضعه في كوم الزبالة. فأمسك بالطبق، قائلاً لا، أنت تنقل بعر حصاني؟. أخذ منّي الطبق وبعثر البعر بيديه، قائلاً: تحرق يا بابكر بيتي بالنار. أنت تحفظ القرآن يا بابكر، وتعرف العلم يا بابكر. وذات مرة طلب منّي محمد ابن العمدة الكبير الخروج لجر مركبٍ غرقت. وجدني حسن واقفاً، فأخبر والده العمدة. فجاء العمدة جاراً ثوبه، مؤنباً ابنه محمد . قائلاً له إذا كان بابكر يكلفونه أهله بجر المركب، هل يستطيع حفظ القرآن وقراءة العلم وهو صغير؟. ذهب محمد مع جماعته لجر المركب ولم يطلب منّي أي خدمة بعدها. شهدتُ مرة رجلاً جاء للعمدة وقال له أنا عريان، والناس تقول لي يكسوك عمدة دراو. ارتجف العمدة وخلع ثوبه غالي الثمن. وأعطاه للرجل. وعلم محمد ابنه بذلك. فأعطى الرجل ثوباً أخر من نوع أقل، وأخذ ثوب والده. فرجع الرجل للعمدة وأخبره. فطلب العمدة ابنه محمد وقال له: يا محمد، كان أبي يعطي وأنا أسرق منه وأعطي مثله. أنت يا محمد أنا أعطي وأنت تأخذ. يا محمد ثوبي الذي في جسدي لا تملكه معي. يا محمد اتركني أموت وخذ كل شيء. هات الثوب. وسلمه للرجل مع الثوب الآخر. فأخذ الرجل الثوبين وذهب. أجتماع الشمل مع أمي وأخواتي تآخينا مع حسن ابن العمدة علي أبو حاج ، حتى وصلنا لدرجة رفع الكلفة بيننا، وصدق الإلفة. لكن ظلت في ضميرى وخزة على فقدان أمّي وشقيقاتي. بكيت أمامه يوماً عندما جاء وقت الغداء وأزيح غطاء الطعام، وقد فاحت رائحة الديك الرومي، فغلبتني دموعي. ذكرتُ أني آكل مثل هذه الطيبات وأمّي مجهولة الحال. فغطى الطعام وأزاحه. ثم أحسست بالخجل من فعلتي، ووبختُ نفسي على سلوكي. قمتُ توضأتُ وصليتُ ركعتين، ثم عدتُ لأتناول معهم الغداء. بعد الغداء قام حسن ورفع كفيه بالدعاء أن تجد خبر أمك. أمنت على دعائه. توجهنا بعدها للسوق، لأجد من الأسرى من يخبرني بأن أمّي وأخواتي ببلدة أشكيت عند العمدة دهب. ففرحتُ فرحاً عظيماً. وقام حسن بكتابة خطاب للعمدة دهب، وأرسل معه ورقة نقد قيمتها جنيه مصري، وطلب منه إرسالهن بمركبه. لكن عندما وصل الخطاب للعمدة دهب، كتب مفيداً بأن النسوة غادرنه قبل شهر. عدتّ لارتباكي وحزني ، إلا أني عرفت أنهن بالتوفيقية من أعمال حلفا. وفي يوم ذهب العمدة أبو حاج لأسوان. وفي رجوعه قابلته بالحمار في المشرع. ليقول لي أنت جئتني بالحمار، وأنا جئتك بخبر أمك. ليضيف : قبل قيام الوابور، جاءتني أختك الكبيرة ومعها ابنة عمك، وأخبرتاني أن أمك وباقي العائلة موجودون في مكان ليس ببعيد. لكن لا يمكن لحاقهم والوابور قد تأهب للقيام. فطلبتُ أولاد حجازي أن يأخذوهن بمركبهم بحيث يصلن دراو قبل شروق الشمس. لما وصلت البيت أخبرت حسناً ، فسر للذك الخبر. وأعطاني حمارته قائلاً لي إن وجدتهم وصلوا فالحمدلله، وإن لم يصلوا واصل مسيرك لأسوان. فلما وصلتُ إلى السوق رأيت السهوة أختي الكبرى، التي لم أعرفها في البدء، لولا أن رأيتُ أمّي تقودها الحسنى، وبقية اخواتي، لقد تغيرت وصارت ضعيفة وداكنة اللون وانطمست معالم وجهها، حتى ذهبت شلوخها. اندهشت ولذتُ بالصمت المطبق. ذهبنا حتى وصلنا البيت. ووجدت حسناً أخرج أمه من بيتها، وأدخلهن فيه، وأحضر أردباً من الغلال (جوالين أو ما يعادل مائة وخمسين كليوجرام) وخروفين. بارك الله فيه حياً ورحمه رحمة واسعة ميتاً. رأيتُ أنّ والدتي تحتاج لثياب. فذهبتُ للشيخ حسين أبي أحمد التاجر بدراو، وطلبت منه أربعة عشر ذراعاً بالقيمة، أقسطها له. قال أعطيكها لوجه الله. رددتُها عليه وقلتُ له لا أقبلها صدقةً. قال إذاً خذها وقسّط ثمنها كما تحب. ذلك قارئي العزيز أني قد أصبحت في سوق دراو مرة خياطاً، ومرة جلّادا يليه (مع عبدالله بك حمزة في الرمادي)