هذه مقالات متتابعة تحكي عن حياة الشيخ بابكر بدري كما رواها هو في كتابه المسمى تاريخ حياتي .. ولقد قام هذا المحرر بتلخيص ذلكم الكتاب ، وها هو ينشره للنفع العام ، في حلقات متتابعة، على غرار (بداية المجتهد ونهاية المقتصد). لعمري لن يستغني المجتهد عن قراءة الكتاب الأصل. أما المقتصد والذي لا يجد سعة في وقته، أحسب أن هذه المحررات ستعطيه الفكرة والمعلومات الكفيلة بالتعريف بالشيخ المعلم المجاهد التاجر الفقيه والسياسي ايضاً.، رحمه الله وأحسن إليه.أرجو أن يسعد القراء بهذا العمل.. رب بارك لي وأربي صالح العمل القليل.. وأنسجن بالنور دربي واحفظني لا أميل. الصادق عبدالله عبدالله [email protected] مع عبدالله بك حمزة في الرمادي: أرسل إلي عبدالله بك حمزة، لأنتقل إليه مع عائلتي إلى الرمادي. فقد كان يستضيف الأسرى من السودانيين. وفي دراو نمت علاقاتي، وأصبحت في السوق صناعياً أتعامل في السوق كما يحلو لي. فلم أرد على خطاب السيد عبدالله، فخاطبني ثانيةً وأرسل لي عبر بعض معارفي. فازدادت قناعتي، كما يحدوني أمل مراجعة زوجتي البقيع، التي أحبها وقد فارقتها قسراً. وقد علمت بوفاة أمها التي كانت سبباً في طلاقها منّي. وقد ساعد في اقتناعي أن بعض أقربائي كانوا في الرمادي. أما ما يمنعني من الإنتقال من دراو، أني قد توسعت معارفي وصلاتي، كما وجدتُ كنف العمدة المخلص القادر وصداقة ولده لي، الذي لم يبخل لي بمال ولا ببال. هذا إلى جانب سعة سوق دراو، الذي استطيع أن ارتقي فيه تاجراً واتصاله بأسواق السودان،. وأنا في تلك الحالة بين خياري الذهاب والبقاء، إذ أرسل السيد عبدالله ولده بمركبه الذاهبة إلى أسوان لينقلنا في رجعته. وفي رجوعه جاءنا حمزة بن عبدالله بك وذهبنا معه إلى الرمادي، وقد تأثّر من يعرفنا في دراو لفراقنا خاصة حسن وأبوه العمدة . وصلنا إلى الرمادي في شعبان، وعبدالله بك لا يطلب قط من أي من الأسرى أي خدمة، وهو يصرف من محصولاته لكل الذين معه ما يكفيهم. كنت يوماً اقرأ للسيد عبدالله من كتاب مقدمة ابن خلدون التي يحبها. وقد كان يحسن معاملتي، كما كان يهزل معي أحياناً. وأرد عليه أحياناً بجرأة، فلا يغضب ولا يترك الهزل معي. وبينما كنت اقرأ عليه ذات مرة، أردتُ أن أشرب ماءاً. وقد كان يضع ماء شربه في قُلل (جرار) خاصة به. فأمرني أن أشرب من القُلة الوسطى، التي أشار إليها. فشربت منها شراباً، فإذا هو النبيذ المعروف بالعسلية . وبعد قليل أحسست بالخدر وزوغان العين في القراءة. وصرتُ لا أميز بين السطور. فضحك عمّي عبدالله، فعرفت مكره عليّ. تركتُ الكتاب وخرجتُ. وفي الطريق كلما رأيتُ أحداً استصغره، وتحدثني نفسي إن أمسكته سأحطمه. ولما وصلتُ إلى أمّي قلتُ لها أنا سكران. فاستعاذت بالله قائلة: اللهم أكفنا شر السلب بعد العطاء. ونمت ذلك اليوم حتى العصر. ولما صحوتُ أفقت لحالتي. وفي الصباح هازلني عمي عبدالله بأن ماعونك ضيق، يقصد أن طاقتي محدودة، وأن هذا المشروب عادةً لا يسكر. بعد أن استقر بي الحال، واطمأننت إلى حال أهلي لدى شيخ عبدالله ، عزمت على السفر إلى مصر. وقد خاطبني من قبل أحمد ابن خالي، أن أحضر لكي أراجع زوجتي البقيع أخته. وأنه في خطابه لي أن يتزوج هو وأخوه الحسن أخواتي. مفيداً بأن والدتهم توفيت وهم في معية عمي محمد أحمد شكاك بمصر. ومما شجعني قيام مركب عمي عبدالله بك إلى مصر مع بعض المرافقين. واشتدت بي الصبابة والحلم الحلو والأمل المسلي للاجتماع بزوجتي، حتى قلتُ في ذلك شعراً. لكن لحسرتي وجدت ُفي الطريق أن البقيع قد تزوجت بالزبير باشا. مواجهة في منزل الزبير باشا، لماذا تزوجتها؟: صمّمت على الوصول إلى القاهرة، وقد عالجتُ نفسي في الطريق مما ألاقي في نفسي من وجد، مستحضراً تربية الإمام المهدي، الآية من سورة الحديد: (لِكيْ لا تأْسوْا على ما فاتكُمْ ولا تفْرحُوا بِما آتاكُمْ واللّهُ لا يُحِبُّ كُلّ مُخْتالٍ فخُورٍ (23)). وقررتُ أن أنزل ضيفاً عند الزبير باشا، حتى لا يبدو علىّ الحزن وشماتة الشامتين، مردداً البيت: وتجلدي للشامتين أريهم أني لريب الدهر لا أتضعضع. رحب بنا الباشا، وقد أولاني بعض العناية الخاصة. وكنت أصلي الأوقات كلها في جامع السيدة زينب. وفي مرة خرجت من صلاة الصبح في رفقته. فأمسك بيدي وترافقنا حتى دخول البيت. ثم طلبني إلى غرفة جلوسه، حيث كان يتخذ كرسياً على عجلات يتأرجح عليه. وأشار عليّ بالجلوس في كرسي مقابل، ليدور بيننا الحوار: لماذا جئت إلى مصر؟ أفدته: أنت يا سعادة الباشا يخاطر الناس في السودان لرؤيتك ، ولما كُتب علينا أن نسكن مصر لمدة لا نعلمها، جئت لأراك، وتعرفني بشخصي وإسمي، وإذا دهمني ما احتاج لمساعدتك فيه كتبتُ إلى سعادتك كتاب من تعرفه. سألني: ثم ما السبب؟: كذلك أولاد خالي عثمان واخواني توفيت والدتهم، جئت لأعزيهم. ثم ماذا؟ وبعد عدد من الأسئلة والأجوبة لم يجد فيها ما يريد، اعتدل في جلسته قائلاً لي إن المرأة التي تزوجتها قيل أنها امرأتك. أجبته بل مطلقتي. رد عليّ: بل إمرأتك. رددتُ عليه: بل مطلقتي. لا إمرأتك. لأجيب: سبحان الله يا سعادة الباشا، أنا الزوج الأول أعترف بالطلاق، وأنت الزوج الثاني تدعي ضده، فهذا أمر مقلوب (معكوس). ليقول لي: أسمع يا بابكر، أنت تقول جئت لكل من ذكرتهم، لكن الحقيقة أنت جئت لرجوع امراتك أو لرجوع مطلقتك. لأرد عليه سؤالاً، من أين أخذت هذا يا سعادة الباشا؟ ليجيب أنا رأيت كتابتك التي جاءت منك بالرغبة، ورأيت الجوابات التي أرسلت لك بالإجابة. لأفاجئه بسؤالي: لمّا رأيت كل هذا، فلماذا تزوجتها؟ هيجته الإجابة، فنادى على بعض من كان في البيت. تعالوا اسمعوا كلام هذا الولد الذي قلتُم إنه صغير لا يُعبأ به. والله منذ أن كنت الزبير، لم اسمع بمثل هذا الكلام؟ أشهد على نفسي، ما هذه البلادة؟!. ليقول لي: انظر يا بابكر، أنا صرفت على هذه المرأة بما يليق بمقامي، من لباس ومصاغ وفرش. وعزمت الآن أن أطقلها، حتى تكمل عدتها وأرجعها لك بما وفرته لها، وأنا الزبير أعمل لك هذا كله. أجبته: هذا لعمري ليس بفخرٍ. نعم ليس لدي مال كهذا، انظر أيهما أصعب التضحية بالزوجة أم بالمال. ليطلب منّي بعدها أن أجبر بخاطره، واعتبره كوالدي، ليطلقها، ومن ثم ترجع لي ، ليتدارك غلطته. لأجيب مرة أخرى: يا سعادة الباشا، كانت هذه البنت ترى بيتنا أفضل من بيت أبوها، والآن أصبحت في بيت الباشا، الذي هو أكبر بيت سوداني. فإنها لن ترضى بي. أجاب: عليّ الطلاق راضية بك. لأنّي حينما أخبرتها بوجودك جرت مدامعها وبدا عليها الحزن. لأقول له: يا سعادة الباشا، نحن الآن في أسر، ولا غرض لنا في النساء، فإذا رغبنا في الزواج بعد حين فالسودانيات موجودات. وهذه المرأة التي تراودني عليها لا أتحمل من شأنها هذه المنّة منك، ولا من أخوانها. وليس لها في قلبي ما يضطرني لتحمل هذا. وأقول لسعادتك: إن كانت هي كحواء وكنتُ أنا كآدم، يتوقف على اجتماعنا كزوجين حفظ النسل البشري، فأنا محرمها مهما حلّت لي. وضع الباشا يديه على رأسه قائلاً: أعوذ بالله من هذه الجرأة. ثم نادى أحمد عثمان أخاها، قائلاً له: بابكر قال جاء يراني ويعرفني وهو كذّاب. جاء لامراته يرجعها، فأنا الآن عزمت ان أطلقها. فتكمل عدتها ونرجعها له بما معها من أمتعة. أجاب أحمد: يا سعادة الباشا، حينما طلبت زواجها، لم نتجاهل بابكر. وقد عرضنا عليك الكتابات التي دارت بيننا. وسعادتك سمعت كلام غيرنا. ورغم ذلك طلبت زواجها. فنفذنا إرادتك. فالآن وقد حضر بابكر للغرض الذي ذكرته. وعزمك الذي عزمته، لا نوافق عليه. إذا كان بابكر بحاله السابق الذي نعرفه عنه، فمحال يتزوجها إذا طلقتها له. وإذا تغير عن حاله فنحن لا نبالي به، يغضب أو يرضى. فإذا أنت رغبت عنها فطلقها تعيش في بيتك مثل اخواتها الأخريات. ليرد عليه الزبير: علّي الطلاق كلام بابكر أحسن من كلامك، وهو أرجل منك وأعقل منك. تدخلتُ قائلاً يا سعادة الباشا، آباؤنا وآباؤهم جيران في بلدنا. نحن تزوجنا منهم ثمان نسوان، ولم يتزوجوا منّا امراة واحدة. فلهم الفضل علينا في سابقتهم. فاتركنا يا سعادة الباشا لئلا نجفوا بعضنا. أما أنا وسعادتك فعلى قرارنا. سكت لمّا رأي وعزيمتي. صممتُ على السفر للرمادي بعد العيد مباشرة. ودعت سعادة الباشا الزبير وسافرت بمركب، ثم رغبت في مواصلة سيري بالذهاب لأسوان. وسافر معي المدني بزوجته أختي . وفي الطريق مررتُ على بعض أقاربي للنظر في إمكانية رجوعهم، فرفض البعض، وأبدى البعض الآخر أنه سيلحق بنا. ومنهم مريم زوجة الفضل وصهري في مستقبل الأيام. حيث قلتُ لها إن ابنتها حفصة موجودة باسوان، وقد أبدت مريم رغبتها باللحاق بنا. فلما وصلتُ الرمادي جئتُ لعمي عبدالله بك لكي أودعه. وهناك دار بيننا في أمر رجوع البعض، فتهكم عليّ ببعض الحديث أمام مجلسه الحافل بالناس. ورددتُ عليه بصراحتي المعهودة التي رأي أنه لا تليق به، وقال لي: بابكر تعيرني أمام الناس؟!. رددتُ عليه، ثم جلستُ خارج الدار، فجاءني ممن حضر المجلس ليقول لي: لقد أغضبت علينا عبدالله بك. فرفعت صوتي لكي يصل صوتي إليه فيسمع، لأقول: من هذا اليوم لو مكثتُ في كنفه أكون (ود حرام). فأخذت أهلي في مركب وسافرنا إلى أسوان.