وحدة السدود تعيد الدولة إلى سؤال التنمية المؤجَّل    قرارات اجتماع اللجنة التنسيقية برئاسة أسامة عطا المنان    تراجع أسعار الذهب عقب موجة ارتفاع قياسية    عثمان ميرغني يكتب: لماذا أثارت المبادرة السودانية الجدل؟    شول لام دينق يكتب: كيف تستخدم السعودية شبكة حلفائها لإعادة رسم موازين القوة من الخليج إلى شمال أفريقيا؟    مناوي : حين يستباح الوطن يصبح الصمت خيانة ويغدو الوقوف دفاعآ عن النفس موقف شرف    الخارجية ترحب بالبيان الصحفي لجامعة الدول العربية    ألمانيا تدعو لتحرك عاجل: السودان يعيش أسوأ أزمة إنسانية    ياسر محجوب الحسين يكتب: الإعلام الأميركي وحماية الدعم السريع    الفوارق الفنية وراء الخسارة بثلاثية جزائرية    نادي القوز ابوحمد يعلن الانسحاب ويُشكّل لجنة قانونية لاسترداد الحقوق    السعودية..فتح مركز لامتحانات الشهادة السودانية للعام 2025م    كامل ادريس يلتقي نائب الأمين العام للأمم المتحدة بنيويورك    محرز يسجل أسرع هدف في كأس أفريقيا    شاهد بالصور.. أسطورة ريال مدريد يتابع مباراة المنتخبين السوداني والجزائري.. تعرف على الأسباب!!    شاهد بالفيديو.. الطالب صاحب المقطع الضجة يقدم اعتذاره للشعب السوداني: (ما قمت به يحدث في الكثير من المدارس.. تجمعني علاقة صداقة بأستاذي ولم أقصد إهانته وإدارة المدرسة اتخذت القرار الصحيح بفصلي)    وزير الداخلية التركي يكشف تفاصيل اختفاء طائرة رئيس أركان الجيش الليبي    سر عن حياته كشفه لامين يامال.. لماذا يستيقظ ليلاً؟    "سر صحي" في حبات التمر لا يظهر سريعا.. تعرف عليه    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة تسابيح خاطر تستعرض جمالها بالفستان الأحمر والجمهور يتغزل ويسخر: (أجمل جنجويدية)    شاهد بالصورة.. الناشط محمد "تروس" يعود لإثارة الجدل ويستعرض "لباسه" الذي ظهر به في الحفل الضجة    والي الخرطوم: عودة المؤسسات الاتحادية خطوة مهمة تعكس تحسن الأوضاع الأمنية والخدمية بالعاصمة    فيديو يثير الجدل في السودان    إسحق أحمد فضل الله يكتب: كسلا 2    ولاية الجزيرة تبحث تمليك الجمعيات التعاونية الزراعية طلمبات ري تعمل بنظام الطاقة الشمسية    شرطة ولاية نهر النيل تضبط كمية من المخدرات في عمليتين نوعيتين    الكابلي ووردي.. نفس الزول!!    حسين خوجلي يكتب: الكاميرا الجارحة    احذر من الاستحمام بالماء البارد.. فقد يرفع ضغط الدم لديك فجأة    في افتتاح منافسات كأس الأمم الإفريقية.. المغرب يدشّن مشواره بهدفي جزر القمر    استقالة مدير بنك شهير في السودان بعد أيام من تعيينه    كيف تكيف مستهلكو القهوة بالعالم مع موجة الغلاء؟    4 فواكه مجففة تقوي المناعة في الشتاء    اكتشاف هجوم احتيالي يخترق حسابك على "واتسآب" دون أن تشعر    ريال مدريد يزيد الضغط على برشلونة.. ومبابي يعادل رقم رونالدو    رحيل الفنانة المصرية سمية الألفي عن 72 عاما    قبور مرعبة وخطيرة!    شاهد بالصورة.. "كنت بضاريهم من الناس خائفة عليهم من العين".. وزيرة القراية السودانية وحسناء الإعلام "تغريد الخواض" تفاجئ متابعيها ببناتها والجمهور: (أول مرة نعرف إنك كنتي متزوجة)    حملة مشتركة ببحري الكبرى تسفر عن توقيف (216) أجنبي وتسليمهم لإدارة مراقبة الأجانب    عزمي عبد الرازق يكتب: عودة لنظام (ACD).. محاولة اختراق السودان مستمرة!    انخفاض أسعار السلع الغذائية بسوق أبو حمامة للبيع المخفض    ضبط أخطر تجار الحشيش وبحوزته كمية كبيرة من البنقو    البرهان يصل الرياض    ترامب يعلن: الجيش الأمريكي سيبدأ بشن غارات على الأراضي الفنزويلية    قوات الجمارك بكسلا تحبط تهريب (10) آلاف حبة كبتاجون    مسيّرتان انتحاريتان للميليشيا في الخرطوم والقبض على المتّهمين    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس...)    حريق سوق شهير يسفر عن خسائر كبيرة للتجار السودانيين    مياه الخرطوم تكشف تفاصيل بشأن محطة سوبا وتنويه للمواطنين    محافظ بنك السودان المركزي تزور ولاية الجزيرة وتؤكد دعم البنك لجهود التعافي الاقتصادي    الصحة الاتحادية تُشدد الرقابة بمطار بورتسودان لمواجهة خطر ماربورغ القادم من إثيوبيا    مقترح برلماني بريطاني: توفير مسار آمن لدخول السودانيين إلى بريطانيا بسهولة    الشتاء واكتئاب حواء الموسمي    عثمان ميرغني يكتب: تصريحات ترامب المفاجئة ..    "كرتي والكلاب".. ومأساة شعب!    ما الحكم الشرعى فى زوجة قالت لزوجها: "من اليوم أنا حرام عليك"؟    حسين خوجلي: (إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار فأنظر لعبد الرحيم دقلو)    حسين خوجلي يكتب: عبد الرجيم دقلو.. إن أردت أن تنظر لرجل من أهل النار!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



اليسار في السودان إلى أين؟ (4) .. تحقيق: خالد فتحي: علاءالدين محمود
نشر في سودانيل يوم 18 - 02 - 2015

الحلقة الرابعة.. مايو.. إنك لن تستطيع معي صبرا !! خطيئة (ايار) وإعصار(تموز)
تحقيق: خالد فتحي: علاءالدين محمود
مايو اتولد
فجر الجمعة (25) مايو 1969م انتبه رجل من غفوته على دبيب حركة غير عادية في طرقات أمدرمان.. لم يفعل الرجل سوى أن دعا قائلاً: يا الله انقلاب!!
لكن لا أحد استفسر عن مشاعر الرجل عندما أسفر الصبح، وجاءت الأنباء أن الجيش تسلم السلطة بقيادة العقيد جعفر نميري، الذي ترقى سريعاً إلى رتبة اللواء للمزيد من إحكام السيطرة على الأمور. وبدأ انقلاب نميري ورفاقه أبيضاً لكنه لم يلبث إلا قليلاً حتى أصدر راياته البيض حمراً قد روينا بالدماء. وأخذ"سيف الفداء المسلول" يشق أعدائه عرضاً وطولاً.. وتباعاً حصد أرواح باقة من رجال الصف الأول في السياسة السودانية بعضهم بحوادث غامضة مثل إسماعيل الأزهري وبأعواد المشنقة مثل عبدالخالق محجوب وبزخات الرصاص مثل الإمام الهادي المهدي أو بداء الغربة كالشريف حسين الهندي.
اشتراكية طوبة طوبة
وبالرغم أن انقلاب مايو أو "نميري" جاء تعبيراً صارخاً لتحالف اليسار العربي أو القوميين العرب"البعث والناصريين" والشيوعيين لكنه لم يحز رضا قيادة الحزب الشيوعي السوداني خاصة زعيمه وروحه الملهمة عبدالخالق محجوب. ففي نفس اليوم الذي وقع فيه الانقلاب، أصدر الحزب تقويماً له جاء فيه: "أكد تكتيك الحزب الشيوعي أنه لا بديل للعمل الجماهيري ونشاط الجماهير واستنهاضها لاستكمال الثورة الوطنية، وليس هذا موضوعاً سطحياً عابراً فهو يعني أن الحزب الشيوعي يرفض العمل الانقلابي بديلاً للنضال الجماهيري الصابر والدءوب واليومي".
ومن المنشور السابق نستشف أن الحزب رافض تماماً لفكرة "لوري الطوب" الذي جلبه رجال المؤسسة العسكرية إلى دار الحزب ليعاونوه على البناء الاشتراكي سريعاً بدلاً عن سياسة الخطوة خطوة التي ينتهجها الحزب بتأنٍ وروية.. وتناقلت الأوساط وقتها حكاية مجادلة أقرب إلى الطرفة الشعبية: بأن نميري سأل عبدالخالق عن سبب رفضه تأييد مايو؟ فقال له عبدالخالق: لأننا نريد بناء الاشتراكية "طوبة طوبة".. فرد عليه نميري سريعاً: لكنني جئت إليكم بلوري طوب لتسرعوا في البناء.
هناك حوادث أخرى تشير إلى أن نميري لم يكن ليهدأ قبل أن يسيطر على مجريات الأمور لكن ثمَّ واحدة منها جديرة بالتأمل. فقد سأل القيادي الشيوعي الراحل، عبد الكريم ميرغني الذي كان يشغل وزارة التخطيط في 1970م لماذا لم ينصِّبوه زعيماً للحزب الشيوعي السوداني أسوة بقائد الثورة الكوبية فيدل كاسترو؟ فرد عليه ميرغني بشيء من الجفاء : لكن أنت مازي فيديل كاسترو.. فأسرَّها نميري في نفسه لكنه عمل بدأب لتعميق الإنقسام الذي تسيَّد داخل الحزب الشيوعي السوداني بين تيار عبدالخالق محجوب وتيار "اليائسين والمغامرين" بقيادة أحمد سليمان ومعاوية سورج وفاروق أبوعيسى.
استحكام الأزمة
"بعد نجاح الانقلاب أعلن القادة الجدد حل بقية الأحزاب في السودان، وعيَّن وزراء من أعضاء الحزب الشيوعي في الحكومة الجديدة التي تألفت من(21) وزيراً بينهم فاروق أبو عيسى وزير شؤون الرئاسة وجوزيف قرنق وزير التموين ومحجوب عثمان وزير الإرشاد القومي، وقد أثار تعيينهم ضجة مما اضطر رئيس الوزراء بابكر عوض الله أن يصرح بأن الحكومة لم تختر هؤلاء لانتمائهم إلى الحزب الشيوعي لأن الحكومة السابقة حلته والأشخاص الذين عينوا تم اختيارهم بسبب كفاءاتهم وطاقاتهم، بل لقد أصدر جعفر نميري نفسه إعلاناً بهذا المضمون عد فيه الوزراء المذكورين أعضاءً"كانوا ينتسبون إلى أحزاب سابقة"، واختيارهم للحكومة تم بناءً على إخلاصهم ووطنيتهم وأمانتهم".
لكن هذا الإصرار من نميري على تعيين هؤلاء الوزراء لم يكن بسبب تلك الأهداف البريئة وحدها، فقد كان يهدف لتعميق الانقسام على طريقة(فرق تسد).
وبالفعل انقسم الحزب الشيوعي بعد هذه التعيينات التي تمت رغماً عن زعيم الحزب عبد الخالق محجوب، ولم تؤيد أغلبية اللجنة المركزية موقف عبدالخالق ".
وتزعَّم الوزراء اتجاهاً مناوئاً له بعدما جمد عضويتهم لأنهم قبلوا الوزارة بغير موافقة الحزب، وقاد حملة عنيفة ضدهم ووصفهم بعدم الانضباط وتفضيل السلطة على النضال، وردوا عليه بأنه رفض التعاون مع السلطة وأن نميري أخَّر إعلان الحكومة 12ساعة على أمل إقناع عبدالخالق محجوب باختيار الوزراء بنفسه ولكنه رفض ذلك.
في حكاياتنا مايو
والمتتبع لمجريات الأحداث في تلك السنوات المفعمة بالإثارة يجد أن انقلاب مايو وضع الحزب الشيوعي في موقف لا يحسد عليه كما فصَّل المؤرخ محمد سعيد القدال في سفره القيم :(معالم في تأريخ الحزب الشيوعي السوداني) والصحفي اللبناني ذائع الصيت فؤاد مطر في كتابه ( الحزب الشيوعي السوداني: نحروه أم انتحر؟) الذي يحتوي على وثائق انقسام 1970م.
ولم يتوقف نميري ونظامه عند تعيين الوزراء فحسب، بل بدأ يغذي شرايينه بانتهازية واعية بتراث الحزب الذي تراكم بفعل نضالات السنين الطوال فتبنى بيان التاسع من يونيو 1969م وثيقة أساسية لحل مشكلة الجنوب بطريقة مثلى المُتمثلة في الحُكم الذاتي حلاً لمُشكلة السودان في الجنوب وزاد تنسم القيادي الشيوعي جوزيف قرنق الذي تحوَّل من وزارة التموين لوزارة شؤون الجنوب، الشعور بأن حكومة نميري جادة للغاية في البحث عن حل جذري للأزمة التي أقعدت السودان طويلاً.
وطالب البيان بشروط لتنفيذه: (1) توفير وضمان الديمقراطية الكاملة للجماهير في الجنوب (2) وضع برنامج للتنمية حسب واقع الجنوب وقدرات البلاد (3) المساعدة في بناء حركة للقوى التقدمية في الجنوب. وأخيراً إعلان العفو العام.
كما استفاد من الرصيد الجماهيري الذي جذبته الشعارات اليسارية المرفوعة في 2 يونيو 1969م. نظم اتحاد عام نقابات عمال السودان الوثيق الصلة بالحزب الشيوعي و أحد أبرز واجهات ثورة أكتوبر 1964م موكباً جماهيراً ضخماً لتأييد مايو . وفيما بعد سيقارن الشيوعيين بين هذا الموكب والذي خرج تأييداً لانقلاب هاشم العطا في 22يوليو 1971م كما يقول الدكتور صدقي كبلو في كتابه " ذكريات معتقل سياسي في سجون نميري": كان الموكب كبيراً ولكنه لم يكن بحجم موكب 2 يونيو الذي نظمه اتحاد النقابات لتأييد 25 مايو، ولكن خطاب هاشم العطا كان خطاباً جديداً لقائد انقلاب عسكري".
ولم يكتف نميري بالجماهير والشعارات والجوانب النظرية، بل تحوَّل حتى لضروب الفن والإبداع.
ولم يمض وقت وجيز حتى أهدى الموسيقار محمد وردي وشاعر الشعب محجوب شريف و- الاثنان عضوان بالحزب الشيوعي السوداني- الانقلاب الوليد نشيد (في حكاياتنا مايو) ومن مقاطعه التي لا تنسى:
أنت يا مايو
بطاقتنا التي ضاعت سنينا
أنت يا مايو
ستبقى بين أيدينا وفينا
لم تكن حلماً
ولكن كنت للشعب انتظاراً
وسرعان ما اتبعوه ب (يا حارسنا وفارسنا)..
ويبدو أن النشيدين كانا عرضاً ل(أمراض الطفولة اليسارية) على حد تعبير لينين الشهير. ومن المهم جداً الإشارة إلى أن وردي وشاعر الشعب أصبح فنهما من لدن تلك الواقعة (قوساً بيد الشعب). وفي محاولة للظهور بمظهر المثقف الثوري استرضاءً للشيوعيين، عكف نميري على الاستماع إلى أحاديث لعبد الخالق مسجلة على أشرطة "كاسيت " ليزيد من وعيه في كيفية فهم القضايا وتحليلها.
التأييد الخارجي
ولعل الأهم أن نميري ونظامه استفاد أيما فائدة عبر تبنيه توجهات يسارية من التأييد السياسي والدبلوماسي والعسكري من الاتحاد السوفيتي والكتلة المشايعة له، كما استفاد من تأييد اليسار العربي المتمثل في الثقل الأسطوري لجمال عبدالناصر الذي رأى في انقلابيّ مايو بالسودان وسبتمبر 1969م في ليبيا بعثاً جديداً للأمة العربية التي ظن أعدائها أنها انكسرت وانحسرت أحلامها بعد نكسة يونيو 1967م.
وفي الاحتفال الأول بذكرى انقلابه وصل عبدالناصر إلى الخرطوم لمشاركة قادة الحكم الجديد احتفالهم وانتهز جعفر نميري الفرصة ليظهر لعبدالناصر مدى ثوريته بإعلان قرارات التأميم والمصادرة بما فيها (6) فروع لبنك مصر الذي (أطلق عليه بعد التأميم بنك الشعب التعاوني. لكن فعلة نميري لم تربك عبدالناصر، بل زاد تصفيقه قوة من موقعه في منصة ملعب إستاد الخرطوم الذي احتضن الاحتفال الضخم عندما شمل قرار التأميم بنك مصر.
ويعترف الدكتور منصور خالد "أحد سدنة معبد مايو " كما يصف نفسه في كتابه (السودان والنفق المظلم) بتأثير المشنقين على عبدالخالق وحزبه على تفكير نميري إذ يقول: (لقد وجد النميري سنداً قوياً في معركته مع الشيوعيين من داخل الحزب الشيوعي نفسه، خاصة من جانب المجموعة المنشقة بقيادة أحمد سليمان وزير التجارة الخارجية، ومعاوية إبراهيم وزير الدولة للشؤون الخارجية ووزير العمل، وحاولت تلك المجموعة إحراز نصر على الحزب الشيوعي بقيادة عبدالخالق بالضغط من أجل التأميم الشامل والمصادرات والذي قام بإعداد تفصيلاتها أحمد سليمان بمعاونة المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة أحمد محمد سعيد الأسد).
لكن أحداً من أولئك الذين خططوا لذلك "القرار الصدمة" كما كان يسمي نميري قراراته الكبرى التي يفاجئ حتى الدائرة الضيقة حوله.. لم يسأل حتى نفسه هل واقع المجتمع السوداني، على الصعيد الطبقي، هو نفسه الواقع الرأسمالي الذي بنى عليه ماركس نظريته؟-هل المجتمع السوداني هو مجتمع رأسمالي؟ وهل وصلت البرجوازية هنا إلى مستوى السيطرة على وسائل الإنتاج الصناعي؟
وقبل أن تفيق السلطة من سكرتها وجه عبدالخالق انتقادات شديدة لتلك القرارات وطالب في مقالة بجريدة (أخبار الأسبوع) بعد عودته من المنفى بضرورة التمييز بين التأميم والمصادرة، فالتأميم في البلدان المتخلفة يستهدف أمرين، الأول وضع يد الدولة على أنشطة بعينها بهدف توفير فائض اقتصادي يسهم في تحقيق خطة التنمية، والثاني وضع يد الدولة على مراكز استراتيجية في الاقتصاد الوطني لتحريره من القبضة الأجنبية، ويشمل هذا بالنسبة للسودان المصارف والتجارة الخارجية وشركات التأمين، أما المصادرة في هذه المرحلة الوسطية من الثورة الوطنية الديمقراطية، يعتبر عقوبة اقتصادية على الرأسماليين الذين يخرجون على قوانين الدولة الاقتصادية يضعفون بذلك التخطيط المركزي، وبما أن هذا الإجراء خطير في وقت مازالت فيه العناصر الرأسمالية مدعوة للإسهام في ميدان التنمية، فيجب أن تحاط المصادرة بإجراءات قانونية، كما أن التمويل الذي يقوم به الرأسماليون المنتشرون في كل بقاع البلاد ومواصلته أمر حيوي، لا بالنسبة لاقتصاد البلاد فحسب، بل بالنسبة لأمن السلطة ومستقبلها.
وزاد من الأزمة أن القرارات جاءت بنتائج عكسية وطرحت ثماراً مرة كما تؤكد برقية من ثيودور اليوت، بالمكتب التنفيذي، لوزارة الخارجية الأمريكية، إلى هنري كيسنغر، مستشار الرئيس للأمن الوطني: "لاحظنا أن نميري شعر أنه يحتاج إلى مساعدات اقتصادية منا ومن دول غربية أخرى. خاصة بعد تدهور الاقتصاد السوداني بعد أن أمم نميري شركات وبنوك رئيسة".
لكن رجال السلطة كانوا لايزالون في غيهم سادرون كما نرى في رد عمر مصطفى المكي على مقالة عبدالخالق. وعمر هذا الذي دخل في مساجلات حامية ضد الشاعر صلاح أحمد إبراهيم الذي قال وقتها : إن عمراً تمكنت منه انتهازيته كما تمكنت منه شلوخه.. فانظر كيف قلبت السلطة وبريقها هؤلاء الرجال من النقيض إلى النقيض.
عبدالخالق في المنفى
ولعل وجود عبدالناصر الذي عاد إلى الخرطوم مرة أخرى للمشاركة في احتفالات الاستقلال في يناير 1970م دور كبير في احتواء الخلافات بين تيار عبدالخالق محجوب وبين العسكريين واظهارهم من الانقساميين، وفي أبريل 1970 أقلت الطائرة عبدالخالق محجوب والصادق المهدي إلى منفاهما بمصر وهناك التقى الرئيس جمال عبد الناصروقال له: أنا أربأ بمصر أن تكون منفى للوطنيين. ورد عليه عبدالناصر: إن مصر وطنه ويمكنه أن يبقى فيه ما شاء. فقال عبد الخالق إنه يرغب في العودة للسودان، وعاد بالفعل بعد أسابيع ولم يستطع نميري أن يفعل له شيئاً وفيما بعد اعتقله في سلاح الذخيرة بالشجرة جنوبي الخرطوم قبل أن يقوم الحزب بتهريبه سراً بعد أن تفشت شائعات عن تدبير السلطة لاغتياله بالسم.
وبشأن موقف اللجنة المركزية فقد اجتمعت في اليوم التالي لنفي عبدالخالق، وقال أحمد سليمان ومحاسن عبد العال : إن نفي عبد الخالق تم لأسباب شخصية وليس له علاقة بالحزب، وهددا بعدم الالتزام بقرارات اللجنة إذا صدر منها بيان يهاجم السلطة، ونتيجة لذلك صدر بيان هزيل من اللجنة المركزية يناشد السلطة بمراجعة موقفها، فقامت منظمات الحزب في منطقة الخرطوم وأصدرت بياناً آخر، جاء فيه إن اعتقال عبد الخالق عمل موجه ضد الحزب، وأنه رد فعل لمذكرة اللجنة المركزية في 18/3/1970 لمجلس قيادة الثورة حول أحداث الجزيرة أبا، وأن اعتقال عبد الخالق يكشف التطور الجديد لأساليب الخيارات، كما يكشف عن غفلة الحزب تجاهها!! لكن السؤال هل كانت غفلة أم تغافل؟
لقد كدت تركن إليهم
والشاهد أن الصراع الأيديولوجي داخل الحزب الشيوعي كان حاداً وعميقاً. ورغم أن الحزب مازال حزباً واحداً من الناحية التنظيمية، إلا أن في داخله تيارات تتماوج وتصطرع كما يؤكد د. محمد سعيد القدال.
لكن الانقساميون لم يكونوا وحدهم فقد كاد نفر من تيار عبدالخالق نفسه أن يركن إليهم قليلاً ولسان حالهم يقول له: ها أنت تطلب مجداً يطول وأنه ليس همك وحده لكنه هم جيل فجيل.. فخذ الآن ما تستطيع.. قليلاً من الحق في هذه السنوات القليلة. بل أوشك أحد رموز الحزب الكبار الذي رحل منذ سنوات قليلة أن يقبل بطرح السلطة لو لا أن تداركته برقية عبدالخالق العاجلة من مصر بكلمات مقتضبة وقاطعة : الفرق بيننا وبينهم أننا ماركسيون. ويقول الرواة الثقات إن الرجل اقتمع وجهه لكنه لم ينبس ببنت شفة!!؟
إقصاء الضباط الثلاثة
في 16 نوفمبر 1970م لم يستطع نميري وأنصاره صبراً فقرر إقصاء بابكر النور وفاروق حمد الله وهاشم العطا، وسماهم العناصر المعوِّقة واتهمهم بنقل مايدور في أروقة السلطة لعبدالخالق . ويؤكد الصحفي ذائع الصيت محمد علي صالح الذي نشر سلسلة مقالات بعنوان : وثائق أمريكية عن السودان".. في 26 نوفمبر 1970م السفير الأمريكي في الخرطوم الأتي:"حسب معلومات من مصادرنا الخاصة، هناك تساؤلات عما إذا كان نميري يريد حقيقة التخلص من الشيوعيين. قالت لنا هذه المصادر: إن نميري قبل قرار العزل اجتمع مع مائة من كبار ضباط القوات المسلحة. وتساءل بعضهم إذا كان نميري يريد التخلص من الشيوعيين لأسباب عقائدية، أو يريد حماية نفسه. لهذا، رأينا كالآتي:
أولاً: صار واضحاً أن نميري يظل يلعب لعبة موازنة مع الجانبين الذين يعتمد عليهما: الشيوعيين، والعسكريين.
ثانياً: ربما حقيقة يريد نميري ألا يعتمد على الشيوعيين. وأمس، قالت أخبار: إن نميري سيعلن مصادرة شركة حامد الأنصاري التي تشترك في تمويل الحزب الشيوعي.
ثالثاً: هل يريد نميري التخلص من الشيوعيين؟ أو يريد تقسيمهم؟ وإذا كان يريد التقسيم، هل يقدر جناح أحمد سليمان على تقديم دعم كاف له؟ إذا نجح أحمد سليمان، نعتقد أن نميري سيقلل الاعتماد على القوات المسلحة. وإذا فشل أحمد سليمان، نعتقد أن نميري سيعزله وفاروق أبو عيسى وغيرهما، ويعتمد اعتماداً كاملاً على القوات المسلحة، وهي، طبعاً، تقليدية وليست يسارية أو حتى ليبرالية".
لكن يبقى سؤال ماذا كان عبدالخالق فاعل لوقف هذا التدهور التنظيمي؟ وكيف السبيل إلى الاحتفاظ بزمام المبادرة الذي أوشك أن ينتقل بفعل ضرورات الوضع الجديد الذي أفرزته سلطة مايو؟ ولماذا اكتنف موقف الاتحاد السوفيتي كل هذا الغموض بالطريقة التي بدت كأنها أشارات متقطعة إلى من يهمهم الأمر بأنهم لايمانعون في إزاحة عبدالخالق حتى لا يكون عقبة في طريق الثورة التقدمية.. وهل عليه أن يفعل كما فعل حسن الترابي الذي صبر حتى أعياه صبره من سيطرة العسكر فطفق يقدم نفسه نائباً للرئيس فيما يشبه التسليم بسلطتهم ؟ وهل تجاهل عبد الخالق نصيحة لينين بأن المغامرة الثورية إذا وقعت يجب أن يجتهد الثوار لتبلغ مداها. تساؤلات شتى سنأتي على تفاصيلها في الحلقات القادمة.
الحلقة القادمة .. مصادر النيران ضد عبدالخالق محجوب
التيار
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.