كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    شاهد بالفيديو.. البرهان يصل من تركيا ويتلقى التعازي في وفاة ابنه    ديمبلي ومبابي على رأس تشكيل باريس أمام دورتموند    لماذا دائماً نصعد الطائرة من الجهة اليسرى؟    ترامب يواجه عقوبة السجن المحتملة بسبب ارتكابه انتهاكات.. والقاضي يحذره    محمد الطيب كبور يكتب: لا للحرب كيف يعني ؟!    القوات المسلحة تنفي علاقة منسوبيها بفيديو التمثيل بجثمان أحد القتلى    مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



منظمات المجتمع المدني الديمقراطية والسلام .. بقلم: د. الطيب حاج عطية
نشر في سودانيل يوم 26 - 02 - 2015

ها قد عادنا نستقي الحكمة من الواقع المتحرك أمامنا. ونحن نرى كيف تحشد الأحداث الظروف التي تنشأ وتشكل، ومن ثم ينفلت النزاع بها عن كل سيطرة. ولقد صرفنا زمناً وجهداً في إيراد الحجج النظرية والأكاديمية، وأوسعنا تجارب الغير وعبر التاريخ قياساً ومقاربة؛ فإذا بنظام النزاع الثانوي في دارفور الكبرى يكاد ينفجر داوياً في وجوهنا جميعاً... وإذا بقطاعات كبرى في مجتمع آخر كمجتمع ساحل العاج ترفض اتفاقية سلام لم تشارك ولم تستشر فيها؛ فتعود للعنف الدموي ثانية. فأحداث دارفور مثال آني للصورة التي تشكل عليها أطوار النزاع، في غياب الشورى الفاعلة والمشاركة المؤثرة. وفي تجدر أوضاع الفقر والتخلف الخانق والتغريب المتصاعد، فلا يبقى لأطرافه إلا العنف سبيلاً للإصلاح، وأنى لهم، فالعنف الدموي قرين مزيد من الخراب والدمار. وما يجري في ساحل العاج ينبئنا كيف أن السلام الاجتماعي لن يتأتى إلا من باب اعتباره حق ومسؤولية كافة القوى الاجتماعية والسياسية. ومن منظور آخر فالمثالان تأكيد بأن السلام والديمقراطية والتنمية الشاملة كل مترابط تقوم عليه الحياة الاجتماعية واستدامة التعايش السلمي المشترك.
وإذا سقنا هذا الحديث خطوة، فإن بواكير انفلات الأمن وعدم الاستقرار في شتى تجلياته، تأتي كنتيجة منطقية لانفراد طرف في المجتمع السياسي بالسلطة والثروة، وعدم الاعتبار والاعتراف بالآخر في تعدده العرقي والثقافي، وحرمانه من حقوقه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وما قد ينجم عن ذلك من هيمنة وتعالي، واعتماد العنف سبيلاً للتعامل السياسي، والتغافل عن حقيقة قديمة مؤداها أن الفقر والتخلف والجهل والمرض يدفع قليلاً... قليلاً بقطاعات لا يمكن تجاهلها في المجتمع لمسارب الضيق والتمرد للبحث عن صيغ ومعادلات سياسية واجتماعية أكثر إنسانية وعدلاً وإنصافاً. فإذا لم تتأتى سبل سلمية لذلك فسيدفع المظلومون دفعاً للانتقال بخلافهم مع السلطة ومطالبهم إلى النزاع؛ ثم التمرد؛ فاتخاذ العنف بأشكاله أداة؛ ثم الاقتتال. من ثم فلن نجانب الصواب إذا خلصنا إلى أن أمن وأمان المواطن والوطن يبدأ إذن من ضمان حق المواطنين في المشاركة الفاعلة، والتعبير عن آرائهم في حرية ومسئولية، ومساهمتهم مباشرة أو من خلال آليات تمثيلية في عمليات اتخاذ القرار، وحقهم في أن يشكلوا جماعاتهم المشاركة والضاغطة والنشطة في إطار كلي يكفله تعاقد وطني مرتضى، وحقهم في أن يروا ويحسوا إمكانات التغيير والتجويد والتطوير والتنمية وفق معادلة وصيغة للحياة السلمية المدنية المشتركة( ). أي حقهم في الديمقراطية والسلام والتنمية.
والمشاركة أمر ممتد يطال السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. ولقد ظلت رؤيتنا لا تكاد تتجاوز حدود المشاركة السياسية، ظللنا حبيسي نموذج ويستمنسر الكلاسيكي. فالمجتمع المدني ليس بنية مجتمعية موازية لبنية الدولة، على هذا الإطلاق فهو وغيره من البني الاجتماعية يمثل مكونات المجتمع في عرضه وسعته( ). والدولة تتناوشها الضغوط من كل حدب وصوب، والمطالب بأشكالها وتنوعها. فعلى المجتمع والدولة تفهم أن بناء الديمقراطية وتحقيق السلام واستدامته وتحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة مسؤولية الدولة، وللمجتمع المدني دور مقدر في كل هذا.
الرؤية الكلية للسلام والأمن
السلام قد لا يعنى توقف الحرب والاقتتال. والأمن ليس بالضرورة هو أمن الدولة أو الوطن فحسب. فالوطن الذي ينعم بالسلام هو ذلك الذي لا يركن فيه فرد أو جماعة للعنف لفض النزاع. فالنزاع سمة أصيلة للعيش في جماعة( ). والخلاف والاختلاف من طبع الناس. والنزاع هو خلاف في أمر أو موضوع تحددت أطرافه الفاعلة وأركانه ومكوناته، وتأكد أن أمره قد تبلور في مواقف اجتذبت أطرافه الفاعلة. وحله يكون بتغلب مطلب أو موقف أو رأي على آخر، أو الوصول من خلال عملية التنازل أو التراضي لموقف وسط أو مقبول. وفضه يكون من خلال النظرة العميقة التي تتعرف على أسبابه الجذرية والعمل على معالجتها( ).
والسلام الاجتماعي فوق هذا وذاك هو الحالة الاجتماعية التي تتحقق في أوضاع التعاضد والتآخي والتعاون المؤدي إلى تنمية اقتصادية عادلة، وإلى إقصاء العنف عن الحياة العامة، وإلى احترام حقوق الإنسان، وإلى بناء وتقوية واستدامة النظام الديمقراطي ومؤسساته، وإلى حماية البيئة، وإلى تحقيق الرفاه للكافة. بتحقيق هذا كله نضمن تحقيق السلام ونكفل ديمومته.
المجتمع التقليدي والنظام العصبوي
لقد بين لنا التاريخ القريب كيف أن كثيراً من القوى الاجتماعية والسياسية تضمر خلف أقنعة الحداثة والتقدم ولاء راسخاً للبني التقليدية والعصبوية والجهوية التي ولدتها. وكيف أن اختياراً كائناً ما كان يعود بها سريعاً إلى ولاءاتها تلك، بل وحقيقة كيف أن يأسها من النظم والعلاقات الحديثة سريعاً ما يعود بها إلى قواعدها الأولية تلك( ).
فإذا كانت "المواطنة" هي أساس الدولة الديمقراطية الحديثة، وإذا كانت هي محققة المساواة والعدل، صنوا السلام الاجتماعي والديمقراطية، فالعصبية هي نقيض ذلك. فالعصبية العرقية (القبلية) أو العشائرية أو الطائفية أو المذهبية أو العائلية أو أحياناً الجهوية، هي بناء اجتماعي رأسي لا يستطيع أن يتمدد أفقياً ليحقق الصلات، فالتلاحم والمشاركية المجتمعية المطلوبة للممارسة السياسية التعددية مفتاح العيش في سلام. وتغب على منطقه الذاتية والأحادية وتغيب الموضوعية في المجال السياسي. ذلك لارتكازه كما أسلفنا على (بني القرابة الرأسية) والتعصب للطائفة أو المذهب أو العشيرة أو الجهة، فلا مكان هنا للتعاقد الدستوري الأفقي، ولا لعلاقات التمثيل والمشاركة التداولية، لا لحقوق للناس من ملل ولحل أخرى.
ولقد انداحت دوائر المجال التقليدي إلى المجال العصري، وبذرت فيه هنا بذرة التعصب التي كست عظامها حيناً بدثار الأيدلوجية، وحيناً آخر بالسلطوية المطلقة بأشكال تمذهباتها ومناطيقها. فبين التقليدي الأحادي والحديث اللاديمقراطي تضعضع بنيات السلام الاجتماعي الهش، وضاعت نواة الديمقراطية البازغة.
المجتمع المدني والوفاق الوطني:
إن عملية بناء ونمو وتطور المجتمع المدني ومنظماته هي الأخرى عملية اجتماعية ممتدة. ولقد شهدنا من تجلياتها في السودان عبر التاريخ الممتد ما عدنا وأدمناه في تصنيفات المجتمع الأهلي وغيرها. ونحن أحوج اليوم ما نكون لنضحي أكثر سمعة في توسيع نطاق تعريف المجتمع المدني، وليكن معيارنا هو كل ما يسد الفضاء الماثل بين الأسرة والدولة، ما كان مدنياً... موضوعياً... حراً... وقابلاً للتمدد الأفقي.
إن عدم ترحيب الدولة التقليدية العصبوية أو المتعصبة أو الأحادية أو الإقصائية لمنظمات المجتمع المدني منطقه هو أن هذه المنظمات وهذا المجتمع الحديث هو لحمة وسدى الوفاق والشورى والديمقراطية والسلام. فالموضوعية في العلاقات والتحلل من العصبوية هي الخطوة الأولى في طريق المساواة والوحدة العقلانية ومن ثم المواطنة، وكسر أسوار التعصب المذهبي والعنصري هي الخطوة الأهم في مسيرة التعاقدية والتنازل والتلاقي عند مسارات وسطى يحتمل فيها الواحد من الآخر تحت راية الدستورية حكم القانون والسلمية. فلننظر الآن إلى المجتمع المدني ومنظماته والديمقراطية. ثم لنعود للحديث عن منظمات المجتمع المدني والسلام.
المجتمع المدني وبناء الديمقراطية:
ربما ساق لنا تعبير "الحكم الراشد" مفهوماً مضلالاً إذا حسبنا أنه يقوم على معيارية ما، أو نقل من نموذج بلغ حد كماله. والمعيارية إذا كانت، فهي لقياس متحرك، غير جامد، قائم على مواءمة المفهوم للحاجات في الظرف والتاريخ المتجدد( )، وكذلك الحديث عن بناء الديمقراطية. فالبناء هنا عملية اجتماعية ممتدة في تناسق مع الأوضاع المجتمعية، وتوافق مع حدود المفهوم. وأنت ترى حركية وديناميكية التيار الديمقراطي في أوربا الغربية والشرقية اليوم. والذين خرجوا بالأمس القريب في سياتل وفيتيسا وغيرها في تظاهرات عارمة وعنيفة يريدون درجة أعلى من الديمقراطية المباشرة لتوازن بين الديمقراطية التمثيلية وأوليقارشيتها( ).
ومن خرجوا في أوارسوا ويراغ يفتقدون العامل الاجتماعي والفعالية. وتعجل من يقول بأن الديمقراطية في السودان بلا تاريخ، فهو يخلط بين النموذج الأدائي والإرث المفهومي، فالتاريخ السوداني على امتداده عرف الثورة على الظلم والطغيان، وعرف التسامح واحترام حقوق الغير. والسودان بلد متعدد الأعراق والسحن والثقافات. نعم بالسلام الاجتماعي آماد ليست بالقصيرة. ونحن ككل شعوب الأرض لا ندعي الكمال. إلا أننا مثلنا في ذلك مثل أهل إفريقيا والعالم العربي وآسيا وأمريكا اللاتينية، كان لنا إسهامنا في التراث العالمي فيما نادينا به من القيم والمثل، وفي توفيرنا للعدل وسعينا لإحقاق الحق. وبما لنا من نصيب قل أو كثر من هذا الإرث الإنساني يكون لنا الحق في النظر فيه والإفادة مما يكون فيه خير مجتمعاتنا. ونحن عندما رضينا بأن ننقل نموذج ويستمنسر، ونتبعه حذو النعل بالنعل، ضللنا السبيل. وكان علينا أن نتدارس السياق التاريخي الذي أوصل إليه ونتمعن في مفاهيم المشاركة، والتمثيلية، وحكم القانون وفصل السلطات وغيرها، وأن نرى كيف لنا أن ننزلها في حكمة وتناسب على مجتمع تغلب عليه التقليدية والعشائرية والطائفية والدينية( ). وعلينا اليوم أن نستمسك بمبادئ وقيم ومفاهيم الديمقراطية والشورى، وأن ننظر في النحو الذي تبدل عليه حال مجتمعنا في نصف القرن الذي ولي. نمعن النظر في حدة أزمتنا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وفي الحرب الأهلية التي تمزق أوصال الوطن، وفي الفرقة التي ما انفك نصلها البتار يقطع الجماعات قديمها وجديدها( ).
ما أردنا من هذا الذي أوردناه إلا أن نؤكد على حقيقتين: الأولى هي أننا لسنا بحاجة لأن نعيش التاريخ الأوربي منذ القرن الثاني عشر وحتى اليوم لنجني شرعية وحق بناء الديمقراطية والحديث عن المجتمع المدني. ذلك لأن التاريخ لا يعيد نفسه ولا في موقع جغرافي مغاير. والثانية هي ديناميكية الحياة والمجتمعات، فليس ثمة وضع أو نموذج اجتماعي إلا وهو يمر بعناصر ومسببات التغيير إن سلباً أو إيجاباً.
المجتمع المدني في سياقة التاريخ
ونحن ننقب عن جذر المجتمع المدني في غياهب التاريخ بإمكاننا العودة حتى دولة المدينة الإغريقية. ففلاسفة الإغريق في تأملهم لقضايا قسمة السلطة والحقوق بين المواطنين والدولة طوروا أفكار "التمثيلية" و"المواطنة" و"الحقوق" و"المشاركة" و"الممارسة السياسية" وغيرها، وتجلت في صياغاتهم النظرية للحدود والفواصل بين الدولة والمجتمع والأفراد. وهم وإن لم يقولوا بالمساواة بين الناس إلا أنهم ساووا بين "المواطنين" وبينوا أن مجتمع المواطنين المتساويين هو ليس الدولة، وإن كان هو المسؤول عن إنشائها. وبالرغم من صعوبة التفريق بين الحكام والمحكومين في دولة أثينا الإغريقية وديمقراطيتها المباشرة، إلا أنها بينت للإنسانية حقيقة وجود كيانين اجتماعيين هما الشعب "المجتمع"، والدولة( ).
من هنا وفي أعقاب سقوط مجتمع الإقطاع، والجلاء ظلام العصور الوسيطة، كان بإمكان مفكري عصر النهضة والتنوير أن يسعوا لتعريف من يملأون الفضاء العريض الممتد بين الدولة والأفراد ممثلين في الأسرة الوحدة الاجتماعية الأولى( ). ومن ثم أضحى الأمر يعنى بطبيعة العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، أي "الإنسان كفرد، والمجتمع كعلاقة متبادلة (الاجتماعية) وأمام دولة متميزة عن كليهما"( ). فعند توماس هوبز كان المفهوم يعني أن يحل العقد الاجتماعي محل الحق الإلهي كمبدأ للسيادة. أما جون لوك فكان يعني به الجماعة دون دولة، أي في حالتها الطبيعية. وهيقل تحدث عن الجماعة خارج الدولة. وجاءت الليبرالية لتقول إن المجتمع خارج الدولة هو في حقيقة الأمر السوق. وقال الاشتراكيون حينا أن المجتمع المدني هو المجتمع البرجوازي، وحينا أن المجتمع المدني كائن ما كانت الدولة. ثم قال الماركسيون بحتمية ذوبان الدولة في المجتمع، أي أنه لن يكون هناك سبب لوجود المجتمع المدني. والمفكرون الراديكاليون القوميون عرفوا الأمة بأنها جماع الفرد والمجتمع والدولة، أي أنه لا سبيل للنظر لأي منها كوحدة مستقلة( ). أما المدرسة الليبرالية الديمقراطية الجمهوراتية فإنها تعتقد في وجود ذلك الفضاء الكائن بين الدولة والأفراد، ورصيفتها الراديكالية التي تعتقد أن سبب وجود المجتمع المدني هو الحاجة إلى أن تبني منظمات غير حكومية على الديمقراطية المباشرة لتعوض عن اغتراب الناخبين وتسيير الأوليقاشية( ).
وما الجدل الدائر حول تعريف ودور المجتمع المدني وطبيعة علاقته بالدولة إلا نتاج المفاهيم المستلة جزافاً عن سياقها التاريخي وخلفيتها الأيدلوجية. فمن دراستنا للتاريخ يمكننا أن نفرز بين التجليات المتعددة لما نسميه اليوم بالمجتمع المدني، وكيف أنها جاءت تعبيراً عن طور من أطوار التاريخ الإنساني. ومن نرتنا للمقولات الأيدلوجية يمكننا أن نتبين تراصها في صورة منطقية عقلانية متماسكة تختلف فيها الرؤية الليبرالية عن الاشتراكية عن الماركسية عن الإسلامية، وما شئت. فالكتابات "التجميعية" تعج بكل ما أخرج عن الأطر التاريخية وعن المنطقة الأيدلوجية.
فهذا الفضاء الكائن بين الدولة والأفراد يتسم كذلك بميسم أوضاع الدول في اختلافها واختلاف مواقعها في سلسلة التاريخ الممتد. من هنا تأتي خصوصية الدول النامية والعالم الثالث ومنها السودان. فهنا يبرز عنصر التداخل والتوازي البين بين المجتمع الأهلي والعصبوي والمدني، ويطوق هذا تضاد التقليدي والحديث، ويتنازعه مخاض مكابدة التخلف. كل هذا في مواجهة مهام وأدوار جسام على رأسها بناء الديمقراطية وتحقيق السلام( ).
والأمة تسعى لبناء وتنظيم المجتمع المدني يعيقها ويعوق بناء الديمقراطية مجتمع سياسي مأزوم باستقطاب حاد وعنيف، تتلبد على سمائه غيوب اللاتسامح واللاتنازل. وما من جدوى ولا فائدة من صرف الوقت والجهد في جدل تصنيف المجتمع إلى أهلي ومدني وعصبوي، ونحن في مرحلة استعادة وبناء الديمقراطية( )، في انتقال مزلزل طال حتى المجتمع التقليدي الأهلي والعصبوي الطائفي. فديالكتيك الجمود والحركة المتمثل في المحافظة والتطور والتنمية نشهده في مقابلات القبلية والجهوية والطائفية والانتماء الحزبي وغيرها.
والمجتمع المدني ليس هو بالضرورة عدو الحكومة القائمة، فبناء الديمقراطية يعني تقويم نظام جديد للحكم يأتي بمن يأتي به. ومنظمات المجتمع المدني من شروط مدنيتها التفاعل مع السلطة الحاكمة وليس الابتعاد عنها أو بناء نظام آخر مواز لها وصادٍ عنها، وبالرغم عن ذلك فطبيعته الخاصة لا يمكن لمنظمات المجتمع المدني إلا أن تكون ديمقراطية وداعية لاحترام حقوق الإنسان( ). فالمجتمع المدني يسعى لأن يوجد مرجعية ديمقراطية خارج الدولة في مواجهة الاغتراب التمثيلي أو التسلط الديكتاتوري، وهو الترياق المضاد لعملية تمركز عملية اتخاذ القرار في يد البيروقراطية، وهو المخفف لغلواء اقتصاد السوق الرأسمالي وسيطرته على كافة أوجه النشاط الاجتماعي والفني والثقافي والخدمي، وهو الموجه للأنظمة الديكتاتورية في العالم الثالث، وهو السبيل لتطوير الانتماءات العشائرية والجهوية والطائفية( )، فهدف المجتمع المدني في نهاية المطاف هو بناء مجتمع تسود فيه العدالة والمساواة والمشاركة والرفاهية، وإذا اختارت منظماته أن تحل محل الحكومة فسيسعى المجتمع لبناء منظمات للمجتمع المدني في مواجهتها( ).
الشروط التاريخية لفكرة المجتمع المدني
حتى لا يبدو الأمر وكأنه تجميع لأفكار جيدة من كل عصر تاريخي ومن كل سياق أيدلوجي، علينا أن نسعى لتعريف الشروط الواجب توافرها في المجتمع، حتى نعده مدنياً كائناً ما كانت الدولة والمجتمع السياسي. فقد عرفنا المجتمع المدني في الدولة الاشتراكية الديمقراطية، وفي الدولة الليبرالية الديمقراطية، وفي دولة الرفاة الاجتماعي، وفي اشتراكية الدولة. ورأيناه في مواجهة بينوشيه في شيلي، وفي مواجهة الحزب الشيوعي الصيني، وفي مواجهة منظمة التجارة العالمية في كل مكان، وفي مواجهة الدولة الصهيونية الغاصبة الظالمة، وفي مواجهة ديكتاتوريات العالم الثالث.
ولنورد هنا بتصرف الإطار النظري، المتمثل في وعي متشكل تاريخياً لمجموعة التمايزات التي تمثل الشروط التاريخية لنشوء المجتمع المدني التي اقترحها جون إلى( ) ولخصها عنه عزمي بشارة( ).
- الفصل بين الدولة والمجتمع، كشرط معطى تاريخياً.
- اعتبار الفرد المواطن، وتميزه ككيان حقوقي متفرد.
- الوعي بالفروق التي تميز المنظمات الطوعية التي يلتف حولها الأعضاء في وعي واختيارية، وبين الجماعات العضوية الطبيعية كالعشائرية والقبلية.
- رؤية الفروق بين أهداف ومرامي ونظم المنظمات الاجتماعية الطوعية، وأهداف وبني المؤسسات الاقتصادية.
- التفريق بين مؤسسات وهياكل الدولة، وأهداف ونظم وبني وآليات الاقتصاد( ).
- الوعي بأوضاع المنظمات الطوعية كمؤسسات قائمة على الديمقراطية المباشرة، ومؤسسات الدولة الليبرالية ثمرة الديمقراطية التمثيلية( ).
ويعود بنا هذا إلى عملية سبر غور الفرد بالدولة والمجتمع، من حيث تمتعه أو عدمه بحقوقه السياسية والمدنية، ومن حيث كفالة التوازن بين هذه الحقوق بالصورة المؤدية دائماً لحرية الأفراد كأساس للمجتمع الحر، وللدولة العادلة المقبولة من مواطنيها.
فالمجتمع المدني لا يكون إلا بإجماع لمواطنين أحرار متمتعين بحقوقهم كافة، ومشاركين في إدارة شئونهم، مواطنين لا رعايا. فعملية بناء المجتمع المدني ومنظماته هي في الحساب الختامي عملية بناء الديمقراطية من منفذ الجمهور ومشاركته.
أية ديمقراطية نبني؟
والسؤال في بساطته يكشف لنا مدى تعقيد ومركزية وتمدد ما نجهد في البحث عنه. هو بالطبع ليس تخير أي من النماذج الديمقراطية التي تعج بها سوق السياسة في الشرق والغرب، فالديمقراطية تبقى في الحيز السياسي، لا تحيد عنه، ونحن إنما نتساءل عن المشروع القومي للتغيير، غمائم الأحلام المبهمة البعيدة التي تظل تدور في رحي إسقاط النظام الدكتاتوري وبناء الديمقراطية.
أو لم تحقق القوى الديمقراطية والوطنية ذلك من قبل من خلال ثورتين شعبيتين كاسحتين اندلعتا في أقل من نصف قرن من الزمان؟ فعلام ينطوي مشروعنا الحضاري النهضوي هذه المرة؟ استعادة الديمقراطية؟( ) ثم ماذا؟ وأية ديمقراطية؟ الديمقراطية السياسية، أم الديمقراطية الاقتصادية، أم الديمقراطية الاجتماعية، أم الديمقراطية الثقافية، أم الديمقراطية الإدارية اللامركزية( ).
وأنى لنا أن نجس مواطن الداء والعلة إلا أن نعظم من درجات تلاحمنا مع الجماهير، ونتخذ الأسلوب النقدي الشفاف في مواجهة ذواتنا وشركائنا في المجتمع السياسي السوداني، عندها تبني الديمقراطية التي يجد في استعادتها واستدامتها جل أهل السودان مصلحة لهم. لقد وئد الحكم الديمقراطي في السودان عندما تشككت الجماهير العريضة في أن لها مصلحة في الحفاظ عليه، وعندما تخلى عنه أولئك الذين حولوه لمصلحتهم( ).
إن المجتمع السياسي السوداني انطلاقاً من تجاربه الماضية لن يجني خيراً من إعادة بناء الديمقراطية الشكلية الخالية من قيم الحرية السياسية والاجتماعية والمشاركة والشورى وحكم القانون والعدالة الاقتصادية واحترام حقوق الإنسان والاعتراف بالآخر والتسامح إزاء الاختلاف واعتبار التعدد والاعتراف به وتوقير القيم والثقافة الوطنية والترحيب بالحداثة وتدجينها لتلاءم البيئة المحلية والظرف التاريخي.
هذه إذاً بعض أوصاف الديمقراطية الجديدة التي علينا أن نناضل لبنائها( ) هذه المرة، متبعين الثقافة الديمقراطية التي تأبى إقصاء أية جماعة أو فكر عن ساحة العمل السياسي، نابذين لأساليب العنف المباشر والعنف الهيكلي، محتكمين للشعب في كل صغيرة وكبيرة، فالشعب هو الفيصل في أمر التداول السلمي للسلطة، وفي حال تفضيل برنامج على برنامج( )، وهو على أية حال مصدر السلطة والحكم.
وبالرغم من أن التحول الديمقراطي لا يعني التغيير السياسي المحض، المتمثل في المشاركة في العملية الانتخابية البرلمانية، وحرية الصحافة الخاوية الجوفاء، والتمثيلية الغربية، إلا أن ضمان الحقوق السياسية والمدنية للأفراد والجماعات هي الخطوة الأولى في طريق بناء الديمقراطية، لكنها كذلك ليست الخطوة الأخيرة. فالحريات السياسية هي الضمانة لما يليها من خطوات بناء مشروع التغيير الوطني الشامل الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وإذا تحقق ذلك تتحقق مسئولية انتماء المؤسسة السياسية، وإلا سنبقى على سطحها فتذروها رياح التذمر والإحباط ومن ثم العنف( ). إن بناء واستدامة وتوطين الديمقراطية رهين بتحقيق المشروع النهضوي الشامل، المستجيب لحاجات وآمال ورغبات الجماهير العريضة، والمتمثلة في المشاركة السياسية الراشدة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية( ).
منظمات المجتمع المدني وبناء الديمقراطية
لم يجانب مؤرخو المجتمع السياسي الأوربي الصواب عندما قالوا بأن عملية بناء المجتمع المدني هي عملية بناء الديمقراطية. ونحن في سياقنا التاريخي الراهن نقول بأننا نبني منظمات المجتمع المدني لنوسع قاعدة المشاركين في عملية استعادة وبناء واستدامة الديمقراطية. وإذا كنا نتحدث كما أسلفنا عن عملية اجتماعية ممتدة، فإن ذلك يكشف أن ما نحن بصدده لا يعني نقل نموذج معد سلفاً. والتعامل مع وصفة صالحة لكل زمان ومكان يدفعنا لتبيان تعدد المهام ومدى تعقيدها، ومن ثم الوعي بأهمية أن يجعل المجتمع المدني ومنظماته عملية استعادة الديمقراطية واستدامتها على قمة أولوياته. فإشاعة ثقافة الديمقراطية تتطلب المشاركة العريضة في عملية استعادتها ذاتها، أو تتطلب أن نعي الطبيعة المعقدة للمهام الممتدة. وكما أسلفنا فإن بناء منظمات المجتمع المدني وانتشارها لتغطي شتى صنوف الأنشطة الخدمية والثقافية والسياسية والتعليمية والتوعوية، هو مساهم في التسريع بعملية بناء الديمقراطية. ولن يكون كل ذلك ميسوراً، ولن يتحقق دون مواجهة ما أسماه غليون بالتحديات الموازية، المتمثلة في مقاومة القوى غير الديمقراطية التي تجهد للحيلولة دون إكمال عملية التحول الديمقراطي، وتلك الأخرى المتمثلة في تحديات ثقافية (تغير منظومات القيم وثقافة الاقتداء والتسليم والاعتراض السلبي والقيم الدينية والطائفية والتمييز والفردية الأنانية وغياب اللحمة الوطنية) واجتماعية واقتصادية ومؤسساتية( ). وإذا كنا نريد أن نجعل من عملية استعادة الديمقراطية وضمان استدامتها معركة رئيسة للتغيير الاجتماعي، وبناء مشروع تحديثي أصيل وشامل ومتواصل يمس جذور مشاكلنا فيقتلعها، فإن علينا أولاً أن نضمن تحقيق أشراط أربعة( ). ممارسة السلطة العمومية من قبل ممثلين منتخبين في انتخابات حرة وعامة، أي الاعتراف بالسيادة الشعبية، وتكريس دولة القانون التي تضمن احترام القانون وتطبيقه بالتساوي على جميع أفراد المجتمع كبيرهم وصغيرهم، غنيهم وفقيرهم، وتأمين العدالة الاجتماعية من خلال نظام للتكافل والتصحيح، يضمن تجنب تهميش الأغلبية الاجتماعية ثقافياً وسياسياً، وضمان الحريات الفكرية والسياسية والتنظيمية، إدارة مسؤولة وكفأة( ). إن تحقيق تقويم هذه العمد الأربع الرئيسية لا يمكن أن يكون مسئولية الخبراء والسياسيين فحسب، فهي أولاً وبصفة رئيسة مسئولية المجتمع المدني ومنظماته من خلال بنيتها الديمقراطية الشعبية، وأطرها وحقوقها القانونية، ومسئوليتها الاجتماعية تمثل حلقة الوصل المثلى بين الدولة والمجتمع، فهي الأجدر أن يناط بها، وأن توكل لنفسها كذلك مهام التوعية والعبئة والتفاعل مع قواعدها( ) أي مع الجمهور العريض.
منظمات المجتمع المدني واستعادة وبناء الديمقراطية
إن وهن وضعف المجتمع السياسي سمة تغلب على جل الدول النامية، ومنها السودان، فأوضاع التخلف في السودان لم تتح للتجارب الديمقراطية الفضاء الزمني التاريخي اللازم لتطوير العملية الاجتماعية. وذلك بسبب توالي هيمنة الدكتاتوريات العسكرية والمدنية على الحكم. ولم يقتصر الأمر على السيطرة على السياسة إنما تعداه بصورة مباشرة، أحياناً، وغير مباشرة إلى خلو ساحة المجتمع المدني من المنظمات أو يكاد، أو تحويل ما هو موجود منها إلى أدوات من أدوات السلطة( ). فهي بانتقالها من موقع الاستقلال عن الدولة صارت جزءاً عضوياً منها. فمهمة القوى الديمقراطية الراهنة العاجلة هي الاستمرار في بناء المنظمات الطوعية والنقابية والثقافية والفئوية والعلمية والفنية وغيرها. ويؤدي ذلك إلى تعاظم القوى اللازمة لتحقيق التحول الديمقراطي، ومن ثم تثبيت دور المجتمع المدني ومسئوليته في بناء الديمقراطية، وتحقيق قدر من الممارسة الديمقراطية (المباشرة) في محيط اجتماعي قابل للتوسع( ).
إن فقر وسطحية الوعي والثقافة السياسية عموماً هو الذي يؤدي في أحيان كثيرة لتراجع ارتباط وتمسك الجماهير بالنظام الديمقراطي، وبالركون للتسليم أحياناً بإمكانية وجود الدكتاتور العادل. إن ثقافة الديمقراطية تعني فيما تعني أن المشاركة تكون كذلك في المساهمة الجماهيرية العامة في عمليات اتخاذ القرار، وفي الإنتاج والبناء المادي، وفي التضحية والنضال السياسي والنشاط الاجتماعي والاقتصادي. فالأمر في مجمله يتجاوز الممارسة السياسية الموسمية إلى العمل اليومي في شتى المجالات الحياتية، لا السلبية التي تتبرم من أن النظام الديمقراطي لم يحول الدولة إلى دولة رفاهة بين غمضة عين وانتباهتها، ومن ثم لا جدوى من استمراره( ).
إن توسيع مجالات عمل منظمات المجتمع المدني في المجالات السياسية، والنقابية، والاجتماعية، والخدمية، والثقافية، والفنية، والدينية، وغيرها، يبرهن للجماهير إمكانية تحقيق تقدم. وإمكانية العمل بفعالية جماعية يتيح للعضوية بتخصصاتها وميولها وانتماءاتها المختلفة أن تساهم في البناء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي. وتبين للجمهور بصورة مباشرة ومرئية أن العمل السياسي هو في كل مجال وليس فيما يسميه الفرنسيون سياسة السياسيين. عندها تبذر بذرة الثقة في القدرة الذاتية، وتمتن عرى الانتماء والروابط الأخرى.
إن توالي نضال منظمات المجتمع المدني لتحقيق أوضاع قانونية تنظيمية أفضل يعود على المجتمع المدني كله بما يحققه من سيادة لحكم القانون والدولة العقلانية الراشدة.
إن إشاعة الديمقراطية في بناء منظمات المجتمع المدني هو خطوة أولية في عملية بناء الديمقراطية في الوطن كله. إن إحتكار بعض النخب للعمل الطوعي ليس من الديمقراطية في شيء، وهو تمثيل آخر لظاهرة ديمومة القيادة السودانية. إن قصر معرفة تفاصيل مجريات الأمور في المنظمة بين أعضاء اللجان التنفيذية والمجالس هو ممارسة ديكتاتورية كذلك. وغير هذا المناضل من أجل الديمقراطية يجب عليه ممارستها في كل مكان وحين.
والديمقراطية تعني فيما تعني الاستقلالية ورفض الاتكالية والاعتماد على الغير. إن العون الأجنبي مع أهميته لا يخلو من أجندة أخرى للمانحين. وهو حتى إن قام عليه حل نشاط المنظمة يجب أن لا يحول دون السعي لتحقيق الاستقلالية الاقتصادية، والاعتماد على الذات، فتلك هي أعمدة الاستقلال الفكري والسياسي.
إن على منظمات المجتمع المدني أن توسع من مدى أنشطة التنشئة الاجتماعية، حتى تطال مجالات التوعية السياسية، والتدريب السياسي والحقوقي والمدني، إضافة للتعليم والإرشاد في كافة مفاصل قوس قزح السياسة والاجتماع( ).
إن مباشرة تقديم الخدمات في مجال الحاجات الأساسية للمجتمعات الفقيرة والمهمشة، من تعليم، ومياه شرب نظيفة، وخدمات صحية، وأنشطة مدرة للدخل، ونظام للحكم الراشد، هي أساسيات التنمية البشرية المستدامة.
إن على منظمات المجتمع المدني أن تخوض غمار التعبئة والنضال السياسي السلمي القانوني، والاحتجاج، والمطالبة( )، وتكوين جماعات الضغط، للتأثير على عملية اتخاذ القرار، ولعرض قضايا ووجهات نظر ومساهمات المجتمع المدني.
إن بناء الشبكات والتحالفات وتجميع القوى لأجل قضية بناء الديمقراطية ينتقل بالمنظمات من مباشرة قضايا ذات طابع خاص وتهم جمهور محدد، إلى تحويل تلك القضايا إلى موضوعات ومطالب عامة تهم الجمهور العريض، وبالتالي تتأتي مشاركة أوسع وأثقل وأجدى.
إن الإصرار على حفز كل الأعضاء على المساهمة بقدرٍ ما في عمل المنظمة وأنشطتها، هو في حقيقة الأمر توسيع لقاعدة المشاركة، وإعداد لجمهور أعرض للوعي بقيم الديمقراطية ومن ثم جدواها وضرورة الحفاظ عليها.
إن الدعوة لابتعاد منظمات المجتمع المدني عن أنشطة ومجالات المجتمع السياسي، هي دعوة مضللة وساذجة. فكل الأنشطة المؤدية لبناء الديمقراطية هي أنشطة سياسية، وليس ثمة مجال في حياة إنسان إلا وهو من السياسة، أو أخذ منها بطرف.
إن بناء الديمقراطية والحكم الراشد هو السبيل الأوحد لضمان الحريات والحقوق واحترام التعدد والتنوع وإدارته. وتلك هي نقطة الانطلاق في الدعوة إلى إجماع وطني يلتف حول مسعى بناء الديمقراطية.
إن إدخال تلك العقيدة السياسية الجمعية في وعي كافة منظمات المجتمع المدني، من منظمات طوعية ونقابية، وأحزاب سياسية، ومؤسسات تعليم، ووسائل ومنظمات ثقافية ودينية، هو صمام الأمان لضمان عودة الديمقراطية وإمكان استدامتها.
إن عودة وثبات الديمقراطية الجديدة يعتمد أول ما يعتمد على وجود مجموعات، وفي تطبيق مصالحها ومصالح تقدمها مع روح الديمقراطية وفلسفتها، ذلك بالطبع لن يتأتي إلا من خلال توسيع قاعدة بناء الديمقراطية، ومن خلال حفز الجماهير العريضة وتدريبها وتمكينها من مباشرة الممارسة الديمقراطية.
إن المجتمع المدني، وهو خارج الدولة، هو البنية الأعرض التي تضم النخب والقواعد من خلال ديمقراطية أكثر مباشرة. له دور أساسي وفاعل في استعادة وبناء وتحقيق استدامة الديمقراطية، التي تعني استدامة التجانس القومي، وتغييب العنف، وتبني السلمية، والقبول المتبادل.
والديمقراطية تمثيل حقيقي للتراضي الوطني، والرغبة الجماعية في العيش في سلام( ). فمن خلال قيمها وفكرها ومؤسساتها ونظم عملها تعالج القضايا الخلافية، وتتراضى الأطراف قبولاً وتنازلاً، في توفيق أمور مصالح الجماعات وحاجاتها ومواقفها، في سلمية وسلاسة( ).
منظمات المجتمع المدني والسلام
إن بناء المجتمع المدني وتطويره، ونشدان مشاركته في عملية استعادة وبناء السلام، تمثل في حد ذاتها الخطوة الأولى في ذلك الاتجاه. فإن السعي لتغليب التنظيم المدني الديمقراطي الجامع، اعتمد أفقياً هو السبيل الأول للتحول التاريخي المأمول من العصبوية والتعصب، إلى المدنية والسلمية والموضوعية والتلاقي الأفقي في الإطار التنظيمي الحديث غير التقليدي. ذلك الذي لا تكبله الأطر القبلية ولا الجهوية.
إن الممارسة الديمقراطية الحقة تبدأ عند منظمات المجتمع المدني، وبخاصة الأحزاب السياسية، ثم التنظيمات المتخصصة في تلونها وتعددها( ). إن عملية التمدد التنظيمي الأفقي وفق خيارات موضوعية لخدمة العام والاجتماعي والوطني تعني فيما تعني التحلل من الخاص المتعلق الذي سريعاً ما يلجأ لكل وسيلة، في لا موضوعيته، لخدمة مصالحه، للدفاع عن ذاته، أو هويته. فذوبان التقليدي والعصبوي في سلمية في المجتمع المدني يمكننا من اعتماد طرائق السلمية والموضوعية والتراضي والتنازل( ). ما نريد أن نقوله هنا أن مجرد الركون لمنظمات المجتمع المدني، وإيصال أدوارها في العملية السلمية فيه انحياز لخيار التوفيقية السلمية التعاقدية.
إن الأوضاع التقليدية والعصبوية هي كذلك نتاج تطور تاريخي ممتد، والتقليل من قيمتها أو إغفال دورها أو معاداتها ينكر عنها خفها في اعتبارها مرحلة في سياق تاريخي متغير، ويدفع بتلك القطاعات لأن تسل سيوفها مدافعة عن ذاتها ويقلل من فرص التفاعل السلمي الطبيعي.
إن الوعي والمعرفة هما ذخر المثاقفة، تلك العملية السلمية الممتدة التي تأخذ الثقافات فيها عن بعضها، فتبني عتبات التداخل، وتتاح فرص التلاقي إلى أمد ممكن، والمثاقفة وليس الغض الثقافي هي ضمان تمكن روح السلمية والتآخي الوطني، وهي التي تقود لاحترام التعدد والاعتراف بالآخر واعتباره. ولمنظمات المجتمع المدني هنا الدور الأول بما لها من قدرات واسعة في النزول إلى القواعد الشعبية، وتوسيط الصفوات، واتخاذ أساليب التوعية والإرشاد، وتعليم الكبار، والتعليم النظامي، والمزاوجة في مرونة بين أنشطة إنتاجية وخدمية، وأنشطة التنشئة الاجتماعية وغيرها( ).
ومنظمات المجتمع المدني لها القدح المعلى في إتاحة منابر للحوار، على مستوى القواعد، وعلى مختلف المستويات الطبقية والثقافية. وهي وحدها القادرة على إتاحة الفرص لتسنم مسئولية ما على المساواة لأفراد عضويتها.
إن مهام برامج إعادة البناء والتعمير (DRRR) مهام جسيمة وأساسية، أهميتها تأتي من أن ما ينجم عنها سيحدد ما إذا كان السلام سيبني على عمد راسخة ودائمة، أم أن الناس سيخذلون فيما سينتج، ومن ثم يعود العنف والدمار والخراب.
والدولة السودانية والدول كلها في العالم الثالث قاصرة عن الوفاء في تمكن وقدرة بمتطلبات مشروعات إعادة البناء والتعمير وكافة المهام اللاحقة لتوقيع اتفاقية سلام( ). وذوي القربي، منظمات المجتمع المدني المحلية، هم الأدنى والأحق بالمشاركة في مهام البناء، وخدمات العودة للعائدين، وتوفير التعليم والصحة والطعام والنظام، واستعادة الأوضاع الطبيعية للاجئين والنازحين، وإعادة استيعاب المقاتلين، ومعالجة الصدمات النفسية والاجتماعية، ومساعدة الناس على السير للخطوة الأولى في طريق السلام، والانخراط في المجتمع الجديد( ).
خاتمة:
إن محادثات السلام في مشاكوس تتيح للسودان فرصة تاريخية لإيقاف الاقتتال ونزع السلاح والعودة للسبل السلمية لإدارة دفة أمورنا. إن توقيع الاتفاقية هو الخطوة الأولى للسير في درب السلام الطويل. إن علينا أن نفرق بين التسوية وفض النزاع. ففض النزاع يعني أن تعالج جذور المشاكل الوطنية. وتلك عملية ممتدة في تفاصيلها وفي إطارها الزمني.
والدولة وحدها، وشريكتها الحركة الشعبية، لن يستطيعوا الوفاء بما هو مطلوب لتحقيق السلام وضمان استدامته.
إحالات مرجعية
- برهان غليون، "المقدمة". إسماعيل فيرجون وآخرون "مستقبل الديمقراطية في الجزائر" مركز دراسات الوحدة العربية بيروت، 2002م.
- أنتوني جيرنز، "الطريق الثالث" تجديد الديمقراطية الاجتماعية، دار الرواد.
- علي خليفة الكواري، مفهوم المواطنة والدولة الديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2001م.
- عبد العزيز الصاوي، "حوارات الهوية والوحدة الوطنية" مركز الدراسات السودانية، القاهرة 1994م.
- سعيد بن سعيد العلوي، نشأة وتطور مفهوم المجتمع المدني في الفكر العربي الحديث، ورقة قدمت للندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 1992م.
- عزمي بشارة "المجتمع المدني" دراسة نقدية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 1998م.
- نحو مشروع حضاري عربي، بحوث مناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2001م.
- عوض الكريم موسى، ديمقراطية بلا أحزاب، الدار العالمية للطباعة الخرطوم، 1998م.
- الدكتور متروك الغانم، المجتمع والديمقراطية والدولة في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، 2002م.
- Andrew Arato, "Civil Society Against The State: Poland (1979-1981) Telos No.47 (INTERNET Sources).
- محمد شيماء، جدلية النقض والوحدة في المشرق العربي (1970-1990م) دراسات الفكر العربي (بيروت) 1991م.
- John Ely, "The Politics" Civil Society, Telos 93 (Fall 1972), P. 164.
- الدكتور متروك الغالي، المجتمع والدولة والديمقراطية في البلدان العربية، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت 2003م.
نشرت في مجلة أفكار جديدة سبتمبر 2002م العدد السابع.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.