روسيا ترفض لتدخلات الأجنبية في السودان ومخططات تمزيقه    البرهان يودع سفيري السودان لمصر واثيوبيا "الفريق أول ركن مهندس عماد الدين عدوي والسفير الزين إبراهين حسين"    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. الناشط صلاح سندالة يسخر من المطربة المصرية "جواهر" بعد ترديدها الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله) خلال حفل بالقاهرة    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    السودان..البرهان يصدر قراراً    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى أباظة (1933-2011) .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 03 - 03 - 2015

يستخدم بعض الأشخاص اليد اليسرى أكثر من اليد اليمنى في الأمور الشخصية، مثل الأكل والكتابة، خلافاً للسواد الأعظم من الناس، وهذا الشخص يسمى"أشول" أو "أعسر" باللغة الفصحى.الدراسات العلمية تقول إن هذا الاختلاف في استخدام اليد ناتج عن أي نصف من الدماغ يسيطر على الحركة حيث أن الدماغ مقسم الى فصين أيمن وأيسر،لكن في النهاية ترجع الى أسباب جينية وراثية. ويقال إن حوالي 13% من الرجال و11% من النساء "شول" الآن وأن هذه النسبة في ارتفاع مستمر نظراً الى زيادة تقبل المجتمع لهذه الصفة بعد أن كانت تعتبر قديماً عاهة في الانسان، بل أن الشاعر لم يتردد في وصف تقديم احدى الحسناوات لفنجان من القهوة بيسراها بأن ذلك يسوى الدنيا بما فيها!: "فنجان جَبَنَة بي شِمالو يسوى الدنيا بحالو" في قصيدة جميلة من شرق السودان أبدعت في أدائها فرقة عقد الجلاد.لكن الشاعر القامة خليل فرح اشترط على محبوبته أن تضمه بيدها اليمين حين قال في أغنيته المشهورة "عزه في هواك": "وقلبي لسواك ما شفتو مال ...... خديني باليمين وأنا راقد شمال".ومن ملاحظاتي أن هذه الفئة، أي"الشول"، تتميّز وتتفوق على غيرها في عدة مجالات، ورغم أنهم أقلية الا أنهم يشكلون أكثر من 50% من المشاهير والسياسيين والعظماء.وقد لاحظت أيضاً أن هنالك صفات مشتركة ربما في أغلب أفراد هذه الفئة، مقارنةً بالفئة التي تستخدم يدها اليمنى، ومن الصفات المشتركة هيأنهم:
- أكثر عبقرية وذكاءً
- أكثر دبلوماسية وكياسةً
- أكثر طلاقة وخطابةً
- أكثر مهارة وحرفةً
- أكثر احساساً ورهفةً
- أكثر ايلاماً في الضرب
ولاحظتُ هذه الصفات مجتمعةً أو متفرقةً في كل أشول قابلته وهم قِلة، لكن عايشتها أكثر وعرفتها عن قرب في خالي الوحيد أباظة طيب الله ثراه.والآن تمر علينا الذكرى الرابعة لرحيله الا أن شخصيته لم تبرح بالى لحظةً، فقد كان نعم الخال والوالد والأخ والصديق.عاصر حياتنا منذ الطفولة حيث بدأ معنا بالتأديب والعقوبات ورويداً رويداً صار صديقاً عندما شبينا عن الطوق.إنها شخصيةٌ جديرةٌ بالمعرفة والوصف كما سوف أذكر لكم هنا عسى ولعل أن تشاركوني الرأي في تمّيز هذه الفئة.
وربما يكون من المناسب أن أعدد لكم هنا أسماء بعض المشاهير من هذه الفئةعلى سبيل المثال لا الحصر، فمن القدماء سيدنا عمربن الخطاب(رضى الله عنه)،والمهاتما غاندي،ونابليون، والاسكندر الأعظم، ويوليوس قيصر، والملكة فيكتوريا، وليوناردو دافنشي،وبيكاسو،وهتلر،وبتهوفن،وموزارت. وحديثاً شارلي شابلن،واينشتاين، ومايكل أنجلو،ومارلين مونرو،وفيدل كاسترو،وفلاديمير بوتن،والأمير تشارلز وابنه الأمير وليام، والرؤساء الامريكيون جيمس قارفيلد، وهيربرت هوفر، وهاري ترومان، وجيرالد فورد،وبيل كلنتون،وجورج بوش الأب، والرئيس الحالي باراك أوباما.ومنهم من حاز على جائزة نوبل للسلام المعروفة مثل مدام كوري الفائزة بجائزتي نوبل في الفيزياء، وفي الكيمياء، بالإضافة إلى اوبرا وينفري، وهنري فورد وبيل قيتس. لكن مما يُستغرب له، وكما تلاحظون، أن سبعة من رؤساء الولايات المتحدة الأمريكية من فئة الشول..!! فماذا أنتم قائلون يا أهل اليمين؟
وربما يتساءل البعض عن اسم "أباظة"فهو اسم شائع في مصر وليس في السودان. وقد حكى لنا ذات مرة أن هذا الاسم هو اسم لعائلة نوبية حدودية انقسمت قسراً الى جزءين بفعل الخط الحدودي الفاصل بين السودان ومصر، جزء من الأسرة استقر في أقصى شمال السودان في وادي حلفا والجزء الثاني استقر في أقصى جنوب مصر في بلانة وقسطل وعنيبة. وكان أفراد هذه الأسرة في البلدين يتزاورون كثيراً قبل بناء السد العالي وهجرة النوبيين الى شرق السودان في خشم القربة وإلى جنوب مصر فيكوم امبو وبقية أرض النوبة حيث بعدت المسافات.ويقال إن الكاتبين المصريين المعروفين فكرى أباظة وثروت أباظة وكذلك الممثل المصري القدير رشدي أباظة ينتمون إلى هذه الأسرة السياسية العريقة.وهناك قول إنهم ينحدرون من الأسرة الأباظية الشركسية المعروفة المهاجرة من أبخازيا في عهد المماليك وإبان حكم محمد على باشا لمصر في الفترة من 1805 إلى 1848. وتقع أبخازيا في الساحل الشرقي للبحر الأسود في القوقاز ولهم وجود في تركيا، وقد أعلنت في عام 1991 استقلالها عن جمهورية جورجيا التي كانت ضمن الاتحاد السوفييتي.
لمن لا يعرفون أباظة،فهو محمد حسن دهب أباظة، ولد في حي السجانة الحالي بالخرطوم في عام 1933
وبعد أن تم فطامه، في سنتين،اُرسل إلى حبوبته من والدته الى واديحلفا ليعيش طفولته في قرية "كمجانة" بدبيرة حتى يتعلم اللغة النوبية كما كانت العادة في ذلك الزمان، حفاظاً على اللغة واستمراريتها بين الأجيال المتعاقبة، إلا أنه كان شقياً ومشاكسا، ولم تستطع حبوبته الإشراف على تربيته، وجن جنونها ولما ضاق بها استغاثت بوالديه فأعيد أدراجه الى قواعده في السجانة بالخرطوم.كان قد درس المرحلة الأولية في منطقة سوق الخميس "بدبيرة" والمرحلة المتوسطة في الخرطوم ثم عمل موظفاً في مصلحة البريد والبرق آنذاك ثم في الطيران المدني في وادي حلفا وملكال والفاشر والأبيض ومطار الخرطوم.والده المرحوم "حسن دهب أباظة" عمل في كافوري بالخرطوم في خمسينيات القرن الماضي ووالدته المرحومة "سكينة سليمان صالح بيك " من عائلة الولياب وأخته الوحيدة هي الست "هانم حسن دهب"أطال الله في عمرها، درست في كلية المعلمات بأمدرمان في عام 1942 وأصبحت من أوائل المعلمات في منطقة وادي حلفا وهي كاتبة وشاعرة، وقد أعانتني بالمعلومات عن طفولته وصباه. ترك أباظة وراءه زوجتين،وأنجب بالتساوي ولدين وبنتين من كل زوجة، ربما ناشداً العدل،وأصبحوا جميعهم آباء وأمهات بحمد الله وحفظه. توفاه الله في السادس من أبريل عام 2011 بعد صراع طويل مع مرض "الباركنسون" ودفن بمقابر حلفاية الملوك حيث كان يقيم.
على غير العادة سوف أبدأ هذه اللمحات من حياته بالشيءالذي كنا نكرهه،فعندما كنا في مرحلة الطفولة كنا أطفالاً أشقياء بمعنى مشاكسين،وبين الفينة والأخرى كانت هناك شكاوى ضدنا سواءً من المدرسة أو الجيران أو سكان الحى. وكان الوالد رحمه الله يغضب لتلك الشكاوى إلا أنه كان عاطفياً ويكتفي معنا بالتوبيخ ولكنه كان يستنجد بالخال أباظة في عقوبة الضرب والجلد والتعذيب بأشكاله المتنوعة أو المدرسة إذا كان الخال غير موجودٍ لسبب أو لآخر.كان أباظة لا يخاف لومة لائم ويضربنا ضربات موجعة– بيده اليسرى – حرصاً منه على تأديبنا وكان يحتفظ بكل أدوات التعذيب من سوط وخيزران وحبل وفلقة... ما عدا بيوت الأشباح.وكان والدى يستدعيه دائماً لأداء هذه المهمة،فصرنا نخاف منه ونعمل له ألف حساب...وأذكر أنه،لسبب ما،كان قد عاقب ثلاثتنا،شخصي وشقيقي الأصغر أمين وخالنا عوض، بربطنا بحبل مع أرجل السرير ليلاً، لكنه ترك حبل أمين طويلاً باعتباره صغيرا وتابعاً، أما أنا وعوض فالحبل كان على قدر الربطة فقط ولذلك استطاع أمين أن ينام الليل كله مرتاحاً فوق السرير إياه في حين نحن الأثنان ظللنا نتعذب تحت السرير ذاته حتى جاء خالي في الفجر وأطلق سراحنا بنفسه وهذه كانت قوانينه....لكن عندما اجتزنا مرحلة الطفولة والشقاوة أصبح لنا أخاً كبيراً بل صديقاً نحكى له كل شيء في حياتنا لنأخذ تجاربه وصار البساط أحمدي بيننا، كما يقولون.
كان أباظة أديباً وشاعراً،يتميز بجمال الخط عندما يكتب–رغم أنه كان يكتب بيده اليسرى – وعذوبة الكلمات ورصانة الأسلوب وحلاوة التعبير وقد كتب نثراً وشعراً كثيراً في الحب والجمال والذكريات والهجرة والرثاء.وبما أن ديوان شعره لم يرَ النور، فسوف أذكر لكم هنا بعض الأبيات من قصيدته "ذكرى وادي حلفا" حيث قال:
ذكراك يا حلفا وأيام الطفولة والصبا
يا مهد آبائى وأجدادي ومسقط رأسيا
ستظل عاطرة وباقية عندي مدى أياميا
ما زلتِ وإن وليتِ شطر هذا الواديا
ورحلت مكرهاً لعَمرِى كان يوماً قاسيا
وتركت من خلفي نهر النيل ينبش في القبور
مبعثراً قيم الرجال وكل شيء غاليا
حتى المناظر والنخيل الباسقات الدانيا
وهي قصيدة من 42 بيتاً كانت قد جادت بها قريحته على أثر ابتلاع مياه النيل لوادي حلفا بعد بناء السد العالي في مصر. وكان أيضاً قد ألف قصيدةً طويلةً صادقة الوصف والمشاعر بعنوان"اليوم الموشح بالسواد"في رثاء المناضل الأستاذ أبوبكر أبوالريش المحامي طيب الله ثراه،الذي توفى عام 1987 وكانت تربطها علائق القربى والفكر ونذكر منها بعض الأبيات التي نشرت داخل إطار نعّي الأستاذ أبوبكر في صحيفتي الرأي العام، والميدان آنذاك:
كانت الأقدار تنسج في ظلام... الليل أثواب الحداد
حين استبد الدهر واختطف المنون مهنداً برحيله انتكست شعارات الجهاد
كان للخطب الأليم على امتداد القطر آلاماً وأحزاناً تؤجج في الفؤاد
كان صنديداً في سقمه ومثابراً في كده وكفاحه فأنهكه السهاد
كان وقاداً وعقلاً راجحا يحمل القانون مقدرةً وعلماً واجتهاد
واليوم ساحات العدالة قد خلت من صوته ودفاعه وقد جف المداد
لك الغفران والجنات يا بكري ونطلب ضارعين الصبر من رب العباد
كان أباظة مرهف الإحساس دائماً، فبجانب اقراضه للشعر كان يحب الشعر الغنائي والفن بصفة خاصة وكان يؤدى الأغاني بصوت عذب جميل كما كان يجيد العزف على آلة العود، وأذكر أنه كان رئيساً لنقابة الفنانين في وادي حلفا في ستينيات القرن الماضي والتي كانت تضم عدداً من المغنين والعازفين أذكر منهم حسن ودوده وعز الدين سمبسون وقاسم جرجاوى وكحروت والتجاني.ومن الأغاني التي كان يعشقها وسمعته يترنم بها دائماً أغنية الفنان رمضان زايد"الزهور صاحية " والتي تقول كلماتها:
الزهور صاحية وإنتنايم
داعبت شعرك النسايم
وأيقظك صوت الحمايم
شعرك الناعم المسرح
بين موجات وعقلي سرح
وكان أيضاً يردد أغاني الفنان العاقب محمد حسن: "يا حبيبي نحن إتلاقينا مره... في خيالي وفى شعوري ألف مره" وكذلك أغاني صاحب الحنجرة الذهبية الفنان عثمان الشفيع: "الذكريات في كل ليلة" و"القطار المرَّ" و "يا النسيت أيامنا" و"الزهور والورد" و "الشاغل الأفكار"و"في الضواحي وطرف المداين"،وكنت أراه أيضاً يدندن بالعود أغاني الفنان الكبير الكاشف.."وداعاً روضتي الغناء" و"أنا ما بقطف زهورك". ولعشقه للموسيقى والفن سمى أصغر أبنائه "أمير الحُسن". ومن الأغاني التي عشقها ورددها كثيراً أغنية " لحن الحياة" للفنان عثمان الشفيع والتي يقول فيها:
لحن الحياة منك وما تقول
نسينا الماضي وصرنا
ناسينك محبوبي الجميل
سألوني منك...عرفتهم
إيه الصفات عنك..خبرتهم
شافوا الجمال منك..أقنعتهم
بجانب موهبته في الفن والموسيقى والشعر كان أباظة مهتماً بالجانب الرياضي، وكما يقولون "زول كفر ووتر". وأذكر عندما كنت لاعباً في فريق "نادى التوفيقية الاجتماعي الرياضي" بوادي حلفا كان هو سكرتيراً للنادي ومشرفاً على فريق كرة القدم نسبة لنشاطه وخبرته الإدارية. وكان عهده عهداَ ذهبياً للنادي حيث حاز فريق نادى التوفيقية، ولأول مرة في تاريخه، على كأس البلدية المعروف بعد أن هزم فريق "دغيم" في المباراة النهائية في إستاد وادي حلفا،وقدم له الكأس مفتش المركز آنذاك السيد حسن دفع الله وسكرتير اتحاد كرة القدم السيد محمد الحسن عطية الله.
كان أباظة سياسياً نشطاً في شبابه وكان سكرتيراً عاماً لتنظيم "الجبهة الوطنية المعادية للاستعمار" في وادى حلفا، والذى كان نشاطه محظوراً آنذاك نسبة لارتباطه بالفكر الماركسي.. وأذكر فيصغرنا أنه كان يساهر الليالي يكتب بنفسه المنشورات المعادية للحكومة ويطبعها على ماكينة الرونيو ويوزعها ليلاً، يساعدانه في ذلك النقابيان المناضلان سليمان خليل إبراهيم (أبوداوود) ونجم الدين محمد صالح (أبو عبدالخالق) أعضاء التنظيم، طيب الله ثراهما وكذلك النقابي المناضل السيد كامل رشيدي عضو التنظيم أطال الله عمره، وكان أيامها أيضاً يكتبون الشعارات ضد الحكومة بالخط العريض على جدران المنازل والمكاتب الحكومية، فقد كانت بمثابة جدران الفيسبوك وإن كانت على نطاق المدينة أو المنطقة فقط، وقد تم اعتقال أربعتهم أكثر من مرة خاصة أيام مظاهرات الشعب في الخرطوم ووادي حلفا ضد الحكومة في قضية السد العالي وتهجير النوبيين.وقد استمر نشاطه السياسي المكثف حتى سقطت حكومة عبود وأشرقت شمس الحرية والديمقراطية في البلاد.
من هواياته الغريبة أنه كان عاشقاً للأناقة ويهتم كثيراً بهندامه ومظهره فكان ملبسه من أرقى الماركات العالمية مثل فان هاوزن الألمانية وأزياء كالفن كلاين الأمريكية وساعات رولكس السويسرية وعطور ايف سانت لوران الباريسية ولقد كان سابقاً لعصره في هذا الجانب.ولا أبالغ إن قلت لكم أنني لم أره ولو مرة بدون ربطة العنق بدبوسها الذهبي ومنديلها إلا عندما يكون داخل منزله في أوقاته الخاصة للراحة. وأذكر أن أحد زملائه الجُدد، من ذوي الخيال الخصب، عندما شاهده لأول مره بطقم البدلة كاملاً، قال له: " يا أباظة إنت واقع من كتالوج ترزي أفرنجي"! وفعلاً كان هذا أبلغ وصف لمظهر أباظة، لكنه رد عليه رداً مفحماً قائلاً له: "أنا الترزي الأفرنجي ذاتو يا برعي... "ويذكِّرني الخال أباظة بالفنان العملاق عثمان حسين حيث كان شيكاً يلبس البدلة الكاملة دائماً مثله، لكن ربما لا يدري الكثيرون أن الفنان عثمان حسين،بجانب احترافه الفن والموسيقى،كان يمتلك ويدير محلاً كبيراً في الخرطوم اختص في أقمشة وخياطة الملابس الأفرنجية.
من التزامه وحبه للمظهر أنه كان لا يلبس اللبس الرسمي الكاكي الخاص بموظفي الطيران المدني الذي توزعه لهم الحكومة بل كان يشترى قماش كاكي من نوعية أرقى يسمى"الجبردين"، من ماله الخاص، ويفصِّله ويلبسه في العمل نسبة لجودته ولمعته ومكوته السيف.ومن الطرائف حكى لنا أن أحد مديريه،في سنة من السنوات،عاقبه بإنذار بالفصل نسبةً لتميّزه في الملبس الرسمي عن زملائه الموظفين... عجباً!لكنه لم يكترث لهذا الإنذار الذي كان لا أساس له سوى حسادة مدير. وفى النهاية ذهب ذلك المدير "المبهدل" وبقي أباظة "المهندم". وقد علمت من ابنته أن الممثلة القديرة والرائدة الدرامية السيدة بلقيس عوض،زميلته في العمل في مطار الخرطوم، كانت تسميه "أباظة الوجيه".وربما لا يعلم الكثيرون منكم أن السيدة بلقيس عوض هي أول إمرأة تقلدت منصب ضابط جمارك في السودان عام 1970 في وقت كان يصعب فيه على المرأة السودانية أن تتقلد هكذا وظيفة، فمهدت الطريق للكثيرات من بعدها في هذين المجالين، فحقاً كانت سيدةً رائدة.كل ذلك الاهتمام الزائد بالمظهر كان في شبابه، لكن عندما يكبر الرجال يصغر ذلك الاهتمام عكس النساء تماماً حيث تكثر عدد مرات زياراتهن لصالون النساء أو تتضاعف ميزانية الكريمات والمساحيق والعطور كلما تقدم العمر، ولذلك أذكر عندما كان يهديه أبناؤه وبناته العطور الباريسية التي كان يحبها في أيام خلت، كان يتساءل ساخراً: "وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر؟".
وعندما أحيل الى التقاعد ما هان عليه أن يظل عاطلاً بلا عمل حيث كان في قمة نشاطه آنذاك فذهب الى حلفا الجديدة في قريته وعمل في زراعة حواشته في مشروع حلفا الجديدة وأملاك والده، واستقر به المقام هناك واندمج في مجتمع القرية أيما اندماج، وأصبح عضواً فاعلاً في نادى القرية أثرى فيها الحياة الأدبية والشعرية والسياسية وخلق علاقات جديدة مع الشباب والأجيال الجديدة الى أن اشتد عليه مرض الباركنسون فرجع أدراجه الى الخرطوم عام1987 لمتابعة العلاج،واستقر في حلفاية الملوك حتى توفاه الله.إلا أنه ترك أثراً طيباً في القرية وما يزالوا يذكرون سيرته العطرة للآن.
الحديث عن شخصية الخال أباظة ومواهبه لا حدود له ولا تسعفني الحروف ولا كلمات النثر كلها لإعطائه اليسير مما يستحق، وحتى لو كنت شاعراً مثله لتسمّر ذاهلاً شيطان شعري وكأن الشعر من بعده مستحيل.وبرحيله فقد تعذر عليَّ ما أقوله عنه طوال السنوات الأربع الماضية، والقليل الذي قلته الآن ما هو إلا لمحة سريعة عن حياته بمناسبة الذكرى الرابعة لرحيله التي تصادف هذا الشهر.وفى هذه الذكرى الحزينة نترحم على روحه الطاهرة ونسأل الله له المغفرة والقبول الحسن فالموت حق وكل الذي فوق التراب ترابٌ و(إنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ).
شوقى محى الدين أبوالريش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
فبراير 2015


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.