تذكرت والدتى السيدة بت الفتح ووالدى ود قدوره وعمّى عيسى أحمد عيسى ، رحمهم الله جميعاً، حين عادت النادلة الشقراء فى مشرب الشاى الأنيق فى سان فرانسيسكو بالحساب : ستة وعشرون دولاراَ أمريكياً لثلاثه أكواب من الشاى ! يعنى بلغة الإنس، "وبالسعر الرسمى" ، نحو ستة وستون جنيهاً سودانياً فقط لا غير، بواقع اثنان وعشرون جنيهاً للكوب الواحد! وبعد أن تحوقلت واستعذت بالله بصوت عالٍ، تذكرت بخيته فى غياهب السوق العربى وعائشه فى ضفّة شارع محّمد نجيب الغربية والآف من اخواتهن المفترشات الثرى فى كل ركن من أركان العاصمة الحضارية، المستجيرات بظلال الضُحى الزائلة وظلال الأشجار العجفاء التى سخّر لها الله الشمس لتهبها الخضرة والحياة فوهبتها فى صيف الخرطوم اللاهب اليباس والموت.يأتين من بيوتهنّ فى اطراف الخرطوم عند "دغش الرحمن" ،،ويعُدن فى المساء. يُمضين سحابة يومهنّ فى مكابدة هجير الشمس الّلافح ،وتحمّل مزاح الزبائن الثقيل، و"كشّات" السلطات المحلّية التى يبدو أنها فرغت من تنظيف العاصمة الحضارية من القاذورات( والتى اصبحت تسمى فى هذا العهد السعيد النفايات)، ومن مياه الأمطار الآسنة ( والتى اصبحت تدعى الغيث النافع) ومن ارتال الناموس والذباب (والتى أصبحت حيوانات أليفة تربيها المحلّيات فى أكوام القاذورات وبرك مياه الأمطار وتسخّرها ليلاً ونهاراً لتنكيد حياة المواطنين) - فرَغَت من كل هذا وتفرّغت لمحاربة ستات الشاى فى رزقهنّ الحلال. تذكرت ستات الشاى وهنّ يعانين كل هذا ويبعن الكوب، بنعناعه الأخضر وسكّره و"مستكته"،حتى حين قريب بنصف جنيه! كانت والدتى، رحمها الله، لصيقة الصلة ،واسعة المعرفة بالبورصات العالمية وخاصةً بورصة شيكاغو، أو هكذا خُيّل لى. ما عدت من سفر فى بلاد الله الا وكان أول اسئلتها عن هذه البلاد : "رطل السُّكر عندهم بى كم؟؟" كان السكّر فى السودان، ولايزال ،سلعةً استراتيجيةً عزيزة، سلعة سحرية مراوغة، لاتخضع لقوانين الإقتصاد من عرض وطلب، ولا حركة السوق أبيضاً كان أم أسودا، ولا للمنطق. كلما أنبأونا ببناء "أكبر مصانع السكر فى أفريقيا والشرق الأوسط"، وبالإكتفاء الذاتى من السكر "بنهاية هذا العام"، و"بتمزيق فاتورته"، شَحّ فى الأسواق وارتفعت أسعاره ارتفاعاً جنونياً. دخل التموين فارتفعت اسعاره فى السوق السوداء، وخرج الى السوق "المحرر" فارتفعت اسعاره فى هذا السوق وانخفضت فى السوق الأسود وفى سوق التهريب. نصدّره لبعض بلاد الله الواسعة ونستورده من أخرى، ويتسلل عائداً عبر حدودنا ويباع بأسعار أقل من السكر المحلّى! وهو كذلك سلعة سحرية مباركة ، تأتى ب"ليلة القدر" لبعض المحظوظين من الخّاصة واقربائهم خاصةً فى العشر الأواخر من شعبان والعشر الأوائل من ذى الحجّة، حين يجف السوق وتتصاعد الأسعار استعداداً لرمضان، شهر الزهد والتعبد والتفكّر فى حال الفقراء والمساكين، ولحجّ بيت الله الحرام! وهو أيضاً سلعةً "فريزيان" تحلبها الحكومات المركزية والولائية والمحلية والمجالس الشعبية وغير الشعبية جبايات تنوء بحملها الجبال، تَبنى بها طرقاً وهمية تصل الى غربنا الدامى، وقنوات عملاقة تسقى سهول الرهد وكنانة، ويغتنى منها أهل السلطة وأهلهم وأصهارهم والجار الجنب (ونسال الله الّا يريكم مكروهاً فى عزيز لديكم!) نعود لستات الشاى فى سان فرانسيسكو والمبلغ الخرافى الذى دفعناه لكوب الشاى قبل أن "ينُطُّ" علينا من يذكرنا بالنعيم الذى نعيش فيه فى هذا البلد الآمن المطمئن، لنقول أن أسعار السلع الغذائية الأساسية فى سان فرانسيسكو (وهى من أغلى مدن ألولايات المتحدة) من خضر وفاكهة ودجاج وزيت أقلّ بكثير من مثيلاتها فى الخرطوم عاصمة "سلّة الغذاء فى العالمين العربى والأفريقى". أوتعلمون، حماكم الله، أن ثمن كيلو الدجاج فى جنيف ( وهى من أغلى مدن الدنيا) أقلّ من ثمنه فى الخرطوم؟ هذا دون أن نضع فى الحسبان الفرق البيّن فى الجودة ومطابقة المواصفات الصحيّة ودخل الفرد. غير انّ الصحف السيّارة طمأنتنا قبل اسابيع على حال أهل السودان حين أوردت جميعها نقلاً عن وزارة الرعاية الإجتماعيّة انّ نسبة الفقر المدقع بين سكان السودان تبلغ3.4% (بالظبط). ومع أن المؤمن صدّيق، خامرنى الشك فى أن الخبر ربما اعتوره خطأ غير مقصود ,وأن النسبة المذكورة هى نسبة الذين لا يشكون من الفقر فى السودان. أو أن تعريف الفقر يختلف بين الذين يقبضون على جمرِه ويكتوُون بنيران مسغبته وحرمانه، وبين من يحسبون نسبته ويُعلنونها على الملأ فى جرأة يُحسدون عليها! اكتشفت أيضاً وأنا أتجول فى سان فرانسيسكو أننا أصبحنا شعباً به "زلعة" عارمة, نسافر الى بلاد الله أيام النُدرة فلا نرى متاحف ولا آثار ولا مسرح ولا شواطئ ولا مكتبات، بل نرى فقط أنابيب "البوتاجاز" المكدسة وأكوام الرغيف ومحطات البنزين الخالية من الصفوف. ونسافر بعد أن أصبح بلدنا "سخاءً رخاءً" بفضل سياسات التحرير ودعاء أئمة المساجد فى خطبة الجمعة، فلا نرى الّا أسعار المواد الغذائية و حين نحوّلها للعملة الصعبة المسماة الجنيه السودانى "نتشهود" ونتحسّر على حالنا وحال أهلنا، ونسأل الله أن يجازى "اللى كان السبب". سافر صديقى أحمد ود عشّة ( والذى قضى معظم عمره خارج السودان) الى القاهرة بعد أشهر من الإقامة بالخرطوم، فكانت أولى رسائله على الهاتف : “ كيلو الطماطم فى القاهرة بجنيه مصرى واحد ( يعنى نصف جنيه سودانى)! جيبو الدكوة والحقونا!” أقول هذا وأضمّ صوتى الى أصوات أئمة المساجد كلّ جمعة مباركةداعياً ربّ العزّة ألّا يسلّط علينا من لايخافه ولا يرحم الناس، رغم أن "الحلفاوى" حسم الأمر قديماً حين قال: “ من ناحية سلّط، هو سلّط وانتهى!”