في 14 فبراير 2003 ودعتنا - في عيد الحب – أمي الحبيبة ست البنات كبرى بنات عمر علي طواف (عمر ود بنونة سليل الشيخ عمر ود الشيخ حامد أبو عصاة). لم يكن رحيلها هي يوك عيد الحب صدفة فقد كانت منجما للحب وحسن الطوية وبيتا للحكمة وحسن المعشر. منذ أن تفتحت عيوننا على الحياة سقتنا رحيق حبها وعطفها ولطفها, وعلمتنا من معين حكمتها وجميل صبرها. ولكم سحرتنا بأهازيجها وغنائها الشجي الذي كانت تردده بصوتها الرخيم, فقد كانت ست شاعرة بالفطرة.... الشعر عندها كالنفس "الطالغ ونازل", والشعر كان عصاها التي تتوكأ عليها, تحمله معها في حلها وترحالها, كان مطيتها للتعبير عن تفاصيل حياتها اليومية, وكان – على نحو خاص – متنفسا لأزمات حياتها الثرية بالأحداث والمناسبات التي كان الأسى والفراق يغطيان مساحة مقدرة منها لكثرة من فارقتهم بالموت أو بالحياة من أبناء واخوان و"حبان". كانت القصائد تخرج ملحنة من سريرتها الحسنة المسالمة وذاكرتها الناصعة.. تتغنى بها بصوت كم أبكى وأشجى كل من قيضت له الأيام سانحة الاستماع لصوتها المعبر. كانت جدتي ست البنات - التي تحلو لنا مناداتها ب"أمي" - تحب السلام وتعشق الوئام خاصة بين أفراد الأسرة الواحدة, وقد ظلت تردد أن الشقاقات الأسرية تمتد لأجيال وأجيال بما لا تحمد عواقبه, ولدعم هذه الرؤيا والتعبير عنها كانت تردد: ما قامت زراعة فاتت أوانا ولا ربحت تجارة خانوا ميزانا ولا عمرت بيوتا نية خربانة من قائل هذا الشعر يا يمة؟ الشيخ فرح ود تكتوك يا بتي كل زوارنا من غير الأهل الذين يأتون لأول مرة يظنون أنها أمي وليست جدتي لأنها كانت دائما بيننا ولصيقة بنا نحن الصغار, تستقبل ضيوفنا وتحكي لهم طرائفها في سلاسة ورحابة تبدو جلية في ندائها للناس .. يا حبيبتي ... يا بت أمي... ياعشاي.... يابوي .... كان الحنان منها يتسلسل شعرا يحتضن ويداعب ويناجي ويتدفق حبا تكاد تلمسه بيديك, لازلت أذكر قصيدتها التي خرجت بها في تلقائية حنينة مشفوعة بدمع سخين حين تلقت نبأ سفر شقيقي الذي تحبه جدا والذي اضطر للسفر دون أن يودعها فقالت: يا حليلك يا الخزين ان شا الله من العايدين يا حليلك ياالخزين أنا بريدك باندفاع وما جيتني نا للوداع يا حليلك ياالخزين أن شا الله تعود للفريق وانت بتلحق الضيق يا حليلك يالخزين انت بتلحق الضيق وماك ولداْ مميحيق يا حليلك يالخزين أمي ست البنات كانت كالنسمة تمتص غضبنا وضيقنا عند الملمات والأزمات وما أكثرها في السودان.. تقول لنا: "نوموا .. الصباح رباح .. تبيت نار تصبح رماد" و ذلك ربما لأن "الزعل ورم ... والورم بنفش" كما كانت تعتقد وتردد فقد كانت منسجمة يتماهى ما على لسانها مع ما بقلبها. كانت أمي ست البنات تتعمد ادراج الطرفة في قصائدها التلقائية خاصة اذا كان الأمر يتعلق بالدعابة مع من تحبهم وتثق في فهمهم لدعاباتها.. حكت لي ذات يوم أن احدى أخواتها كانت تنوي السفر للأراضي المقدسة لأداء فريضة الحج, وكان معروفا عن هذه الشقيقة سهولة الاغفاء والنوم السريع. كانت أمي تخشى على أختها من هذه المزية/المشكلة أثناء الحج فودعتها بقصيدة تقول: ودعناها لي مولاها رب القدرة يتولاها ودعناها أم التومة وبسراع خيتولا هدوما دي الماشة المدينة تحوما أنا خايفالا من النومة لم تنحصر الطرفة في شعر ست البنات على البشر, بل تجاوزتهم للأشياء, نوع من الطرفة النابعة من موقف جاد يظهر المفارقة بالتضاد "كونتراست", فها هي تتحدث وكأنها تواسي نفسها وأهلها في ثلاجتنا - التي توقفت عن العمل فجأة - قائلة: الله يصلح التلاجة الفي بيتنا مافي علاجا التلاجة عمل الخير بتمسك القليل وكتير بتمسك القليل وكتير نشرب موية من الزير؟ (هنا مفروض تضيف: "يا بنات أمي؟") أيضا كانت تقطع مصاريننا بالضحك حين ترد على المادة الاذاعية من الراديو أو التلفزيون, وخصوصا الأغاني, فمثلا عندما يشدو الفنان " ياحليلك يا بلدنا" كانت ترد عليه قائلة: "بلدك الحماك ليها منو, ما تقوم تسافرلها", وعندما تسمع الفنان يقول "أنا ما بنوم الليل حين اطرى فرقتنا" ترد عليه: "طيب ما تنوم بالنهار" وعندما سافرت لزوجي خارج البلاد, ودعتني بدمعها الذي جرى شعرا حنينا يستقر بالقلب: يا حليلا حنانا هي علي شفقانة دي الرحلت مع أخوانا وانا ما عارفة عنوانا