رسمياً.. ريجيكامب مديراً فنياً للهلال    نهضة تونس و عصار يسيران لوضع خارطة جديدة للكرة بالقضارف    د. أمين حسن عمر يكتب: ديمقراطية أهل السودان    كامل إدريس يحسم الجدل حول تعيين وزير الثروة الحيوانية الذي يملك جنسية اماراتية    هل سيعود المصباح أبوزيد علي متن طائرة كامل إدريس ؟!    ضبط عدد 12 سبيكة ذهبية وأربعة كيلو من الذهب المشغول وتوقف متهم يستغل عربة دفار محملة بمنهوبات المواطنين بجسر عطبرة    اعفاءات من رسوم السكن والتسجيل بالداخليات لأبناء الشهداء والمشاركين في معركة الكرامة    والي النيل الأبيض يزور نادي الرابطة كوستي ويتبرع لتشييّد مباني النادي    الكشف عن المرشحين للفوز بجائزة الكرة الذهبية 2025    حميدان التركي يعود إلى أرض الوطن بعد سنوات من الاحتجاز في الولايات المتحدة    لجنة أمن ولاية الخرطوم تشيد باستجابة قادة التشكيلات العسكرية لإخلائها من المظاهر العسكرية    عزيمة وصمود .. كيف صمدت "الفاشر" في مواجهة الهجوم والحصار؟    مناوي يُعفي ثلاثة من كبار معاونيه دفعة واحدة    بالصور.. تعرف على معلومات هامة عن مدرب الهلال السوداني الجديد.. مسيرة متقلبة وامرأة مثيرة للجدل وفيروس أنهى مسيرته كلاعب.. خسر نهائي أبطال آسيا مع الهلال السعودي والترجي التونسي آخر محطاته التدريبية    شاهد بالفيديو.. بالموسيقى والأهازيج جماهير الهلال السوداني تخرج في استقبال مدرب الفريق الجديد بمطار بورتسودان    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد بالصورة والفيديو.. سيدة سودانية تطلق "الزغاريد" وتبكي فرحاً بعد عودتها من مصر إلى منزلها ببحري    حادث مرورى بص سفرى وشاحنة يؤدى الى وفاة وإصابة عدد(36) مواطن    بالفيديو.. شاهد بالخطوات.. الطريقة الصحيحة لعمل وصنع "الجبنة" السودانية الشهيرة    شاهد.. الفنانة إيلاف عبد العزيز تفاجئ الجميع بعودتها من الإعتزال وتطلق أغنيتها الترند "أمانة أمانة"    شاهد بالفيديو.. بعد عودتهم لمباشرة الدراسة.. طلاب جامعة الخرطوم يتفاجأون بوجود "قرود" الجامعة ما زالت على قيد الحياة ومتابعون: (ما شاء الله مصنددين)    يؤدي إلى أزمة نفسية.. إليك ما يجب معرفته عن "ذهان الذكاء الاصطناعي"    الشهر الماضي ثالث أكثر شهور يوليو حرارة على الأرض    عمر بخيت مديراً فنياً لنادي الفلاح عطبرة    إسحق أحمد فضل الله يكتب: (روحوا عن القلوب)    الجمارك تُبيد (77) طنا من السلع المحظورة والمنتهية الصلاحية ببورتسودان    12 يومًا تحسم أزمة ريال مدريد    الدعم السريع: الخروج من الفاشر متاح    التفاصيل الكاملة لإيقاف الرحلات الجوية بين الإمارات وبورتسودان    الطوف المشترك لمحلية أمدرمان يقوم بحملة إزالة واسعة للمخالفات    السودان يتصدر العالم في البطالة: 62% من شعبنا بلا عمل!    نجوم الدوري الإنجليزي في "سباق عاطفي" للفوز بقلب نجمة هوليوود    يامال يثير الجدل مجدداً مع مغنية أرجنتينية    تقارير تكشف خسائر مشغلّي خدمات الاتصالات في السودان    توجيه الاتهام إلى 16 من قادة المليشيا المتمردة في قضية مقتل والي غرب دارفور السابق خميس ابكر    السودان..وزير يرحب بمبادرة لحزب شهير    السودان.."الشبكة المتخصّصة" في قبضة السلطات    مسؤول سوداني يردّ على"شائعة" بشأن اتّفاقية سعودية    غنوا للصحافة… وانصتوا لندائها    حرام شرعًا.. حملة ضد جبّادات الكهرباء في كسلا    شاهد بالفيديو.. بأزياء مثيرة وعلى أنغام "ولا يا ولا".. الفنانة عشة الجبل تظهر حافية القدمين في "كليب" جديد من شاطئ البحر وساخرون: (جواهر برو ماكس)    امرأة على رأس قيادة بنك الخرطوم..!!    أنقذ المئات.. تفاصيل "الوفاة البطولية" لضحية حفل محمد رمضان    الخرطوم تحت رحمة السلاح.. فوضى أمنية تهدد حياة المدنيين    "الحبيبة الافتراضية".. دراسة تكشف مخاطر اعتماد المراهقين على الذكاء الاصطناعي    انتظام النوم أهم من عدد ساعاته.. دراسة تكشف المخاطر    خبر صادم في أمدرمان    اقتسام السلطة واحتساب الشعب    إلى بُرمة المهدية ودقلو التيجانية وابراهيم الختمية    وفاة 18 مهاجرًا وفقدان 50 بعد غرق قارب شرق ليبيا    احتجاجات لمرضى الكٌلى ببورتسودان    السيسي لترامب: ضع كل جهدك لإنهاء حرب غزة    تقرير يسلّط الضوء على تفاصيل جديدة بشأن حظر واتساب في السودان    أفريقيا ومحلها في خارطة الأمن السيبراني العالمي    السودان.. مجمّع الفقه الإسلامي ينعي"العلامة"    ترامب: "كوكاكولا" وافقت .. منذ اليوم سيصنعون مشروبهم حسب "وصفتي" !    عَودة شريف    لماذا نستغفر 3 مرات بعد التسليم من الصلاة .. احرص عليه باستمرار    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في ذكرى رحيل العلامة عبد الله الطيب .. بقلم: عبد الملك محمد عبد الرحمن نصر
نشر في سودانيل يوم 22 - 06 - 2015


ذكرياتي عن العلامة عبد الله الطيب

عبد الملك محمد عبد الرحمن نصر
في التاسع عشر من شهر يونيو عام 2003م رحل عبد الله الطيب، وهاهو معهده بجامعة الخرطوم، كدأبه في كل عام، يقيم احتفالية بالمناسبة.
معهد البروفسير عبد الله الطيب بجامعة الخرطوم مركز للفكر بالبلاد، يجتمع فيه محبو لغة القرآن الكريم وثقافتها: طلاب ومدرسون، أطباء ومهندسون ، قضاة ومحامون، كتاب وشعراء، وآخرون كثيرون شباب وكهول وشيوخ. يجتمعون في كل الأوقات في ضيافة مديره الشاب عالم اللغة العربية الدكتور الصديق عمر الصديق. يتحلقون حوله، ومعا يحلقون في سماء آداب العربية الخالدة. عقد المعهد حتى الآن ما يقارب الثلاثمائة ندوة نصف شهرية في قاعة الشارقة‘ لا يحضر الدارس واحدة منها إلا أحس أنه قد علم ما لم يكن يعلم، و أضاف إلى علمه القديم علما جديدا.
في بداية حديثي أحي السيدة غريزلدا الطيب، رفيقة درب العلامة التي أحبته فرعته وكانت مصدر إلهامه. حضورها هذه المناسبة سنويا يسعدها كثيرا، ونحن نسعد كثيرا بوجودها بيننا، متعها الله بالصحة والعافية وأطال عمرها.
كغيري من أبناء جيلي سمعت بعبد الله الطيب قبل أن أقابله. عندما كنت تلميذا بمدرسة حنتوب الثانوية كان والدي قاضيا شرعيا بمدينة الدامر ، فكنت أقضي العطلة الصيفية بها. وفي الأمسيات أصحب أصدقائي التلاميذ لزيارة ناديها. نجلس في ركن قصي منه وننظربإعجاب لعبد الطيب وهو يتحدث مع بعض رواد النادي ... مجرد النظر إليه كان يدخل السرور إلى قلوبنا. إعجابنا به جعلنا في رابطة طلاب الدامر بالمدارس الثانوية نفكر في دعوته لإلقاء محاضرة علينا عن مدينة الدامر غير أن أحدنا زعم أنه سمع ذات مرة أن العلامة قد قال " الدامر لا تتطور" فتخلينا عن الفكرة وإن كنا لم نصدق زميلنا الذي اشتهر بيننا بالمبالغة فيما يقول.
كانت الدامر آنذاك عاصمة المديرية الشمالية، مدينة صغيرة وجميلة: غرب السكة الحديدية مباني المديرية ومساكن الموظفين ثم المزارع والنهر. وشرق السكة الحديدية منازل أهلها وسوق المدينة. الآن أصبحت كبيرة.
كنا نحرص، نحن تلاميذ الثانويات الوافدين في الإجازة الصيفية، على أداء صلاة الجمعة في مسجد المجاذيب العتيق. هناك ربما تمكنا أيضا من تحية العلامة والشيخ المجذوب محمد جلال الدين راعي المسجد و معهد علمي تابع له لتدريس تلاميذ المرحلة المتوسطة. الشيخ المجذوب جلال الدين، والد الشاعر الكبير محمد المهدي المجذوب، كان يطلب من آبائنا أن يأمرونا بتدريس تلاميذ معهده اللغة الإنجليزية في عطلتنا الصيفية، وكان طلب الشيخ جلال الدين يسعدهم كثيرا فيصدرون الأوامر المطلوبة بسرعة ومعها تحذير قوي ينهانا عن أي تلميح قريب أو بعيد بمكافآت مالية. يقال: " لا يكون العالم عالما حتى تكون فيه ثلاث خصال: لا يحتقر من دونه، ولا يحسد من فوقه، ولا يأخذ على العلم ثمنا". كان والدي- رحمه الله- يري طلب المال نظير العلم أمرا مَعِيبا.
أولئك آبائي فجئني بمثلهم ... إذا جمعتنا يا جرير المجامع
هكذا علموهم في تلك الجامعة الشامخة: معهد أم درمان العلمي حيث كان الشيخ مجذوب جلال الدين مدرسا منتدبا من قسم اللغة العربية بكلية غوردون. و جديرا بنا أن نحتفل في مطلع العام القادم بمضي مائة عام منذ أن بنى معهد أم درمان العلمي المغفور له شيخ العلماء آنذاك الأستاذ الاكبرالشيخ أبو القاسم أحمد هاشم، وكان من قبل سقيفة من القش في رواق جامع أم درمان الكبير. آنَئذٍ كانت أسر الهاشماب، وأسر آل الإمام المهدي بود نوباوي وآل عثمان صالح وآل السراج وغيرهم يتسابقون لاستضافة طلاب المعهد الوافدين من أقاليم البلاد البعيدة، "الطلاب الغرباء" كما كانوا يعرفوا به لديهم. يستيضفوهم في بيوتهم مدى فترة الدراسة لسنوات وسنوات. رعى الله أهلَ أم درمان، مدينة الإمام المهدي عليه السلام. إنهم قوم حُفَوَاءُ ذوو مروءة ونجدة، لا يقصرون عن ندى كما قال عنترة. مدينتهم رمز التسامح والمحبة بين جميع السودانيين باختلاف أعراقهم وسحناتهم وأديانهم. وهل أحتاج لأن أدلل على ذلك يا رعاك الله بأكثر من قصيدة الشاعر السوداني الكبير صالح أفندي بطرس " مسجد أم درمان" ومطلعها:
يا مسجداً مطلت بنوه بعهدهِ ... حتى غدا وهو الحَسيرُ المعْدمُ
بدأوكَ جُوداً بالصنيعِ و أحجموا ... ما كان أولى أنّ ذاك يُتمَّمُ
التي إلتمس فيها إلى شيخ العربية العلامة الطيب السراج أن يسعيا معاً في إستنهاض همم السودانيين لإتمام بناء مسجد أم درمان الكبيربعد أن تلكأ الإنجليز في إكمال بنائه إهمالا و إغفالا.
أما وقد أتيت على ذكر معهد أم درمان العلمي الذي أصبح فيما بعد جامعة أم درمان الإسلامية فإني أذكر أن العلامة قد أورد في كتابه " نظرات في المجتمع الإسلامي" الذي تولت طباعته بعد وفاته السيدة غريزلدا الطيب، أسبابا قوية لمواءمة ما أسماه التعليم العالي الديني والتعليم العالي المدني. لقد خلص البروفسير عبد الله إلى أن هذين النوعين من التعليم سيستفيدان تعاضديا (symbiotically ) ويفيدان أكثر إن وجدا في كنف مؤسسة أكاديمية واحدة. في إطار هذا النموذج يمكن أن يرفع قسم الدراسات الإسلامية بجامعة الخرطوم إلى معهد للدراسات الإسلامية العليا يستقطب لهيئة تدريسه متميزين في العلوم الإسلامية، من داخل وخارج البلاد، يعملون متفرغين فيه أو متعاونين معه أو زملاء به، ونظام الزمالة معمول به الآن في الجامعة.
عندما التحقنا بجامعة الخرطوم كنا نحرص نحن بعض طلاب كلية العلوم الجدد على أن نمر بديار عبد الله الطيب: القاعة 102في كلية الآداب، نطوف حولها حتى وإن كانت خالية. كانت كلية العلامة قبلة طلاب من كليات مجمعات الجامعة الأخرى أيضا. زيارتهم لها كانت تمام حجهم لمجمع الوسط . ألم يقل قيس بن الملوح :
إذا الحجاج لم يقفوا بليلى ... فلست أرى لحجهم تماما
تمام الحج أن تقف المطايا ... على ليلى وتقريها السلاما
تمام الحج أن تقف المطايا ... على الآداب تقريها السلاما!
في القاعة 102 ( قاعة عبد الله الطيب الآن) كان العلامة يهز المنبر أمام مريديه من كافة طلاب العلوم من داخل الجامعة وخارجها.
قصدتك طلاب العلوم ولا أرى ... للعلم بابا بعد بابك يقرع
انقطع عهدي بالجامعة بعد ذلك وعندما عدت إليها كان العلامة عميدا لكلية الآداب مثلما كان من قبله عميد الأدب العربي طه حسين عميدا لكلية الآداب بجامعة القاهرة. وكلية الآداب في أي جامعة هى قلب الجامعة بل هى الجامعة بذاتها وقد كنت في مجلس جمع أناسا من العامة من غير أهل العلم والثقافة لا أعرف واحدا منهم، عاب فيه رجل من الحاضرين على والد طالب أن أجاز لابنه الالتحاق بكلية غير الآداب مضيفا بثقة وقول فصل إن عبد الله الطيب قد قال " الجامعة هي الآداب فقط".
الدكتور حسين النور أحد تلاميذ العلامة وهوأستاذ للغة العربية بهذه الجامعة والمدير المؤسس لمعهد عبد الله الطيب. يتذكره الناس رفيقا للعلامة في بعض حلقات برنامجه التلفازي "سير و أخبار"، مثلما يتذكرون القارىء الشيخ صديق أحمد حمدون رفيق العلامة في برنامجه الإذاعي "دراسات في القرآن الكريم". سمعت الدكتور حسين يذكر أن عبد الله الطيب قال " لا أحب كلمة "شيخ" لأني لست شيخا فالشيخ له تلاميذ، ولا أحب "دكتور" لأنها لقب كنسي، ولا أحب لفظة "بروفسير" فهى كلمة أجنبية، أنا مدرس للعربية فقط". عبد الله الطيب كان يرى نفسه مدرسا كما كان يفعل أساتذة معهد أم درمان العلمي المتميز- كلهم كانوا مدرسين فقط ، باستثناء الأساتذة الزائرين من الأزهر الشريف.
عبد الله الطيب كان يرى في مهنة التدريس الرسالية النبيلة ما لا يستطيع أن يراه آخرون في بلادنا. وما كان يقارب عنده الاهتمام بها إلا الاهتمام بالبحث العلمي. قرأت لأستاذ كبير في الفلسفة أن عبد الله الطيب عندما كان عميدا للآداب زاره يوما في مكتبه وسأله عن تأخره في إلقاء محاضرة على طلابه. الأستاذ كان قد نسي المحاضرة تماما لانشغاله الشديد ببحث علمي وعندما علم عبدالله الطيب ذلك سامحه قائلا له : الآن أصبحت بحق أستاذا.
عبد الله الطيب تولى إدارة الجامعة وفي عهده القصير مديرا لها حقق إنجازا مهما تمثل في تسجيله أراضي الجامعة وربما كنا قد فقدنا كل هذه الأراضي لو لم يفعل ذلك. فيما بعد أصبح على من يريدها أن يأخذها غصبا.
كان عبد الله الطيب ملما تماما بقوانين ولوائح الجامعة فأدارها بمعرفة وحزم. مديرالجامعة يتمتع بسلطات واسعة جدا ومطلوب منه في إدارته لها أن يكون قائدا مبتدرا ومبتكرا. في النهاية هو المسئول الأوحد عن نتائج أي قرار في الجامعة. النجاح يجلب الثناء لمؤسسات الجامعة ومديرها، لكن مدير الجامعة وحده مسئول عن الفشل. هذه هى تقاليد جامعة الخرطوم.
في آخر سنوات حياته عين عبد الله الطيب رئيسا لمجلس الجامعة وبقي فيه حتى وفاته. عبد الله الطيب لم يكن يرضى أبدا أن يصدر المجلس قرارا لا يكون هو مقتنعا به. عليهم أن يقنعوه أو يقتنعوا برأيه. هذه ليست ديكتاتورية... هى البحث عن الإجماع Consensus الذي ربما يتمثل عند أوجه في طريقة اختيار رأس الكنيسة الكاثوليكية. الإجماع- حتى وإن حمل التعب الناس عليه Out of sheer fatigue. إنه في رأيي الأسلوب الأمثل لإدارة جامعة الخرطوم والبلاد بأكملها.
بالطبع كلكم تعلمون إلمام عبد الله الطيب الواسع بالشعر العربي وهو الذي أرشد إلي فهمه وصناعته. سألته مرة بعد اجتماع عن شعر كان أعجبني لكني نسيت آخره، أظنه لجرير، ألقاه علينا إمام صلاة الجمعة بمسجد الجامعة في المملكة العربية السعودية:
ويقضى الأمر حين تغيب تيم ... ولا يستأمرون وهم شهود
فراح العلامة ينشد الأبيات التالية بأكملها إلى أن جاء إلى:
وإنك لو لقيت عبيد تيم ... وتيما قلت أيهم العبيد
فقلت له كنت أبحث عن هذا البيت بالذات فضحك العلامة ضحكته العذبة.
وكما تعلمون أيضا كان العلامة متقنا للغة الإنجليزية مطلعا على آدابها والتي كانت له فيها نظرات و مقارنات بينها وبين العربية، منها ملاحظته لكثرة ما في قصائد وليم شكسبير من تشبيهات وتعبيرات شديدة الشبه بما في الأدب العربي ومشابهة قصيدة ِAndrew Marvell،
Thoughts in a Garden، لقصيدة المتنبي في شعب بوان، ورأيه في أعمال الشاعر الأمريكي البريطاني T.S. Eliot وقصيدة William Blake:
Tiger, tiger, burning bright
In the forests of the night
What immortal hand or eye
Could frame thy fearful symmetry?
In what distant deeps or skies
Burnt the fire of thine eyes?
مقارنة بأبيات المتنبي:
أمعفر الليث الهزبر بسوطه ... لمن ادخرت الصارم المصقولا
إلى قوله:
ما قوبلت عيناه إلا ظنتا ... تحت الدجى نار الفريق حلولا
كان عبد الله الطيب يزورني كثيرا في مكتب مدير الجامعة عندما كنت مكلفا بإدارتها. ذلك لأنه كان يؤيد تعييني بشدة ويخشى أن يدفعني تأخره للرحيل من المكتب. عبد الله الطيب انتظر طويلا ليصبح مديرا لجامعة الخرطوم و هو منصب هو أهل له وأحق به من كافة الآخرين. عندما ترحب به يطلب منك أن تجلس على كرسي المدير ... كان يقول: هكذا يجلس مدير الجامعة ... على كرسي المدير لا بجانب ضيفه. مع أن الطلاب في واحدة من غزواتهم المتكررة على مكتب المدير جعلوا رئيس إتحادهم يجلس على ذلك الكرسي ليدير الجامعة!
آخر مرة قابلت فيها عبد الله الطيب بكامل عافيته كانت عندما حضر لمكتبي بعد تسلمه جائزة الملك فيصل العالمية في الرياض و أخبرني بعزمه السفر إلى لندنلندن المدينة التي قال عنها :Samuel Johnson
He who tires of London is tired of Life.
هذا الكلام لا يُعجب أهلَ مدينةِ النور ! أرجح أنهم يأنسون أكثر إلى ما قاله بيرسي شيلي Percy Shelley :
"Hell is a City much like London – A populous and Smoky City "
" جهنم مدينة مثل لندن- كثيفة السكان والدخان."
ذكر مقولة Samuel Johnson في لندن أسعد العلامة الذي كان يحبها (ومن من السودانيين لا يحبها؟!) فطفق يقارنها بمدن أخرى زارها- مدن من الشرق والغرب كما يقول الطيب صالح. وفي النهاية تحدثنا عن خرطوم "أيام زمان". ذكرت كم كان يحلو لي وأنا تلميذ صغير بمدرسة العزبة في حى الأملاك بالخرطوم بحري أن أذهب مع خالي لمقهى Lord Byron في الخرطوم. كان مكانا أنيقا، كمقهى آرنست هيمنغواي في قصته "مكان نظيف حسن الإضاءة" A Clean Well-lighted Place. كان في وسط الخرطوم عند الركن الجنوبي الغربي لملتقى شارع الجمهورية بشارع عبد المنعم محمد. في مقهى Lord Byron كانوا يقدمون نوعا من الباسطة لم أعرف مثيلا لها في لذتها. يقدمها لك نادل بابتسامة تهون دفع ثمن ابتسم الآن لنفسي عندما اتذكره. ذكرت أمام العلامة مقولة تنسب للورد Byron :
"Men think highly of those who rise rapidly in the world:
Whereas nothing rises quicker than dust, straw and feathers."
بالطبع كان العلامة على علم بها. قال لي هذا المعنى مألوف تكرر كثيرا في الشعر العربي. سأحدثك عن ذلك بعد عودتي من لندن ... وقتي الآن لا يتسع لذلك.
نهض ورافقته إلى خارج المبنى وهو يسير متكئا على عصاه وعلى رأسه طاقيته الجميلة.
ودعته ثم ذهب ... وعاد للسودان محمولا على نقالة طبية.
انتابتني رغبة ملحة في أن أجتر لحظات مقابلتي الأخيرة مع العلامة فلجأت لقرص مدمج لموسوعة شعرية أهداني إياه العالم الدكتور الصديق عمر الصديق. ما أعظم هذه التقانة الحديثة. رحم الله الصاحب بن عباد. كان يملك مكتبة ضخمة يحملها معه فوق ظهور أربعين جملا- هكذا قالوا- أينما ذهب في سفره. لو عاش الآن لكفاه قرص مدمج واحد في جيبه ! بحثت في القرص عن تكرار معنى مقولة بايرون في الشعر العربي. وجدت شعرا منسوبا لابن الرومي:
رأيت الدهر يرفع كل وغد ... ويخفض كل ذي شيم شريفة
كمثل البحر يغرق فيه حي ... ولا ينفك تطفو فيه جيفة
أو الميزان يخفض كل واف ... ويرفع كل ذي زنة خفيفة
وشعرا آخر لشاعر من حلب اسمه فرنسيس مراش (1836-1873م):
تواضع تكن كالنجم لاح لناظر ... على صفحات الماء وهو رفيع
و لا تك كالدخان يعلو بنفسه ... على طبقات الجو و هو وضيع
ويشابه ذلك البيت:
وأترك الدنيا فمن عاداتها ... تخفض العالي و تعلي من سفل
وهو من لامية معروفة لابن الوردي (1292-1349م) الذي ولد بمعرة النعمان، ومطلعها:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل ... وقل الفصل وجانب من هزل
وفيها يقول أيضا عن الدنيا:
كم جهول وهو مثر مكثر ... وحكيم مات منها بالعلل
رحم الله شاعر المعرة إبن الوردي و حفظ المعرة وهي تواجه محنة كبرى ليست هى الأولى . قبلها رعتها عناية الله عندما خرج أبو العلاء متوسلا إلى صالح بن مرداس أن يكف عنها جنده المزود بالمنجنيق. يقولون خرج المعري من منزله ليلا متكئا على عصاه وكتف صبي يحمل مصباحا للقاء إبن مرداس. هل كانت تلك الصورة المهيبة للشيخ الكفيف حاضرة في ذهن الشاعر محمد محمد علي وهو يصفه في قصيدنه "إلى رهين المحبسين" :
وطالعني من الظلماء شيخ ... كفيف في بشاشة أريحي
نحيل الجسم مجدور المحيا ... تلوح عليه سيماء النبي
طويل الصمت أواه حزين ... قليل الوفر يبدو كالغني
قال المعري آنذاك:
بعثت شفيعا إلى صالح ... وذاك من القوم رأي فسد
فيسمع مني سجع الحمام ... وأسمع منه زئير الأسد
إلا أن ذاك الأسد استجاب لسجع الشيخ الشاعر ولما نجحت شفاعته أنشد:
نجى المعاشر من براثن صالح ... رب يفرج كل أمر معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة ... والله ألبسهم جناح تفضل
فالمعري كما يقول طه حسين "نشأ محباًّ للناس أشدّ الحب رفيقا بهم أعظم الرفق يقدم لهم المعروف ماقدر عليه ولا ينتظر منهم شكرا بل لا يرى أنع يستحق منهم شكرا".
اليوم أسد آخر يزأر عند أبواب المعرة! من يكف عنها الشر الذي هو يبتغيها ؟ على الأقل احتراما لذكرى شاعرها المجيد، أو قل إن شئت إكراما لخليفة الإسلام العادل عمر بن عبد العزيز ومرقده على بعد بضعة كيلومترات منها.
في التاسع عشر من يونيو عام2003 م توفي عبد الله الطيب وشيع جثمانه من منزله إلى مسجد الجامعة ليصلى عليه، ثم بعد ذلك لمقابر حمد بالخرطوم بحري. كان يوما شامسا حره شديد كسائر الأيام في ذلك الظرف من السنة، وكان الناس يصطفون على جانبي الطريق الطويل، يحفون بموكب الجثمان الحزين، يقرأون الفاتحة على روح العالم الجليل الذي انتمى لهم وانتموا له. وإذ الموكب يتوقف لتثاقل حركة المرور رأيت في ردهة السوق رجلا غضنفرا قويا، ملامح وجهه بها شدة وصرامة، يحمل حمولة ثقيلة على ظهره . لفت نظره الموكب فسأل أحد المارة عن الميت. لا بد أنه أخبره. وعندما أخبره وضع ما حمل جانبا واعتدل في وقفته ورفع يديه يقرأ الفاتحة في خشوع على روح العلامة صاحب " دراسات في القرآن الكريم." إنهم السودانيون. هم لا يصدأون. كاتبة عربية منصفة قالت عنهم : " أكاد أجزم أنهم- السودانيين- من مَعْدِن أصيل لا يصدأ." في مثلهم قال الشريف الرضي:
إذا صدىء القوم لا يصدأون ... كأنهم الذهب الأحمر
وفي المقابرأقبل بسطاء الناس في ثيابهم البيضاء ، ثيابهم بيضاء كقلوبهم الطيبة، أقبلوا على بعضهم يعزون أنفسهم فيه.
بحثت لي عن معز يوم مصرعه ... فلم أجد غير محزون أعزيه
وما سألت أمرءا فيما تفجعه ... إلا و جاوب " إني من محبيه."
ووري جثمان العلامة الثرى بعد أن استمعنا لكلمات مؤثرة من تلميذيه الأستاذين الكبيرين محمد يوسف مصطفى الواثق والحبر يوسف نور الدائم ووزير الدولة للثقافة السابق صديق المجتبى. وسط دقات طبول الطرق الصوفية وأهازيج أصحابها، و بكاء السودانيين العاديين دفن عبد الله الطيب.
لو فاضت المهجات يوم وفاته ... ما استكثرت فيه فكيف الأدمع
ما ضيع الباكي عليك دموعه ... إن الدموع على سواك تضيع
روى الراوي : لما مات أبو العلاء وقف على قبره أربعة و ثمانون شاعرا يرثونه. كان من بينهم شاعر مجيد من الأمراء، أيضا من المعرة، أسمه الحسن بن عبد الله بن أبي حصينة، أنشد شعرا فيه البيتان السابقان و بيت متناص مع آخر لسيد الشعراء أحمد بن الحسين أبو الطيب المتنبي فقال:
ما كنت أعلم وهو يودع في الثرى ... أن الثرى فيه الكواكب تودع
تذكرت هذا البيت ومناسبته وأدباء العربية حافون بقبر من كانت رسالته للدكتوارة عن أبي العلاء فناجيت نفسي: " ما أشبه الليلة بالبارحة".
أبسمي فوق قبره يا نجوم ... وترنم من حوله يا نسيم
فالدفين الذي هناك يقيم ... عالم عبقري و روح كريم
ولسان تخاله نبويا
ومضت الحياة كما هي دائما تمضي. ولسان حال جامعته يقول:
قد كان نبراسنا في المعضلات إذا ... ما ليلها حل واربدت نواصيه
فمن لنا في غد إن أزمة عرضت ... وليس فينا أخو حزم يضاهيه ؟
رحم الله العلامة عبد الله الطيب
عبد الملك محمد عبد الرحمن نصر
قسم الفيزياء- كلية العلوم - جامعة الخرطوم، الخرطوم . 19يونيو 2115م
البريد الإلكتروني: . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.. هاتف محمول: 0999922130 - 0116116982


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.