السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نحو حوار هادئ مع فقهاء السودان (الحلقة الاولي) ... بقلم: د. حيدر ابراهيم علي
نشر في سودانيل يوم 16 - 12 - 2009

يثير التدخل المستمر لرجال الدين في الشؤون العامة للناس، لابصفة المواطنة والحقوق الاساسية في التعبير عن الرأي، بل كسلطة دينية تمتلك الحقيقة المطلقة؛ كثيرا من الخلاف والاستهجان احيانا. فقد اصدرت المجموعة المسماة: هيئة علماء السودان فتوى اشكالية حول مسيرة يوم الاثنين السابع من ديسمبر2009 والتي سيرتها القوى التي شاركت في مؤتمر جوبا.والمقال الحالي هو محاولة لفتح حوار هادئ وجاد مع هذه المجموعة،رغم شكي المسبق في جدوي هذا الحوار. إذ أن إي حوار يفترض وجود طرفين بينهما احترام . ولكن رجال الدين يرون بأن رأيهم نهائي لا يحتمل اي جدل فهم قد ثبتّوا انفسهم كمرجعية دينية مطلقة تحتكر حق تفسير الدين،واي نقاش معهم يدخل صاحبه في زمرة الكفر وعداء الاسلام والردّة. فقد قصروا صفة: أهل الذكر،علي مجموعة تلقت تعليما دينيا واحتلت مواقع في مؤسسات دينية.فهي – حسب لغتها – ختمت "العلم" وبالتالي لا يحتاج ما تلقته من معارف دينية الي أي تطوير أو اضافة أو مراجعة.ومن المفترض ان تكون مناقشة المسلمين مهما كان مستواهم الفكري أو وضعهم الاجتماعي،جزءا من امانة التكليف وبيان الحق الذي يتصدي له من يفتي.وهذا يمكن ان يكون ضمن معني الآية الكريمة:-" واذا أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه".(سورة آل عمران:187) لان الأمر لا يتوقف عند أن يقول المفتي كلمته ويمضي، بل عليه ان يقف الي جانب كلمته ويدافع عنها. واخشي ان يكون تجاهل الفقهاء للنقاش والحوار نوعا من الاستعلاء غير المبرر ومن صفات اي عالم أو فقيه التواضع.
يشتمل هذا الحوار علي محورين أو مجالين، الأول خاص بجوانب شكلية واجرائية والثاني متعلق بالمضمون والمنهج. ففي المحور الاول تساؤلات حول هوية هذه الجماعة وكيف ولماذا تكونت؟ هل برزت حاجة واقعية حقيقية لقيام مثل هذا الكيان مع وجود عدد من المؤسسات تقوم السياسي؟ومن يحق له أن يفتي وكيف نوقف فوضي الفتوى حيث يتصدي الكثيرون في القنوات الفضائية واجهزة الاعلام؟ والموقف من التسيب والتهيب في اصدار الفتوى. وفي المحور الثاني، يهمنا معرفة الاضافة الاجتهادية أو التجديد الذي تساهم به هيئة علماء السودان من خلال نشر مثل الفتوى الاخيرة.فالمسلمون يعانون من حالة تخلف وفوات تاريخي،جعل شكيب ارسلان يتساءل مبكرا ماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟ وان يكتب ابوالحسن الندوي: ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين؟ هناك حاجة الي اجتهاد يبحث في سبل اللحاق بالعصر ورفع التناضات بين الاسلام ومنجزات الانسانية المادية وغير المادية.فماهو اسهام هيئة علماء السودان في هذا المجال؟ هل تسببت فتاوى الهيئة في ادراجها ضمن ما يسمي فقهاء السلطان أو علماء السوء أم أن الهيئة مستهدفة؟ هل تفضل وجود السلطان الجائر علي غياب السلطان أو تأجيله؟هل يمكن ان يكون الافتاء مستقلا تماما ولايقف الا مع الحق أم أن جاذبية السلطة او هيبتها يستحيل مواجهتها ومقاومتها؟
المحور الاول: - الشكل
اول الاسئلة هو: ماهي المعايير المعتمدة للاختيار هل هي قدراتهم وكفاءاتهم أم حسب الوظيفة والانتماءات الايديولوجية مضافة اليها؟هل تمثل الهيئة كل علماء السودان بمعني هل العلماء الذين ينتمون الي حزب الامة والحزب الاتحادي والاحزاب والطرق الصوفية الاخري؟ولو فرضنا وجودهم في عضوية الهيئة فهل وافقوا علي ادانة احزابهم حسب مضمون الفتوى الصادرة هذا الاسبوع؟ لماذا لم يصدر المجمع الفقهي السوداني فتوى بخصوص المسيرة وهو الجهة الرسمية المنوط بها؟ وهل يتم التنسيق بين المنظمات ذات الطابع الديني مثل مجمع الفقه والمجلس الاعلي للدعوة الاسلامية،والمجلس القومي للذكر والذاكرين؟ كيف تم تسجيل الهيئة هل هي منظمة مجتمع مدني ذات عضوية مفتوحة وطوعية أم هي نقابة مهنية؟
يري البعض ان فكرة وجود هيئات للفتوى هي أقرب الي البدعة والاستحداث،لأنه لم يوجد في الاسلام منذ الخلافة الراشدة ما يسمي بالمفتي. ظلت عملية ابداء الرأي والاجتهاد وتفسير ما يغمض،عملية فردية، وتتطلب توفر صفات صعبة من العلم والاخلاق.ومع الزمن وتباعد الناس عن البداية وظهور قضايا جديدة احتاج الناس لمن يجيب عن اسئلتهم.وتقدم الفقهاء لبيان وتوضيح الدين من خلال التأويل والتفسير.وهنا ظهرت حاجة حقيقة لما درجنا علي تسميته :الفتوى. فقد خشى المسلمون على الأحكام الدينية نتيجة التطورات التي أصابت مجتمعاتهم وحكامهم الذين لم يعودوا متفقهين في العلم الدينيه. وكان الفقه- في البداية- ينمو ويتطور بواسطة عمل شعبي بعيداً عن نشاط الدولة وأجهزتها أي من وظائف المجتمع المدني وليس الدولة. ويفرض المجتهد نفسه من خلال الاعتراف العام الذي يكسبه بعلمه وتدريسه ومناظراته، وتسعى الناس إلى من تتوسّم فيه الصلاحية للفتوى فيستفتونه. وصنّف بعض الأكاديميين المهتمين بالسوسيولوجيا المهنية أو السياسية، الفقهاء: "كفئة اجتماعية ذات وظيفة أيديولوجية تتمثل في نوع من الوساطة الدينية التي تقوم على تقديم الخدمات الروحية والدينية لعموم المؤمنين سواء في أداء الشعائر أو في إصدار الأحكام وفي الإرشاد والتوجيه المعنوي والأخلاقي على وجه العموم. وأخذت هذه الفئة الاجتماعية تتميز تنظيمياً ووظيفياً وأيديولوجياً مع ازدياد الحاجة إليها للفصل والإفتاء في القضايا التي جاءت مع التحديث والتغيرات الاجتماعية.
لم يعرف الإسلام فكرة فصل السلطات الثلاث، فمنذ عهد النبوة وحتى الخلفاء وأمراء المؤمنين والسلاطين وحكام المسلمين عامة، تركزت السلطة التشريعية والسلطة القضائية والسلطة التنفيذية، في يد الحاكم، باختلاف التسميات والألقاب. لذلك ربطت ممارسة الفتوى- في البداية- بالسلطة العامة بطرق متعددة، فقد سيطرت الدولة على ممارسة المهمة- هذه السيطرة كانت من وظائف القاضي- الذي يستطيع في حالة الضرورة أن يحجر على المفتي. رغم انه من المتعارف عليه، هو أن القاضي يمكن أن يسأل المفتي أي يستفتيه، والعكس غير ممكن.
ظهرت الصفة الرسمية للاثنين مع خروج منصب الإفتاء من السلطة التشريعية بالإضافة لمنصب القضاء من السلطة القضائية، لأول مرة في عهد السلطان سليمان القانوني عام 926ه (1520م). ويسمي القانونيون وضعية الفتوى هذه: التشريع من الدرجة الثانية أو التشريع غير المبتدأ. وفي التطبيق الإسلامي في الماضي خرجت هذه الوظيفة عن الإمامة وخرجت عن إطار الولايات والإمارات أي ليست من الوظائف الاجتماعية التي يصدق عليها وصف سلطات الدولة ورجالها ليسوا أهل قرار إنما هم أصحاب رأي وفتوى بمعنى إن لم تكن لهم ولاية على غيرهم ينفذون بها ما ينتهون إليه من حقوق الآخرين وأوضاعهم. حاولت الدولة العثمانية التي اهتمت بوجود المنصب، ربط وظيفة المفتي بوظيفة القاضي، وكان حاملو المنصب يمنعون من إعطاء فتوى. وفي عهد مراد الثاني (824- 855ه/ 1421- 1451م) وضع حق إصدار الفتوى حصراً في يد شخص عرف باسم شيخ الإسلام، ورغم تعيينه من قبل السلطان،ولكن ليس له دور في مجالس الدولة، ولا مرتب مقابل قراراته، إشارة إلى أنه فوق الاعتبارات الدنيوية.
أما في مصر فقد كان لتاريخها الإداري ودولتها المركزية العتيقة التي امتدت الآف السنين، أثره على قيام مؤسسات دينية قوية ومؤثرة على مستوى العالم الإسلامي ككل. فقد زود الأزهر مؤسسة الفتوى في مصر وخارجها بكوادر وموظفين، بالإضافة لرجال الدعوة الذين انتشروا في انحاء العالم. لذلك كان من الطبيعي أنّ الجهة التي تمتلك أكبر وأقوى مؤسسة هي دار الإفتاء، لأنها احتضنت طبقة واسعة للعلماء اشتبكت مصالحهم مع الدولة في تعايش سلمي استفاد منه الطرفان كثيراً. عند مجيء العثمانيين الذين أرادوا تحويل النفوذ الدني إلى الآستانة. ولكنهم كانوا أول من أنشأ منصب شيخ الأزهر عام 1101ه/1690م ليتولى رئاسة العلماء ويشرف على شؤونه الإدارية والعامة. وخطورة هذه الخطوة هي أن شيخ الأزهر أصبح موظفاً رسمياً تعينه الدولة بعد أن ينتخب ناظر من كبار العلماء الأزهريين تأثيرها، فقد ساعد العلماء محمد علي باشا (1805م) بعد خروج الفرنسيين من مصر ومكّنوه من السلطة، ولكن رفض وصاية الأزهريين حتى كمستشارين، فهو حاكم مطلق وقام بفصل- ضمني- للدين عن الدولة. إذ لم يقبل تدخل الأزهر في الشؤون العامة، وفي نفس الوقت اهتمت أسرة محمد علي الحاكمة بتطوير دور الأزهر العلمي والديني داخل مصر وخارجها فهم الذين ابتدعوا فكرة الرواق للدارسين القادمين من خارج القاهرة ومصر.
أصدر الملك فؤاد الأول القانون رقم 46 لسنة 1930 حيث افتتحت كلية أصول الدين عام 1933 وكلية الشريعة ومساكن الطلبة والإدارة العامة للمعاهد. واستمر الملك فاروق في نفس خطى والده في رعاية الأزهر وعلمائه وكان يحضر الاحتفال بمطلع العام الهجري، وإن شهد عهده في بعض الأحيان خلافات مع شيوخ الأزهر، فقد عزل الشيخ عبد المجيد سليم عام 1951 لرفضه التدخل في شؤون الأزهر.ولاحقا اهتمت ثورة يوليو 1952 بالأزهر وقد كان بناء مدينة البعوث الإسلامية الذي بدأ عام 1954 بأمر من جمال عبد الناصر. وفي محاولة الدولة الشمولية للسيطرة على كل المجتمع والمؤسسات والفضاء السياسي، واحتكار وتوجيه الحركة والنشاط، صدر قانون تطوير الأزهر عام 1961. ومن أول خطواته تعيين شيخ الأزهر، مع ملاحظة أن الملك فاروق وافق على صيغة توفيقية حيث تنتخب هيئة كبار العلماء (30 عالماً يمثلون كل المذاهب) شيخ الأزهر ويرسل الترشيح إلى القصر فيصدر أمر ملكي بتعيينه. وتم- حسب القانون الجديد- إلغاء هيئة كبار العلماء نفسها والتي أنشئت حسب القانون رقم 10 لعام 1961 لتنظيم شؤون الأزهر، وحل محلها مجمع البحوث الإسلامية.
هذا هو تاريخ مأسسة الفتوي وربطها بالسلطة السياسية. وفي السودان حافظت الادارة الاستعمارية علي القضاء الشرعي رسميا،وظل الافتاء مهمة تطوعية يقوم بها الفقهاء كامتداد لدور الفقرا التاريخي في السودان. وكان البريطانيون يستعينون بهئية شرعية تمثلت في نائب السكرتير القضائي للحاكم العام والذي يتولي مهمة الافتاء في الاحوال الشخصية للمسلمين.ولكن كان أول من تولي منصب مفتي الجمهورية الشيخ عوض الله صالح بقرار جمهوري عام1978.وفي العام التالي صدر قرار انشاء مجلس للافتاء الشرعي.واعيد تشكيل مجلس الافتاء مرتين في عامي1988و1991.
ارتباط الفتوى بالسلطة السياسية،اضر بشروط المفتي الصحيحة. وقد كان الرسول(ص) يخشي كثيرا من عدم التمسك بشروط الافتاء والعلم الديني.لذلك كان يقول:-"إن أخوف ما اخاف عليكم بعد: كل منافق عليم اللسان."(رواه احمد عن عمر) وفي موضع آخر يقول عليه السلام:-"إن الله قال: خلقت خلقا السنتهم أحلي من العسل، وقلوبهم امر من الصبر، فبي حلفت...لاتيحنهم فتنة تدع الحليم منهم حيران فبي يغترون ام عليّ يجترئون".(رواه الترمذي عن عمر) وفي حديث آخر:-"أربعة يبغضهم الله تعالي:البياع الحلاف والفقير المختال والشيخ الزاني والامام الجائر".(رواه النسائي والبيهقي عن ابي هريرة).وعرف الاسلام تشديدا قويا علي من يحق له الفتوى وكان الكثيرون من الفقهاء في الماضي يتهيبون الفتوي.وظل سؤال من يحق له ان يفتي يشغل المسلمين علي الدوام. وكان عمر بن الخطاب ،رضي الله عنه،رغم كل علمه لم يكن يميل الي الفتوي. ويعتقد أحمد أمين- أن عقل عمر عقل قضائي ورويت له أحكام كثيرة في مشكلات المسائل حتى في حياة رسول الله (ص)، بالإضافة إلى فراسته في الناس وفيمن يوليه الأعمال فقد كانت في منتهى الصدق. فالفتوى لا تحتاج إلى علم ديني فقط، والدليل هو أن ابنه عبدالله، كان من أميز علماء الصحابة ، ولكنه كما قال عنه الشعبي: "كان جيد الحديث ولم يكن جيد الفقه" حمله الورع والخوف من الله ألا يكثر من الفتوى وألا يدخل في شيء من الفتن. ويقول عتبة بن مسلم: صحبت ابن عمر أربعة وثلاثين شهراً، فكان كثيراً ما يُسأل فيقول: لا أدري. (القرضاوي، 1992: 21).
ويُكثر العالم الورع من لا أدري، تجنباً لأي موقف يجعله مذنباً أو مخطئاً، رغم معرفته.
وعُرف عن أئمّة المذاهب المعروفة إكثارهم من: لا أدري، رغم علمهم وإنجازاتهم الفقهية العظيمة. روي عن الشافعي: "أنه سئل عن مسألة، فسكت، فقيل له ألا تجيب رحمك الله؟ فقال: حتى أدري الفضل في سكوتي أو في الجواب". وروي عن أبي بكر الأثرم، قال: "سمعت أحمد بن حنبل يُستفتى فيكثر أن يقول لا أدري، وذلك فيما قد عَرفَ الأقاويلَ فيه". وعن الهيثم بن جميل (ت 213ه)، قال: "شهدت مالك بن أنس سئل عن ثمانٍ وأربعين مسألة فقال في اثنتين وثلاثين منها: لا أدري". وعن مالك أيضاً: "أنه ربما كان يُسأل عن خمسين مسألة فلا يجيب في واحدة. وكان يقول: "من أجاب في مسألة فينبغي من قبل أن يجيب فيها أن يعرض نفسه على الجنّة أو النار، وكيف يكون خلاصه في الآخرة؟ ثم يجيب فيها". وعنه: "أنه سئل عن مسألة؟ فقال: لا أدري فقيل له: إنها مسألة خفيفة سهلة. فغضب، وقال: ليس في العلم شيء خفيف، أما سمعت قوله جل ثناؤه: {إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا}. فالعلم كله ثقيل، وبخاصة ما يُسأل عنه يوم القيامة". وعن سعيد بن المسيب: "أنه كان لا يكاد يفتي فتيا ولا يقول شيئاً إلا قال: اللهم سَلمني، وسَلم مني"
كان بعض السلف إذا أفتى يقول: "إن كان هذا صواباً فمن الله، وإن كان خطأ فمني"
وردت مواقف كثيرة حول أجرة المفتي وهل يجوز له شرعا ان يطلب أو يقبل اجرا عن الفتوى أم لا؟
رغم كل هذه المحاذير،تكثر فتاوى هيئة علماء السودان في قضايا خلافية وسياسية غالبا.
اذ يبدو ان الهيئة تريد تمتين علاقاتها مع السلطة علي حساب رصانة ومسؤولية العلم الديني.وكثيرا ما تستغل الهيئة الاسم الضخم في ارهاب المعترضين علي مواقفها. وهي تسمية - بالفعل – غير دقيقة والاصح: هيئة فقهاء السودان أو علماء الدين. فهي تسمية توحي وكأن العلم هو الفقه وحده، وهنا يخرج من التصنيف علماء الفيزياء والرياضيات والطب.وهذا ما يفسر لماذا صار اي شيخ يفتي دون ان يرمش له جفن في نقل الاعضاء أوعلوم الفضاء أو الاستنساخ أوالشيزوفرنيا. فقد نصّب المفتون من انفسهم سدنة المعرفة والحكمة والقائمين عليها.فقد تراجعت كل انواع العلم التجريبي ليحل محلها العلم الديني.فالفقهاء هم الذين يحتلون شاشات القنوات الفضائية ويتحدثون بلا تردد عن موضوعات لم يدرسوها.وهم يساهمون في افقار المعرفة والعلم بسبب خروجهم عن تخصصاتهم والتعدي علي ميادين معرفة تحتاج لتأهيل مختلف لا يملكه الفقهاء.
مجال الفتوى شائك ومثقل بالاختلافات لاسباب موضوعية وذاتية. فقد لاحظنا كيف بادر الشيخ يوسف القرضاوي سريعا الي معارضة فتوى هيئة علماء السودان وقال بحق المسلمين في التظاهر والاحتجاج. كيف يكون الاختلاف جذريا من اصحاب مرجعية دينية واحدة؟يرجع هذا الامر الي التكوين الفقهي والاكاديمي للشيخ القرضاوي والدكتور محمد عثمان محمد صالح الامين العام لهيئة علماء السودان.اذ أن الامين العام للهئية حاصل علي الدكتوراة من جامعة ادنبرة باشراف المستشرق مونتقمري واط ،وهوعالم متمكن ولكن يتهم بالميول الكنسية القوية.وبالتأكيد استفاد د.عثمان من المناهج العديدة والجديدة مما جعله واثقا من آرائه ولذلك يقتحم مجال مثل السياسة بلا تردد.ومن الناحية الاخري اقتنع الشيخ القرضاوي بمبدأ الوسطية وصار يسعي باستمرار الي تجنب الصدام والتطرف في مواقفه.
(نواصل)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.