رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    العطا في استقبال كباشي .. بعد زيارة لدولة جنوب السودان    الرئيس التركي "اردوغان" يستقبل رئيس مجلس السيادة "البرهان" بأنقرة    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    عملية منظار لكردمان وإصابة لجبريل    بيانٌ من الاتحاد السودانى لكرة القدم    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    لحظة فارقة    «غوغل» توقف تطبيق بودكاستس 23 يونيو    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    تشاد : مخاوف من احتمال اندلاع أعمال عنف خلال العملية الانتخابية"    دول عربية تؤيد قوة حفظ سلام دولية بغزة والضفة    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    وزيرالخارجية يقدم خطاب السودان امام مؤتمر القمة الإسلامية ببانجول    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    وداعاً «مهندس الكلمة»    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة لها مع زوجها وهما يتسامران في لحظة صفاء وساخرون: (دي محادثات جدة ولا شنو)    شاهد بالصور والفيديو.. رحلة سيدة سودانية من خبيرة تجميل في الخرطوم إلى صاحبة مقهى بلدي بالقاهرة والجمهور المصري يتعاطف معها    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    مستشار سلفاكير يكشف تفاصيل بشأن زيارة" كباشي"    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إعادة قراءة أيام عميد الأدب العربي طه حسين .. بقلم: د. محمد صغيرون الشيخ *
نشر في سودانيل يوم 12 - 10 - 2015


بسم الله الرحمن الرحيم
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.
درس الآلاف من أبناء السودان ما يمكن إعتباره مذكرات أو قصة حياة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين - رحمه الله - والتي سطرها بنفسه في كتابه " الأيام" ضمن المنهج الدراسي السابق. حيث كانت "الأيام" ضمن المقرر الخاص بمادة الأدب العربي، ولقد كان يتم توزيع الكتاب للطلاب مجانا من بين الكتب الدراسية الأخرى. مما أتاح لي الاطلاع على هذا الكتاب، هذا فضلا عن تشجيع المدارس طلابها على الإطلاع العام والاقبال على الدرر التي تذخر بها المكتبات وما تنتجه المطابع وذلك من خلال حصة "المكتبة"، فقد كانت هنالك قاعة مخصصة للاطلاع في المدرسة تضم نفائس الكتب باللغة العربية والانجليزية، وانحسر هذا الأمر بعد ذلك ليتم توزيع الكتب داخل الفصل في "حصة المكتبة". كما أن الإطلاع والاقبال على الكتب خارج المقرر لا يتم تشجيعه من قبل المدارس فحسب بل ومن كل المجتمع السوداني برمته، فالمجلات والكتب تتوفر باسعار مناسبة في المكتبات التجارية، فضلا عن وجود مكتبات عامة في معظم مدن السودان، كانت تضم كل أصناف الكتب والتي من بينها كتب للأطفال، ويتفاخر الصغار قبل الكبار عندما يتقابلون : أنا قرأت هذا الكتاب وإطلعت على ذاك!! ووقتها كان شراء الكتاب هدية معتبرة خاصة بعد النجاح أو الانتقال إلى مرحلة دراسية جديدة.
أتيحت لي الفرصة مرة أخرى للإطلاع على ما جادت بعد قريحة عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين "الأيام" خلال الأسابيع المنصرمة، بعد أن درسته منذ عدة سنوات خلت، ولعلها سانحة طيبة لأشرك القارئ الكريم في بعض الخواطر والملاحظات التي دونتها أثناء إطلاعي غير المتعجل للكتاب، فعندما تعيد قراءة مادة للمرة الأخرى بعد عدة سنين، تعرض عليك الصور التي تستدعيها الذاكرة عن الأحداث والمجريات المرتبطة بالقراءة الأولى للكتاب، هذا فضلا عن مرور السنوات والأيام. عندما اشتريت الكتاب " الأيام" قبل نحو شهرين في إحدى مكتبات الاسكندرية، ناولتي البائعة الكتاب ومرفق معه فاتورة الشراء وهي تضحك ساخرة : تصور الأيام بقت بي عشرين جنيه. صحيح أن الكتاب قيمته عشرون جنيه مصري، ولربما أيامها وأيامي وأيامك تساوي عشرين جنيه أو أقل أو أكثر !! ولعلها مناسبة طيبة للوقوف وطرح السؤال على أنفسنا : كم تساوي الأيام أو بالأحرى أيامنا؟؟؟
بأسلوب أدبي رفيع سهل وواضح مع المحافظة على قواعد اللغة العربية وألقها، يحدثنا الكاتب و الأديب الدكتور طه حسين على جزء من جانب حياته، مركزا فيه على صباه وشبابه، بدءا عن طفولته والكتاب ( الخلوة)، ومن بعد الأزهر والجامعة ودراسته في فرنسا. صدر كتاب الأيام في عام 1929م كما صدرت له ترجمة في لندن تحت عنوان "طفولة مصرية"، كما صدرت ترجمات فيما بعد للأجزاء التي أعقبت صدور الجزء الأول. وتصف «دائرة المعارف البريطانية» ترجمة «الأيام» بأنها: أول أدب عربى حديث عرفه الغرب. كما أن هذه الترجمة توجد نسخة منها فى مكتبات الهيئات الأوروبية التى تعمل فى مجال خدمة المكفوفين، وبعضها يدرسها ليتعلم منها الشباب كيفية تخطى الصعاب وتحقيق الأحلام الشخصية رغم إعاقة فقدان البصر. وللدكتور طه حسين العديد من المؤلفات من أشهرها "في تجديد ذكرى أبي العلاء" و "في الشعر الجاهلي" و "ودعاء الكروان"، فضلا عن إسهاماته الأدبية ومشاركاته الجريئة في المحاضرات والندوات والمقالات الصحفية. فبينما يرى البعض أن الدكتور طه حسين - رحمه الله- رائد من رواد التنوير والحداثة يصنفه البعض بأنه من عملاء التغريب والاستلاب الثقافي والفكري.
جاء ميلاد الدكتور طه حسين في الجمعة منتصف نوفمبر 1889م في قرية الكيلو بمحافظة المنيا بصعيد مصر، وكان سابع ثلاثة عشر من أبناء أبيه، وخامس أحد عشر من أشقته. وكان يشعر بأن له بين هذا العدد الضخم من الشباب والأطفال مكانا خاصا يمتاز من مكان إخوته وأخواته. أكان هذا المكان يرضيه؟ أكان يؤذيه؟ الحق أنه لا يتبين ذلك إلا في غموض وإبهام. والحق أنه لا يستطيع أن يحكم في ذلك حكما صادقا. كان يحس من أمه رحمة ورأفة، وكان يجد من أبيه لينا ورفقا، وكان يشعر من إخوته بشئ من الاحتياط في تحدثهم إليه ومعاملتهم له. ولكنه كان يجد إلى جانب هذه الرحمة والرأفة من جانب أمه شيئا من الإهمال أحيانا، ومن الغلظة أحيانا أخرى. كان يجد إلى جانب هذا اللين والرفق من أبيه شيئا من الإهمال أيضا، والازورار من وقت إلى وقت. وكان احتياط إخوته وأخواته يؤذيه، لأنه كان يجد فيه شيئا من الإشفاق مشوبا بشئ من الازدراء. على أنه لم يلبث أن تبين السبب فلقد كان كفيفا.
كان والده الشيخ حسين موظف صغير الحال في شركة السكر. وبعد مرور أربعة أعوام أصيبت عينا الطفل بالرمد مما أطفا النور فيهما وأصاب الطفل بالعمى . تلك العلة التي لازمته طوال حياته. وحددت له الكثير في حياته، وجعلت الوحدة والألم والعزلة ليس بالسياج الذي يحيط بحياته وإنما بمثابة القضيب الذي سار عليه قطار أيامه. فإخوته وأخواته يستطيعون ما لا يستطيع، وينهضون من الأمر مالا ينهض له. وأحس أن أمه تأذن لإخوته وأخواته في أشياء تحظرها عليه. وكان ذلك يحفظه. ولكن لم تلبث هذه الحفيظة أن استحالت إلى حزن صامت عميق، ذلك أنه سمع إخوته يصفون ما لاعلم له به، فعلم أنهم يرون ما لا يرى. فحرم على نفسه من ألوان اللعب والعبث كل شئ، إلا ما لايكلفه عناء ولا يعرضه للضحك أو الإشفاق. وحرم تناول الطعام أمام الآخرين حتى لا تتسخ ملابسه ويصبح مسار سخرية للآخرين.
أدخل والد طه حسين كتاب (خلوة) القرية لتعلم العربية والحساب وتلاوة القرآن والذي حفظه ولم يتجاوز عمره التاسعة، في مدة قصيرة أذهلت أستاذه وأترابه ووالده الذي كان يصحبه أحيانا لحضور حلقات الذكر، والاستماع إلى حكاوي عنترة بن شداد وسيرة أبوزيد الهلالي. وكان في ذلك تعويضا له عن إنصرافه عن العبث، فكان أحب شئ إليه أن يسمع إنشاد الشاعر، أو حديث الرجال إلى أبيه والنساء إلى أمه، ومن هنا تعلم حسن الاستماع. وكان أهل القرية يحبون التصوف ويقيمون الأذكار، وكان صاحبنا يحب منهم ذلك، لأنه كان يلهو بهذا الذكر، وبما ينشده المنشدون أثناءه. ولم يبلغ التاسعة من عمره حتى كان قد وعي من الأغاني والتعديد والقصص وشعر الهلاليين والزناتيين والأوراد والأدعية وأناشيد الصوفية جملة صالحة، وحفظ إلى ذلك كله القرآن.
لم تخلو حياة الصبي من اللهو والعبث، فنسي حفظ القرآن لأكثر من مرة، فدفع به والده الشيخ لعريف يرعاه بدلا عن سيدنا الي كان يحفظه القران في الكتاب. يقول طه حسين: لم يكن العريف أقل غرابة من سيدنا، كان شابا طويلا نحيفا أسود فاحما. أبوه سوداني، وأمه مولده، وكان سئ الحظ، لم يوفق في حياته لخير، جرب الأعمال كلها فلم يفلح في شئ منها. فلما ضاقت به الحياة وضاق يها أقبل إلى سيدنا، فجعله عريفا يعلم الصبيان القراءة والكتابة، ويلاحظهم ويمنعهم من العبث، ويقوم على أمر الكتاب ونظافته. ضاق الصبي بالعريف وصار يقدم له الرشاوى، فتفلت منه القران مرة أخرى. بيد أن نبوغه جعل والده الشيخ يدفع به لأخيه الأكبر ليعلمه الألفية وقواعد اللغة ومن بعد لقاضي المحكمة لتعليمه الفقه، على أن صبينا لم يلبث أن أضاف إلى هذه الألوان من العلم لونا آخر جديدا، وهو علم السحر والطلاسم، اضافة إلى كتب أخرى عن الأوراد، ثم قصص المولد النبوي، ومجموعات من الشعر الصوفي، ثم كتبا في الوعظ والارشاد، ودرس مبادئ النحو والصرف، مما جعل الصبي يتعالى على سيدنا وطلبته في الكتاب، وعلى أهل القرية ويهاجم تصوفهم وعقائدهم، بكل قساوة وضراوة.
انتقل طه حسين للقاهرة للدراسة في الأزهر، قضى أربعة سنوات كان يعدها أربعون عاما. لم يكتف بوصف وسرد حياته في الأزهر والتنقل بين حلقات العمل والشيوخ، و الدروس التي كان يتابعها في المساجد التي حول القاهرة، والملل الذي كان يشعر به، وهجمومه ومناكفته للشيوخ فحسب، بل وإنما أسهب في وصف سكنه البائس والطريق الذي كان يسلكه بين مسكنه والأزهر. جاء الصبي للأزهر وهو يشعر شعورا غامضا ولكنه قوي بأن هذا العلم لا حد له، وبأن الناس قد ينفقون حياتهم كلها ولا يبلغون منه إلا أيسره. وكان يريد أن ينفق حياته كلها وأن يبلغ من هذا العلم أكثر ما يستطيع أن يبلغ مهما يكن في نفسه يسيرا. وكان قد سمع من أبيه الشيخ ومن أصحابه الذين كانوا يجالسونه من أهل العلم أن العلم بحر لا ساحل له، فلم يأخذ هذا الكلام على أنه تشبيه أو تجوز، وإنما أخذه على أنه الحق كل الحق. وأقبل إلى القاهرة يريد أن يلقى بنفسه في هذا البحر فيشرب منه ما شاء الله له أن يشرب ثم يموت فيه غرقا. وأي موت أحب إلى الرجل النبيل من هذا الموت.
بيد أن طه حسين لم يتخرج من الأزهر ليس بسبب ما عاناه من عاهته وبصره الكفيف، فهو يعتقد بأن شيوخ الأزهر تآمروا عليه ولم يمنحوه الإجازة. فرغما عن فقر الحال كان الشباب من طلاب العلم ينفقون ساعة حلوة من ساعات حياتهم، وكان الصبي يهمل إهمالا تاما لا تلقى إليه جملة، ولا يحتاج إلى أن يرجع على أحد جوابا. فقد كان للصبي من يأخذه بيده في غير كلام، ويجذبه في غير رفق، ويمضي به حيث يخرجه من السكن للأزهر ومن الأزهر للسكن، حتى يلقيه في مكانه من الغرفة على ذلك البساط القديم قد بسط على حصير بال عتيق، ومنذ ذلك الوقت يتهيأ الصبي لاستقبال حظه من العذاب. وكانت الوحدة المتصلة مصدر ذلك العذاب، فقد كان الصبي يستقر في مجلسه من الغرفة الساعات الطوال. وكان الصبي محبا وكلفا ومتشوقا لم يقوم به أقرانه من لهو وتجاذب الحديث حول بابور الشاي وغيره من اللهو، فهو لا يستطيع أن يطلب ذلك، فأبغض شئ إليه أن يطلب إلى أحد شيئا. ولو قد طلب ذلك إلى أخيه لرده عنه ردا رفيقا أو عنيفا، ولكنه مؤلم له، مؤذ لنفسه على كل حال. فالخير في أن يملك على نفسه أمرها، ويظل قابعا في مجلسه مطرقا مغرقا في تفكيره. ففي نفسه رغبة ورهبة وأمل ويأس، مما يملأ قلبه بؤسا وحزنا. كما أنه ينفق الاسبوع والشهر لا يعيش إلا على خبز الأزهر. وويل للأزهريين من خبز الأزهر إن كانوا يجدون فيه ضروبا من القش وألوانا من الحصى وفنونا من الحشرات. ولا يغمس هذا الخبز إلا في العسل الأسود. وكما لم يستسغ طه حسين خبز الأزهر لم تتطب له دروسه وشيوخه، فتخصص في جدالهم ومناكفتهم ليترك الأزهر دون إجازة علمية، وليغادر بيئة العمائم ويتصل ببيئة الطرابيش ويلتحق بالجامعة. ليحصل منها على درجة الدكتوراة في مايو عام 1914م، و لم ينم الفتى من ليلته تلك، فقد حال الابتهاج بينه وبين النوم، وهو يعلم أنه ما أحس السعادة قط، كما أحسها في ذلك اليوم وفيما تلاه من الأيام، لا لأنه ظفر بهذه الدرجة الجامعية، ولا لأنه كان أول ظافر بها، ولا لهذه الاحتفالات التي أقيمت له ولا لكثرة ما تحدثت الصحف عنه وعن فوزه، أو للمكافأة المالية التي ظفر بها، بل لشئ آخر بعيد عن هذا أشد البعد، قريب منه أشد القرب، وهو أنه قد قبل التحدي وظفر بدرجة الدكتوراة، وأصبح سفره إلى فرنسا دينا له على الجامعة ليس لها بد من أن تؤديه إليه.
كان والده سعيدا بسفر إبنه لفرنسا، وكان يتحدث به إلى الناس ، و كثيرا ما يقول لأولئك وهؤلاء: لله في خلقه شئون! هذا أضعف أبنائي وأخفهم عليَ حملا وأقلهم نفقة قد أتيح له ما لم يتح لإخوته الأقوياء المبصرين الذين كلفوني من النفقة ما أطيق وما لا أطيق، لم تتحدث الصحف عن واحد منهم، ولم يقابل الخديوي واحدا منهم، ولم يخطر لي ولواحد منهم أنه قد يسافر إلى أوربا كما سافر إليها أبناء الأغنياء وكان قصارى ما تمنيت لابني هذا أن يجلس إلى عمود في الأزهر ليلقي الدروس على بعض طلابه، فإذا هو مسافر إلى باريس تلك التي نسمع أحايثها الأعاجيب.
كان الفتى يوازن بين حياته في الجديدة في فرنسا وحياته تلك القديمة، ويقيس ما بينهما من الفرق العظيم، فيرى نفسه أسعد الناس وأعظمهم حظا من النجاح والتوفيق. فانكب على دراسة الأدب والتاريخ واللغة الفرنسية واللاتينيى القديمة. وأقبل الفتى على الكتابة البارزة (لغة بريل) ليتعلمها، فلم يلبث أن أحسنها، ولكنه عندما حاول أن ينتفع بها في درسه لم يجد إلى الانتفاع بها سبيلا فلم تكن الكتب التي كان يحتاج إلى قراءتها قد طبعت على هذه الطريقة الخاصة. فهو قد تعود أن يأخذ العلم بأذنيه لا بأصبعه، ويرى أنه يستطيع أن يحصل عن طريق أذنيه في اللحظات القصيرة ما يحتاج إلى الوقت الطويل والملل الثقيل ، فقد سئم القراءة بأصابعه، وآثر الاستماع على تلمس الحروف، وأحس الحاجة إلى قارئ يقرأ عليه ما يريد في اللاتينية والفرنسية.
ظل أبو العلاء المعري يملأ نفس الفتى ضيقا بالحياة وبغضا لها، و أيأسه من الخير، وألقى في روعه أن الحياة جهد كلها ومشقة كلها، وعناء كلها وإذا بصوت قارئة يذود عن نفس الفتى كل ما ألقى فيها أبو العلاء من ظلمة التشاؤم واليأس والقنوط، كأنه تلك الشمس التي أقبلت في ذلك اليوم من أيام الربيع في فرنسا، فجلت عن المدينة ما كان قد أطبق عليها من ذلك السحاب الذي كان بعضه يركب بعضا، والذي كان يقصف ويعصف حتى ملأ المدينة أو كاد يملؤها إشفاقا وروعا. وإذ المدينة تصبح كلها إشراقا ونورا. سمع الفتى ذلك الصوت يقرأ عليه شيئا من شعر راسين ذات يوم فأحس كأنه خلق خلقا جديدا، ومنذ تلك الساعة التي سمع فيها ذلك الصوت لم يعرف اليأس إلى نفسه سبيلا. ولم يعرف الفتى أنه أحب الحياة قط كما أحبها من قبل. ولم يعرف أنه أقبل على الدرس كما أقبل عليه منذ ذلك اليوم. فقد كان الصوت يصحبه دائما، لا يكاد يخلو إلى نفسه في ليل أو نهار إلا سمعه يقرأ عليه هذا الكتاب أو ذاك، في تلك النبرات التي كانت تسبق إلى قلبه فتملؤه رضا وغبطة وسرورا.
تزوج الدكتور طه حسين في عام 1918م السيدة / سوزان بريسو الفرنسية السويسرية، تلك المرأة التي أبصر بعينيها، وقد أحبها حبا جما، ومما قاله فيها " أنه منذ أن سمع صوتها لم يعرف قبله الألم"، ورزق منها بكل من أمينة ومؤنس. قال طه حسين مخاطبا طفلته أمينة: كان أبوك يعيش جادا مبتسما للحياة والدروس، محروما لا يكاد يشعر بالحرمان. فإن سالتني كيف إنتهى إلى حيث هو الآن، وكيف أصبح شكله مقبولا لا تقتحمه العين ولاتزدريه، وكيف استطاع أن يهئ لك ولأخيك ماأنتما فيه من حياة راضية، وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثير من الناس ما يثير من حسد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس ناس آخرين ما يثير من رضا عنه وإكرام له وتشجيع، إن سألت كيف انتقل من تلك الحال إلى هذه الحال، فلست أستطيع أن أجيبك! وإنما هناك شخص آخر هو الذي يستطيع هذا الجواب فسليه ينبئك. أتعرفينه؟ أنظري إليه! هو هذا الملك القائم الذي لا يحنو على سريرك إذا أمسيت لتستقبلي النار في سرور وابتهاج. ألست مدينة لهذا الملك بما أنت فيه من هدء الليل وبهجة النهار؟! لقد حنا يا ابنتي هذا الملك على أبيك، فبدله من البؤس نعيما، ومن اليأس أملا، ومن الفقر غنى، ومن الشقاء سعادة وصفوا. ليس دين أبيك لهذا الملك بأقل من دينك. فلتتعاونا يا ابنتي على أداء هذا الدين، وما أنتما من ذلك بعض ما تريدان.
العلة التي لازمت طه حسين بعد أربع سنوات من ميلاده، صبغت حياته بألم دفين وجرح عميق، فإنطفاء النور من عينه وذهاب بصره جعله قريب من أبي العلاء الذي كلف به كثيرا. فعندما كان طفلا صغيرا تقطع عليه شقيقته استمتاعه بأناشيد الشاعر ليلا، فتشده وتحمله بين ذراعيها كأنه الثمالة، وتعدو به إلى حيث تنيمه على الأرض وتضع رأسه على فخذ أمه، ثم تعمد هذه إلى عينيه المظلمتين فتفتحهما واحدة بعد الأخرى وتقطر فيهما سائلا يؤذيه ولا يجدي عليه خيرا، وهو يألم ولكنه لا يشكو ولا يبكي، لأنه يكره أن يكون كأخته الصغيرة بكاءً شكاءً. كان مضرب المثل في الشدة، وقليل الأكل لا لأنه كان قليل الميل إلى الطعام، بل لأنه كان يخشى أن يوصف بالشره أو أن يتغامز عليه إخوته. ولشد ما آلمه ذكر آفته وعلته، ففي يوم إمتحان القرآن للإنتساب للأزهر الشريف، سعى إلى مكان الامتحان في زاوية العميان خائفا أشد الخوف مضطرب النفس أشد الإضطراب لعدم استعداده للإمتحان، ولكنه لم يكد يدنو من الممتحنين حتى ذهب عنه الوجل فجأة وامتلأ قلبه حسرة وألما، و ثارت في نفسه خواطر لاذعة لم ينسها قط، فقد انتظر أن يفرغ الممتحنان من الطالب الذي أمامهما، وإذا هو يسمع أحد الممتحنين يدعوه بهذه الجملة التي وقعت من أذنه ومن قلبه أسوأ وقع: "أقبل يا أعمى". ولولا أن أخاه أخذ بذراعه فأنهضه في غير رفق وقاده إلى الممتحنيين لما صدق أن هذه الدعوة قد سيقت إليه ، فقد كان تعود من أهله كثيرا من الرفق به وتجنبا لذكر هذه الآفة بمحضره، وكان يقدر ذلك وإن كان لم ينس قط آفته ولم يشغل قط عن ذكرها. وبعد نهاية الإمتحان قال له أحد الممتحنين :" انصرف يا أعمى فتح الله عليك".
وتكرر الأمر نفسه في الجامعة المصرية، فقد أقبل الفتى ذات مساء بصحبه غلامه الأسود، فلما بلغ قاعة المحاضرة أظهر بطاقته، فسمح له بالدخول ورد غلامه،فاشتكى الى السكرتير العام للجامعة الذي رفض شكواه وقال له :"النظام هو النظام". وشرع بعض الطلاب في مجادلته فكان رد السكرتير العام أحمد زكي بك متجهما: وماذا نصنع وقد اراد الله لصاحبكم ألا يشهد هذه المحاضرات. ولو أطاع الفتى نفسه في ذلك المساء لانصرف عن الجامعة ولحرم على نفسه الاختلاف إلى دروسها. ولكن الجامعة كانت أحب إليه وآثر من كبريائه تلك السخيفة. وبعد سنين في جامعة مونبلييه بفرنسا، سمع الاستاذ يقول لصاحبه: أيكون زميلك هذا مكفوفا! قال الزميل : نعم. فرد الأستاذ : فإني أراه قد دخل الغرفة دون أن يرفع قلنسوته. وكان الفتى حديث عهد بأوربا لم يعرف بعد أن الناس يرفعون قلانسهم حين يدخلون مكانا مسقوفا، و انهم يحضرون الدروس حاسري الرءوس. وكذلك قضي على الفتى أن يستقبل طلبه للعلم في الأزهر والجامعة المصرية والجامعة الفرنسية بكلمة عن آفته تؤذي نفسه وتفرض عليه ليلة سهرة. ثم يعرض عنها بعد ذلك، لأنه لم يكن يرى بدا مما ليس منه بد وما أكثر ما ذكر بيت أبي العلاء:
وهل يأبق الإنسان من ملك ربه فيخرج من أرض له وسماء ؟!
وكان قد قرأ فيما قرأ من أحاديث أبي العلاء أنه كان يقول: إن العمى عروة وفهم هذا كما فهمه أبو العلاء نفسه، فكان يتحرج في كثير من الأشياء أمام المبصرين، حتى لا يثير الإشفاق، و الرثاء والسخرية. فلما بلغ مرسيليا نبهه رفاقه في تلطف، أي تلطف، أن تقاليد الفرنسيين تقضي على مثله أن يضع على أجفانه تلك، غطاء من زجاج أسود واشتروا له غطاء من تلك الأغطية الزجاجية السود التي يتقي بها المبصرون ضؤ الشمس.
لم يكتف الصبي بعناده وجداله لسيدنا في الكتاب أو شيوخ قريته وصوفيتها بعد دخوله الأزهر، أو اساتذته في الأزهر والجامعة من بعد، وإنما غرق في السياسة عقب عودته من فرنسا، و كان جديرا به أن يفرغ للعلم والتعليم، وألا يفكر إلا في طلابه وكتبه، ولكن بعض الظروف تحيط بالشعوب تجعل الحيدة بالقياس إلى بعض أبنائها إثما لا يغتفر، ولا تمحى آثاره. ولعل من نافلة القول أن هذا المقال لم يخط لتبيان ودراسة آراء ومذهب وفلسفة الدكتور طه حسين، وإنما هي خواطر وقراءة مجملة لكتابه أو إن شئت سميتها رواية أو قصة حياته التي إنتهت به من فتى أعمى في إحدى قرى مصر إلى دكتور جامعي وأديب وفيلسوف، وصحفيا وأخيرا وزيرا للمعارف، وفوق هذا وذاك عميدا للأدب العربي.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.