عوامل كثيرة، ودوافع غير محددة؛ تدفع الكتّاب والشعراء إلى الخلق والإبداع، وسوف أتناول هنا النقص الجسدي الذي يدفع الكتّاب والشعراء إلى الخلق والإبداع. المثل يقول: «كل ذي عاهةٍ جبّار». والفيلسوف الألماني شوبنهور له مقولة خالدة: «قل لي ماذا يوجعك، أقول لك من أنت». والمؤرخ «هاوزر» يصف الفن بأنه دواء لطبيعة الحياة الناقصة الشوهاء. وهنالك نماذج كثيرة لكتّاب وأدباء وشعراء. «أبو العلاء المعري» كان أعمى، وكذلك «بشّار بن بُرد»، والشاعر «ميلتون»، والأديب الإيطالي «بابيتي» وصاحب الإلياذة «هو ميروس»، والأديب «طه حسين»، والداعية الإسلامي «عبد الحميد كشك»، والموسيقار «عمّار الشريعي» مؤلف الموسيقى التصويرية في المسلسلات والأفلام، والموسيقار «بيتهوفن» كان أصماً، والأديب «مصطفى الرافعي» كان أصماً أيضاً، والأديبة الأمريكية «هيلين كيلر» كانت صماء بكماء عمياء، و«ه- ج ويلز» كسرت ساقه وهو في الثامنة من عمره، وسومرست موم كان قصيراً ويعاني من «تمتمة» في لسانه تسبب له الضيق، والبحتري كان دميماً، وأبو حيان التوحيدي كان أعرج، والفيلسوف سقراط كان دميماً، والكاتب الروسي العبقري «نيكولا جوجول» كان يعاني تشوهاً في جسده، أما «إدجار ألن بو»، فكان يركز في كل قصصه وقصائده على الموت حتى إن النقاد اتهموه بنوع وحشي من الشذوذ والحنين إلى الجميلة الميتة، وكانوا لا يعرفون أنه شاهد والدته تموت أمامه، ومكث بجوارها ليلاً كاملاً حتى الصباح حين حضر الجيران، وكان هذا المشهد فظيعاً، تكرر في كل أعماله الأدبية. أما الأديب الروسي «مكسيم جوركي» فكان يعاني من السل لمدة أربعين عاماً، والأغرب أنه نشأ في أسرة احترف كل أفرادها الإجرام، لكنه تغلب على هذا الوسط، بل رفع نفسه وخرج من هذا الظلام ينشد النور في درس المذاهب واقتناء الكتب والتفكير في الإنسانية وترقية شخصيته. كانت الأمريكية «هيلين كيلر» أول فتاة ذات ثلاثع اهات تلتحق بالجامعة «صماء.. بكماء.. عمياء»، ورغم ذلك درست الجامعة، وتخرجت بدرجة الشرف، وهي في الرابعة والعشرين من عمرها، وحصلت على الدكتوراه الفخرية من جامعة «هارفارد»، ومن مؤلفاتها «قصة حياتي»، و«التفاؤل»، و«دنياي التي أعيشها»، و«من براثن الظلام». قالت: «ليس صحيحاً أن حياتي رغم القيود التي طوقتها، كانت حياة تعيسة شقية، إن لكل شيء جماله، حتى الصمت والظلام. وقد تعلمت في أية ظروف، في أية أحوال؛ أن أكون راضية سعيدة. إنني أشعر بالوحدة أحياناً، وأنا أجلس في انتظار إغلاق باب حياتي». أما «أليزابيث باريت» شاعرة الإنجليز في القرن التاسع عشر، فأصيبت بجروح في ظهرها وعمرها لم يتجاوز خمس عشرة سنة، وظلت تعاني من جروحها طوال هذه الأعوام، إلى أن حدثت المأساة التي نقلتها من دنيا الأصحاء إلى عالم المقعدين، عندما مات أكبر أشقائها الثمانية، في حادث غرق قاربه بخليج «باباكومب» وكانت في الثالثة والثلاثين، وأصيبت بصدمة عصبية أعجزتها عن الوقوف على قدميها. أما الشاعر «نزار قباني»، فانتحرت شقيقته التي تكبره، لأن والده رفض أن يزوجها من تحبه، وكان عمر «نزار قباني» في ذلك الوقت خمس عشرة سنة، وهذا أحدث هزة نفسية عميقة في شخصيته، وكان شعر «نزار قباني» صرخةً ضد «الرجل الشرقي»، الرجل الشرقي مزدوج الشخصية، يعامل المرأة كأنها «شيء»، لا يعاملها «كإنسان»، إن حادثة انتحار شقيقته بسبب حرمانها ممن تحب، ثم موت زوجته بلقيس تحت أنقاض حطام أحد المباني، هذه الأحداث شكلت شخصية نزار قباني الشعرية، وصبغت شعره بهذه النبرة، إن الناقد إذا لم يكن ملماً بهذين الحدثين؛ لن يستطيع أن يحكم حكماً صائباً على شعر «نزار قباني». وهنالك شبه بين «نزار قباني» و«إدجار»، ففي قصص وأشعار «إدجار» تتكرر صورة المحبوبة «نصف حية ونصف ميتة»، وموضوع الجميلة الراحلة «الدفن قبل الأوان»، وقصة «قناع الموت الأحمر» وبسبب تواتر هذه الصور في أعماله؛ يتهمه بعض النقاد بنوع وحشي من الشذوذ، وحنين إلى الجميلة الميتة! وهؤلاء النقاد لم يكونوا يعلمون أن «إدجار» قضى الليل كله جوار جثة أمه وهو طفل ولم يكن معه أحد، إلى أن حضر الجيران في الصباح، وأبعدوا الطفل عن الجثة ودفنوها. والنقاد يتهمون «نزار» بأنه شاعر المرأة، إن جرح نزار الذي ظل ينزف شعراً؛ كان انتحار شقيقته، وموت زوجته. عميد الأدب العربي «طه حسين» أصيب بالعمى وهو في الثانية من عمره، ثم توفي شقيقه بداء الكوليرا، وعرف «طه حسين» الإحساس بالفقد وهو في الثالثة عشرة من عمره، ولم تكن معرفته بهذا الإحساس إلا مفجراً لطاقته الشعرية في رثاء أخيه. درس الأزهر، ثم انتقل للدراسة في الجامعة المصرية، واشترطت الجامعة معرفة لغة أجنبية؛ فتعلم اللغة الفرنسية، وانتظم في دروس الأدب الفرنسي، ثم أرسلت الجامعة بعثتين إلى فرنسا، وفي فرنسا تزوج زميلته «سوزان»، ولها كتاب بعنوان «معك»، تحكي فيه قصة حياتها مع طه حسين. وأنجبت له ولداً اسمه «حسين»، وبنتاً اسمها «أمينة». ولقد ترك «طه حسين» تراثاً هائلاً في القصة والدراسات الأدبية والدينية، وفجر معارك أدبية في غاية الجرأة، ومن أكثر الكتب التي أثارت ضجة كتابه «في الشعر الجاهلي» الذي حوكم بسببه في البرلمان، أما كتابه «المعذبون في الأرض» فكان تمهيداً لثورة يوليو 1953م. وكانت ابنته «أمينة» أكثر فخراً بأبيها، «وكل فتاة بأبيها معجبة»، وكتب لابنته «أمينة» خطاباً في نبرة كلها افتخار، واقتناع بالعظمة الذاتية: «فإن سألتني كيف انتهى أبوك إلى حيث هو الآن، وكيف أصبح شكله مقبولاً، لا تقتحمه العين ولا تزدريه، وكيف استطاع أن يثير في نفوس كثيرة ما يثير من حسد وحقد وضغينة، وأن يثير في نفوس آخرين ما يثير من رضا عنه وإكرام له وتشجيع، وإذا سألتني كيف انتقلت من تلك الحالة إلى هذا الحال؛ فلست أستطيع أن أجيبك».