بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يهزم مازيمبي بثلاثية نظيفة ويصعد لنهائي الأبطال    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    وصول طائرة للقوات المسلّحة القطرية إلى مطار بورتسودان    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. عبدالله علي إبراهيم: ماذا تبقى من رحيق الماركسية؟ .... بقلم: صلاح شعيب
نشر في سودانيل يوم 23 - 12 - 2009

د.عبدالله على إبراهيم: ماذا تبقى من رحيق الماركسية؟
صلاح شعيب
لم ينل أكاديمي، غزير الإنتاج، هجوما كاسحا، وحملات من التعنيف مثل ما نال الدكتور عبد الله علي ابراهيم في السنين الأخيرة. ولعل كل ذلك النقد الذي ربما آذاه نفسيا، أو عكر صفاءات أيامه، أو أثار نقعات هدوءه، يؤكد قيمة العمل المجتهد الذي ظل ينمي به الحقل الثقافي منذ الستينات. لقد عرف الأكاديمي الفاخر بكتابة القصة القصيرة، والمسرحية المفارقة، والمقال السياسي، والإسهام بالحوار الصحفي، والندوة السياسية، والمحاضرة في حجور الأكاديميا وعرصاتها، وفي أندية ثقافية في العاصمة والأمصار، وجحورهما. على أنه ومقابل ذلك التجريح الشخصي نهض نقاد كثيرون في تبيين أخطاء تصورات الدكتور بموضوعية، وبلا إنكار لتاريخه الثقافي. ولقد بدأت هذه الإنتقادات منذ مشاركته في ما سمي ب"مؤتمر الحوار الوطني" في أيام الإنقاذ الأولى. وما كانت الإنتقادات الكثيفة لمسار الدكتور عبدالله،من قبل أصدقاء وزملاء كثر له، إلا من قبيل إحساسهم بعظم أدواره كمثقف إلتزم، وفق قناعاته السابقة، تجاه وطنه إبان عمله النظامي بالحزب الشيوعي، ومساهماته الفردية المتميزة في الحقلين الثقافي والأكاديمي. إذن لا بد أن ناقدي الدكتور المقربين إليه، منطلقين من ماضيه، توسموا فيه بأن يقوم بإستمرار بدور المثقف الملتزم. وما هذا المثقف إلا هوالناقد بجرأة لمثالب، وطحالب، ومخالب، بعض السلطات السياسية، والثقافية، والدينية، والإجتماعية، في ظروف تساقط الرموز دون الثبات أمام هذه السلطات التي سببت الإنهيار القومي.
بذلك الماضي الشيوعي حفظ د.إبراهيم، مكانا عليا في وقائع (السياسة، والإجتماع، والثقافة، والصحافة، والأكاديميا المناضلة). فقد مارس الرجل قناعة بالمنهج الماركسي، وقدم تطبيقا له لمحاشاة جور وتخلف هذه السلطات المجتمعية. وهذا حق لا يغمطه إلا جاهل بتاريخ الرجل الذي خدم الثقافة، والأدب، والصحافة. إذ سعى وفق تلك القناعات إلى إشاعة معاني الفكر في لجة الظلام السياسي الذي لا يزال يستهدف بمهارة حتى محاولة التدشين البريئة للحملة الرئاسية للأستاذ الذي عاد إلى بلاده ليحركها بجدل أفكاره.
وبرغم فاجعة الكثيرين إزاء ما يرون من رؤى إرتدادية، ومواقف رمادية، يسير عليها الدكتور عبدالله في السنين الأخيرة إلا أن كثيرين أيضا يرون أن الأمل لا يزال قائما، بأن يتضام جهده مع الناشطين في تخوم تلك (الوقائع) التي خبرها وسعى لتشذيبها، وما كان له أن يفارقها ليحيل عليها التراب. وإذ أن الدكتور ما برح يصرح بأن العلاقة بينه والشهيد عبد الخالق محجوب كانت قائمة على الندية المعرفية، وليست هي علاقة متحزب برئيسه، فقد آليت على نفسي أن أتمثل هذه الندية في نقاشي معه في ذلك الحوار الذي نشر بصحيفة (ظلال) في النصف الأول من التسعينات. كما وجدتني عبر التلفون أساجله حين كان بالولايات المتحدة، أو في الندوات التي أقامها وتيسر لي حضورها في واشنطن. وبرغم أن (حصاد معرفة) الرجل من ما لا يجعل لنشطاء مثلنا في مجال الإعلام موازاته، إلا أن إحتفاظي بموقف نقدي من أعماله كثيرا ما أفرز نقدا للمنهجية التي يتخذها في دراساته ومقالاته الأخيرة. وكذلك في الخلاصات التي يتوصل إليها مثل أن الدكتور منصور خالد جاسوس دون أن يخجل من إعترافه أن الحشمة الأكاديمية غابت حين إستهدف شخص خالد بغير تثبت أو أمانة بحثية، أو أن ما حدث في دارفور إنما هو ثورة لبرجوازيتها الصغيرة المغبونة، دون أن يرد الأسباب إلى خلل في الإبداع السياسي المركزي، أو أن المعارضة تحترف لغة التشكي، دون أن يدري أنه نفسه يستبطن تشكيا نظامية تجاه المعارضين مقابل إهمال الحكوميين!، أو أن ترشيحه للرئاسة يمثل عملا مفارقا لم يبتدره المثقفون من قبل لتنوير الأهل إنتخابيا بشؤون الديمقراطية، والإنتخاب، والثقافة. ولقد آمن الدكتور بكل هذه القناعات دون أن يضرب بقلمه الرشيق على ابواب مغلقة بالضبة والمفتاح لا يريد من هم خلفها أن تسبق فترة إنتخابه للرئاسة إجازة لقوانين مستحقة لخلق الشفافية أثناء ممارسة ديموقراطية التصويت، وهكذا وجدتنا نختلف مع طريقة التفكير الفكري التي يتوسل بها الدكتور شغل حيزه الوطني.
إن الدكتور عبدالله علي إبراهيم، حين انتبذ ملاذا غربيا من أهله المغلوب على أمرهم، كان المتوقع فيه على الأقل أن يثري معلومات العامة، والمثقفين، والمكتبة السودانية بإهمية الفصل النظامي بين السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، والإعلامية، والذي شاهده عيانا بيانا هناك، وإنتفع به أيما إنتفاع. ولكنه آثر أن يترك كل محاصيله الأكاديمية، والمعرفية، والحياتية المتراكمة، وراء البحار ليغوص في المصير الذي إنتهى إليه شيبون، ويصب جام غضبه على الدكتور منصور خالد، عبر حلقات تفوق الثلاثين، ويتخذ بعض المواقف العدائية المستمرة ضد المعارضة بدعوى نقد الذهن المعارض. وبدلا عن فحص تشريع وقضاء الإنقاذ، واللذين عليهما يتم التسنيد للشمولية المؤدلجة التي أذهقت أرواح السلام والأنام في البلاد، فضل الدكتور الكريم أن ينفض الوثائق المغبرة لتعينه على بحث أمر القضاء الشرعي في زمان الإستعمار، وقوانين البغاء في ذلك العهد.! ثم إذا ألهمته هروبيته مبحثا جديدا، لا تسبب خلاصته قطعا للرقاب، أو تنكيدا للتقاعد المريح، وجد في الترابي علما يستحق الدرس، لا من زاوية أن فكره الماحق ترك البلاد في وضع لا تحسد عليه، وإنما من زاوية أنه زعيم للتجديد الإسلامي في السودان!
بهذه المجهودات الأكاديمية ترك الدكتور خلفه القضايا/الأولويات التي تقض مضاجع شعبه ليل نهار، وتستهلك طاقته في التفكير.وإذا كان د. عبدالله قد إهتم بأولى أوليات شعبه لتخلى عن المباحث التي لا تبطل سحر الإستبداد الإسلاموي، ومن ثم وظف كل محمولاته الفكرية، عبر مقالات راتبة عن كيف أن حقوق المواطنة المتضمنة في البلاد التي تركها قد أعطت ريادة العالم لشعب متسامح، متضام، وجعلت دولته نموذجا للتفوق في كافة ميادين الحياة، حيث يحصد علماؤها جوائز نوبل في الكيمياء، والإقتصاد، والفيزياء، والأدب، ويعلمون الآخرين الآتين من وراء البحار جدوى الحرية، والديمقراطية. لو أن شيئا من عشمنا المظنون في الدكتور كان قد قبله كتحد حقيقي له، دون أن يستكثر علينا جدوى (التناصح) ومن ثم يتقبل ملاحظاتنا، لقلنا إن ضمير مثقفنا الوطني نزاع دائما للإستلهام من تجارب الشعوب المتحضرة. فلو كان الدكتور الذي قدرته تلك البلاد حق تقديره قد أفصح لشعبه المساق بفعل فاعل أحمق أشر نحو القبلية عن كيف أن أسطورة العرق "الدساس" صائرة إلى إنحسار بعد تحقق مكاسب لنضال الحقوق المدنية لأفصحنا وقتها أن الدكتور أحدث تطورا متساميا لعقله، وربما من خلال هذا التطور الجديد توفر لدارس سيرته سببا للقول إن الأديب الأريب بنى فوق مجهوداته الفكرية السابقة، والصائبة، والتي قصدت سد فجوات الوئام الجهوي التي كبلت تطور بلادنا، وجاءت الإنقاذ لتوسع الفتق على الراتق.
كل ذلك العشم ذرته رياح الأيام فما كان من أستاذنا الجيل الجليل إلا أن يزاور البلد من حين إلى آخر ليحدث تجمعاتها المحكومة بشريعة النبوت، والسوق، والأمن، والفساد، عن مسائل فرعية لا تصيب سياسة الإنقاذ المدمرة في مقتل. بل أن غوصه في هذه المسائل ربما جعل الإنقاذيين ضاحكين على هذا التخاذل المشهدي لمثقف إستسهل أن يبتعد عن التفكير بلا إلتواء حول القضايا الساخنات. بلى إن الدكتور فضل في غالب أعماله الصحفية والفضائية الأخيرة أن يسوق لشعبه ما يريد النافذون سماعه وقراءته، حتى إن إنتشر خبر ترشيحه للرئاسة وجد مدحا من عل، وقابله بمدح مدبج أبرزته الصحف. ويا لتعاسة ضمير المثقف حين يقابل ود (السلطان الجاهل، الجائر) بود غير مستحق.
والحقيقة أننا لا ندري كيف يمكن للمفكر المحدث، والوطني الحادب، أن يخوض حملة للإنتخاب الرئاسي، ولا يقدر على تبيين قصور الإجراءات التي تمر بها الإنتخابات، وهو القصور الذي يفت حتما عضد مشروع الاستاذ الذي لا يزال سعيه في إحتراف السياسة الواقعية لبلوغ المنصب العام طفلا. وهكذا هو مرشح الحقل الأكاديمي الذي إستأنس بنفسه، ثم رأى عظم الكفاءة لحلب تيس السودان الهائج. إنه لا ينشغل بأخطال مفوضية الإنتخابات وقسمة دوائرها الضيزى مثل إنشغاله بفريق"الأمل العطبراوي"، ولا يهتم بتجاوز المفوضية لجيرانه المهاجرين السابقين، في مدن أمريكا، والذين أهمل تسجيلهم في ربوعهم المتعددة مثل همه بالكتابة عن زيارة "سيدي الحسن في كسلا"، ولا ينزعج لما رصده تحالف المعارضة من خروقات وتجاوزات للحزب الحاكم في معمعة التسجيل للإنتخابات مثل إنزعاجه ب"قرش الرطانة". ولا تتواصى نفسه بقراءة ونقد مسودتين لقانوني الأمن والإستفتاء واللذين ينبني عليهما نجاح أو فشل حاضره الإنتخابي ومستقبله الرئاسي، لو قدر الله مثل تواصيه المستمر بتناول قضايا فرعية لا علاقة لها بجوهر الأزمة الوطنية.
وهكذا لا يفيدنا صاحب الحملة الإنتخابية وقائدها في الآن ذاته، والعاملون عليها، إن وجدوا، برأيهم الناقد لميزانية د.الجاز الكارثية المجازة، والتي فصلت وفضلت بأن إجراء الأمن والدفاع يأخذ 60 من المئة منها، مقابل 4 من المئة للتعليم و5 من المئة للصحة. إنه لا يفيدنا بكل هذه الفشل الإنقاذي إذ هو صاحب البرنامج البديل مثل إفاداته الواثقة عن منازلة ترسانة لمحور الأفك والتضليل والتكبير الزائف دون خريطة طريق، أو تخطيط ملموس منه. ومع كذلك هو العائد من تجربة متابعة لإنتخابات الرئاسة الاميركية، والتي إن إنبنت وتبنى على شئ إنما على التخطيط، والدراسة، والدبارة، والبصارة، وكل تلك العبارات الدالة على وجوب مهل ونجاعة التفكير، والتي ما فتئ الدكتور يعمق ترديدها.
وبينما أن المرشح الناقد يخوض في كل شئ منذ حين إلا مقاومة السلطة بالشكل الذي يردع إستبدادها، فإنه إذن يضع نفسه الخصم المباشر، وغير المباشر، للقوى الوطنية التي تأتمر في جوبا لتؤكد على نزاهة شؤون الإنتخابات وأشياء أخرى. وإذ يخاصم الدكتور عبدالله هذه القوى إنما ليثبط همتها من خلال إستهداف مؤتمر جوبا، والذي كان ينحو إلى الحوار، والبحث عن حلول لقضايا البلاد في ظل التعنت الإنقاذي. ويدرك الدكتور عبدالله تمام الإدراك أن ذلك المؤتمر الذي ضم معظم الأحزاب السودانية فرضه الإحتقان الوطني المسؤول عنه المؤتمر الوطني. وتتوالى خصومة الدكتور نحو الذين يقولون بأن ما تعرض له يوم تدشين حملته من أسى بالغ، غير متوقع، هو جزء أصيل من سياسة نظامية لا تحترم الإنسان، ولا حقوقه منذ عقدين من الزمان. فالدكتور عبدالله يختزل بهاء الأجهزة النظامية في توقيرها لشخصه حين يقول "أنا لم أكف منذ الحادثة من الإشادة بمهنية الشرطة والأمن. فلم أقف ببابهما إلا حيوني بأحسن من تحيتي ب "يابروف". وأكرموني بالبارد وبالحديث عما أكتب أحياناً". وهكذا يمنحنا الدكتور الموقر منهجا في تقييم العام بما هو خاص. وهنا ما على طلابه الذين تضعهم الظروف في موضع التكريم بالبارد في داخل مباني الشرطة الإنقاذية إلا أن يشيدوا توا بمهنيتها، تاركين كل إرثها التليد في حماية جند الفساد، والتستر على جرائم بيع المؤسسات العامة، والسهر على حياة الجوكية الذين ساموا الشعب سوء العذاب. وإن كان لا بد لهذه الشرطة التي تقودها فئة مؤدلجة فإنها موجهة ومأمورة بجلد النساء السودانيات بسبب إرتداء "البنطلون"!
إن هذا المنهج البائس في شخصنة الحكم على أجهزة الدولة لا يليق برجل مثل الدكتور عبدالله أن يضمره في وعيه، ولا وعيه، ثم يستشغل به حيازاته المنشورة. نعم لا يليق به لمجرد أنه كان ماركسيا، وقد لا يزال، يعرف موقع هذه الشرطة عند التحليل الماركسي للبنى الفوقية التي توئد خيارات البلوتاريا، وترفع في وجهها الهروات الكهربائية إن هي عبرت عن ثورة الجوع، وعن الجوع الديمقراطي. ولا يليق به المنهج أيضا لمجرد أنه كان دارسا لاحقا للقضاء الشرعي في الدولة الإستعمارية. حسبه في ذلك أنه تدور ودار، في مشروع العثور على مراجع لمباحثه، علي المذاهب والملل والنحل فتدرب علي الفرق والتفريق بين معنى الظاهر والباطن، وألم، لا مناص، بطرف من اخبار علم الكلام في الاسلام الذي يشدد بأن الحكم علي الشيء جزء من تصوره.
ولئن كان الدكتور الموقر لا يكف عن الإشادة بهذه الأجهزة الامنية التي لها تاريخ في "اللا رفق بالانسان السوداني" فأن هذه الأجهزة، من المؤكد، ستبقي علي ما هي عليه وزيادة "في اللا رفق" إذا اتفق للرئيس الملهم عبدلله علي إبراهيم ان يجلس في مكان سلفه البشير! واذا كان ذلك هو الرئيس البديل فما الذي يحملنا على إختبار رؤيته الإنتخابية عن ما ينبغي أن تكون عليه أجهزة الشرطة والأمن من حرفية وإنضباط في بلد تقوم فية الشرطة بجلد 43000 أمرأة في أقل من نصف عقد، ولا يجلد رجلا واحدا من المفسدين؟ ثم ما الذي يدفعنا علي أخذ الدكتور الموقر محمل الجد في كل شيء إذا كان يقذف بأفكاره هكذا في ملعب السياسة، كما يقذف لاعبو "كرة الشراب" في الازقة الخلفية بكراتهم في البيوت المجاورة للملعب فتصيب أربابها في أنوفهم، وصلعاتهم، وأحيانا تنكد عليهم مرقدهم العاطفي الظليل.
لقد زارنا الدكتور عبد الله علي إبراهيم في بداية النصف الثاني لهذا العام السائر إلى الإنقضاء، وحول ايام واشنطن ومجالسها إلى حوارات ساخنة حول رؤاه التي تنثر غموضه أكثر من الوضوح المؤمل فيه. وقدم الدكتور ندوة عمها حضور كبير بدار الجالية السودانية بواشنطن، وهيأنا له عبر إتحاد الصحافيين السودانيين بالولايات المتحدة جلسة بنادي الصحافة القومي بواشنطن، حضرها ممثلون لألوان طيفنا السياسي. كما نظمنا له حوارا إستمر لأربع ساعات مع ناشطين من دارفور. مثلما تلقى دعوات للإحتفاء به من اصدقاء له تحولت إلى لحظات للحوار حول برنامجه للسباق الرئاسي، وكذلك حول أفكاره المثيرة للجدل. وكالعهد إستطاع الدكتور عبدالله علي إبراهيم أن يدافع ويدفع بكثير محاججة عن منطلقاته الفكرية، والسياسية، والثقافية. وكذا دافع ودفع بفكرة خوضه للإنتخابات، ومع ذلك لم يشف غليل الباحثين عن حق وتحقق في فلوات ذاته المضمرة بالإلتباس المنهجي، والفكري، في الآونة الأخيرة.
إن تزكية د.إبراهيم نفسه للإنتخابات ممارسة لحق اصيل للعامة والمثقفين منحته له نيفاشا، والتي آمنا بروح نصوصها، إذ هي توقف الحرب المدمرة، من جهة. ومن الجهة الأخرى تمثل الإختبار الأكيد لأسس التحول السلمي الديمقراطي الذي أقره الفرقاء، وباركته القوى السياسية، وضمنه المجتمع الدولي كخطوة إجرائية متقدمة في التسوية الوطنية. ولو أن الدكتور نال حق المواطنة بهذا الصنيع، كما يتصور ونحن، فإن المرء لا يسعه إلا التأكيد أن الدكتور قادر في حملاته الإنتخابية التي بدأت بطيبة برس على طرح بعض قضايا. هذا برغم أن تلك البداية شابها ما شابها من إحراج لأهل الدار، والجمهور الذي أتي ليتعلم شيئا محددا، ولكن الرائد ضنى بالوفاء نحو عنوان محاضرته، فأحرج الاستاذ فيصل محمد صالح، مدير الندوة، وأغضب الدكتور حيدر إبراهيم علي الذي ظن أنه جاء مصدقا لما بين يديه من دعوة، ووعد!.
ولتكن تلك (الكعبلة الثقافية) مبلوعة، بيد أن السؤال الجوهري هو ما هي فرص مرشحنا الأكاديمي، وهو الذي ظل يناور هنا وهناك برؤى ملتبسة اثارت جدلا وسط المثقفين طوال العقد الماضي. فمنهم من وصفه بأنه فتر عن مضاعفة مشاوير إنجاز الحداثة التي كان أحد رواد تثبيت مصطلحاتها، ومعانيها، وعاد إلى مهادنة غلاة دعاة وسدنة الحكم الشمولي، والذين يعايشون مجابهات سياسية وفكرية تتعلق بقدرتهم على صون البلاد وتحقيق أسس التطور القومي. ومن الناس من أحتد مع الدكتور في النقاش، ووصفه بالغموض الضال، وتغبيش الفكر والفهوم في وقت أصبحت فيه مسائل مثل الموقف الحازم من الإنقاذ، والرؤية حيال مسائل مثل الشريعة الإسلامية، والعلمانية، وحقوق الهوامش المناطقية، والثقافية، والآيدلوجية، والجندرية، لا تحتمل إلا صفاء الفكر، والثبات المبدأي، وبذل الجهد لتسويتها إذا كنا نرمي إلى نصيب من الإصلاح للدولة السودانية، والتي ما تواضع غالب نخبها على شئ مثل تواضعهم على تغذية التآكل التدريجي للبنى التي تقوم عليها هذه الدولة.
صحيح أن للدكتور إبراهيم تراكماته العلمية والأدبية والثقافية التي كان من المتوقع أن تنعكس على شكل معالجاته للقضايا محل الخلاف. وصحيح كذلك أن لكل إنسان الحق أن يتلمس إمكانية التحول في مبادئه، تارة نحو اليمين، وتارة نحو الوسط، أو الإستقلال والعكس، ما دام أنه يلتزم الصدق الفكري في هذا التحول الباحث عن خيوط للحقيقة، وما دام أنه لا يزال بعيدا عن الإستفادة المادية الدنيا أو القصوي من شكل تحولاته الفكرية، والثقافية.
سوى أن الاصح أكثر هو أنه يجب على من يحوز على هذه المكانة العلمية المرموقة والتجربة الحياتية المنظورة سياسيا، أو ثقافيا، أن تقارب معاييره بأخرى، بصرف النظر عن إتفاق أو إختلاف الدكتور مع نتائج هذه المقاربة. فمهمة نقدة الدكتور هو إفتراع جداول للحوار، وتعزيز سريان الخلاف الخلاق فيها. وما أقل من بناء مدارك للسجال الموضوعي ليتوفر القراء على نهج في الحوار مع الآخر أكثر صرامة وموضوعية.والحال هكذا، فإن المواقف المتصلة بالحقول السياسية والإجتماعية والثقافية مهما سدرت في غيها، أو ضعفها، أو بهلوانها، أو مكرها، أبعد أن تكون مواجهة بالسباب، مثل الذي تعرض له د.إبراهيم في غير ما مرة عند حواف الأسافير، ليس ذلك فحسب فإن السباب لا يحل قضية أو يفتح أفقا للمعرفة. وما دام أن النشطاء في مجال الفكر والفنون عموما ينطلقون من القناعة النسبية بصحة إفتراضاتهم، فإن وجود التصورات الناقدة، أو المضادة، موضوعيا لمحاولاتهم هذه ينبغي أن ينظر إليها على إعتبار أنها إثراء للتجارب الحياتية، وطرح للمعارف، وردم للفجوات والثقوب التي يخلفها الناشطون وراء ظهورهم، مهما غلظ النقد أو قسى في لغته.
ولئن كانت هناك مواقف ملموسة للدكتور المبجل نحو تكنيك مقولات الزعيم عبد الخالق، أو تكتيكه الحركي، وفق ما يقول، فإن ذلك ينبئنا أنه يؤمن أن وظيفة الأجيال اللاحقة أن تبني على معاني هذه الندية حتى تتم مراجعة ملهمة لزعاماتنا السياسية والفكرية والثقافية دون الإحساس بأن أمرا كهذا يسيئ إلى ذواتهم، أو يقطع الطريق أمام ترقيهم في مدارج العمل السياسي، أو الإجتماعي المنظم، أو الحر من كل قيد نظامي. على أنه يجب لنشطاء الحكومة، والمعارضة، أن يطلعوا على هذه المراجعة برحابة صدر من أجل ألا يستفردوا بالقرارات داخل التنظيم ومن أجل أن تقوم للعمل السياسي قوائم الإستقامة، والشفافية، وأيضا من أجل أن يلجم المفكرون والقادة بعض وساوس في أنفسهم قد تحض على تغييب الآخرين، أو تغبيش المعاني، والمعارف، ومن أجل إرساء ممارسة رشيدة للديمقراطية المفتقدة داخل هذه التيارات والمرافق، وداخل ذهن الفرد الناشط.
أما وإن كان د. عبدالله علي إبراهيم قد بين لنا أن علاقته السابقة مع زعيم الحزب كانت قائمة على الندية الخلاقة ما يعني أنه يستبصر مناح أخرى للتشكيك في التوجه النظري، والعملي لحزبه، والذي قد يتبعه بالتيقن، فإن المرشح للرئاسة السودانية أحق بأن يستمع برحابة صدر لمن ينتقدون حرثه، وذلك في مقابل كثير من مريدين يكيلون الثناء نحوه، ونحو حراكه، ولا بأس أن يعطيه ذلك المدح المثني سببا لمراكمة إجتهاداته في جبهات عمله التي إختارها، على أن يعطيه الإنتقاد البناء أيضا مجالا للمراجعة، والإستبصار، والإستلهام، هذا إذا كان الدكتور الناقد يؤمن بأن لا كبير على النقد، ويستيقن إهمية أن يرى نفسه بإضطراد في مرآة الآخرين.
يقول الدكتور عبدالله في ورقته المعنونة ب"ملامح برنامجي الإنتخابي": (لعل أصعب ما أواجهه من ذوي النية الحسنة تجاه ترشيحي لرئاسة الجمهورية هو سؤالهم عن برنامجي. ومصدر الصعوبة ليس لأن كتابة برنامج إنتخابي من الأمور العصية. بل لأنني شديد الاقتناع بفساد أي برنامج من هذا النوع نكتبه على عجل وبحكم العادة. فالبرنامج في مثل ظروف الأزمة الوطنية العامة هذه ليس "تفنيط" لما يزعم المرشح انجازه للناخبين. إنه صنو تخييل جديد للوطن الذي وقف حماره في العقبة. وهو شغل للمعارضة بشكل رئيسي. وللأسف لم يقع لنا هذا التخيل أو إعادة التخيل للوطن لأن المعارضة خلال دولة الانقاذ وما قبلها لم تنشغل ببناء هذا الوطن الجديد في الخيال أولاً. فقد كان أكثر همها التخلص من النظام القائم كيفما اتفق. أما تخيل الوطن السعيد المستعاد من الظالمين فهي مهمة لاحقة قد لا تأتي أصلاً..)
إن على الدكتور ألا يضيق الواسع بقوله إنه لا ينوي طرح البرنامج الذي يخوض به مضمار الإنتخاب. فبوسعه أن يقعد نظاميا، وفكريا، وعمليا، لإستراتيجيا حملته الرئاسية وأن يسعى، عبر كراسات فكرية، إلى التوضيح لدافع (الذكوات، والضرائب، والجبايات) عن رؤيته المفصلة في الإسلاموية التي أطبقت على البنادر والوهاد، وأحالتها إلى خراب. وما الذي يمنع الدكتور أن يوضح رأيه بكل سماحة، وتواضع، للناخبين الباحثين عن الخلاص، ما دام أنه يحترم حقهم في المعرفة عامة، والمعرفة السياسية خاصة.؟ وما ضره لو أنه مارس تخييلا، وخرج برؤوس أفكار عن الشريعة الإسلامية، أو العلمانية، أو حقوق المواطنة، أو كيفية حكم البلاد إداريا، أو تطوير السلم التعليمي، وربما الخماسي، أو تمديد مساحات الصحة العامة، أو إعادة الشفافية للخدمة الحكومية، أو التعامل مع العالم الخارجي، أو كيفية إقامة قسطاط العدل والمساواة في فسطاطي الزمان والمكان السودانيين، أو مكافحة النهب المسلح والمصلح، أو تحقيق السلام في دارفور، أو مقاومة سرطان الايدز الذي إستشرى في بيئتنا، وأيدز السرطان الذي خطف فلذات كبد مواطنينا.؟ وهل لا بد للدكتور الموقر ونحن على أبواب الإنتخابات المشكلة أصلا في مستحقاتها أن يوضح للناخبين موقفه من قرارات محكمة الجنايات الدولية المتعلقة بدارفور، وذلك حتى يثق المواطنون أن (الرئيس الجديد) قادر ليطوق الأزمة بحنكته وينجي العباد من مؤثرات الصدام الدولي مع العالم، وفي ذات الوقت تلعب حكمته دورها في تعزيز القصاص، والذي هو الركن الركين المكمل للتسوية السياسية للأزمة التي إستهلكت طاقة السودانيين.؟ ألا يسهم مرشح الحقل الأكاديمي، والثقافي، إن أعمل ذهنه في تلك القضايا، في تثرية وعي المواطنين وتخييرهم بين الوقوف خلف مرشح (الدولة الدينية)، أو خلفه وهو مرشح (الدولة...........)!
وإذا فسد أولئك القساة في معاملة شعبهم ببرنامج شيخهم، فمن قال للدكتور بفساد البرنامج السياسي المجرد الذي يتيح للناخبين تخير أيهم الأقدر على الإصلاح من المتقديمن لشغل هذه الوظيفة العامة؟ أهو من غير العرف الوطني أن يتعرف السواد الأعظم على رؤى هؤلاء الذين يذكون أنفسهم للناس؟ أم هو من العرف الإنساني أن يتقدم السياسيون، أينما ومتى ما برزوا، بأفكارهم الشجاعة والمفصلة لحل الأزمات التي أجبرتهم على خوض غمار العمل العام؟ ثم كيف يجوز للدكتور، هكذا، أن يجرد المعارضة من سوابقها في إعمال التخييل لبناء الوطن.؟ ألم يقف، على سبيل المثال، على مقررات القضايا المصيرية بأسمرا، والتي بذل التفكير فيها جماع المعارضين، وتوصلوا إلى تلك المقررات التي لا يقدح عدم تبنيها في إهميتها كمخرج للمشكل السياسي؟ أيكون من المنطق أن تبقى تلك المداولات التي سبقت هذه المقررات وشارك فيها بالراي شماليين وجنوبيين نوعا من اللا تخييل؟ وهل من الحق أن نرمي بكل الأنشطة الفكرية التي قام بها الأفراد المعارضين الذين يحتفظون بعلاقات طيبة مع الدكتور في سلة المهملات؟، وإذا جاز له أن يعطي الإسهامات الفكرية لأحزابنا، مهما إختلفنا حولها، صفرا كبيرا، فهل يجوز له أن يضرب بمساهمات معارضين أكفاء في التفكير السياسي، مثل د. حيدر إبراهيم علي، وكمال الجزولي، وفرانسيس دينق، وتيسير محمد أحمد، وكل مساهمات الإخوة الجمهوريين، ود.حسن موسى، ود. عبدالله بولا، ود.عبدالسلام نور الدين، وعبد العزيز حسين الصاوي، والاستاذ محمد علي جادين، والدكتور محمد جلال هاشم، والأستاذ الشفيع خضر، إلخ، وهل يمكن أن تغيب الإمانة العلمية في تقدير كل هذه المساهمات من التخييل السياسي لمجرد الإختلاف معها، أو مهما كان الدكتور يرى في ذاته بأنه وحيد زمانه، وفارس أوانه الذي يملك التخييل السياسي.؟!
وعلى أي اساس علمي، أو معرفي رصين إنبنى قول الأستاذ الجامعي بأن (المعارضة تريد أن تزيل النظام بأعجل ما تيسر لتعود إلى الحكم فوراً. وفي شفقتها هذه ترى الرياضة والفن نوعاً من "أفيون الشعوب" فأجتنبوها.)، ولعلنا لم نجد معارضا واحدا من من هو في مقام التفكير السياسي المستنير يرى في الرياضة والفن أفيونا للشعوب. ولكن ما ندركه، ويدركه دكتورنا الكريم، أن الذين جثموا في صدر شعبنا حاربوا الفن والرياضة، وأوقفوا تسجيل الأغاني العاطفية، وإندسوا في الإتحادات، والأندية الرياضية ليجيروها لصالح مشروعهم الحضاري النافق. ولعلنا ندرك محاولات إبراهيم نايل إيدام، ويوسف عبد الفتاح، ودز شمس الدين زين العابدين، وحسن عثمان رزق، ومحمد يوسف، وأمين حسن عمر، لإفساد ديمقراطية العمل الرياضي حتى أن (الفيفا) تدخلت، في غير ما مرة، لصالح لجم الشطط السياسي الجاهل الذي يريد تحوير قوانين اللجنة الأولمبية الدولية والإتحاد الدولي لكرة القدم؟ والحقيقة إن المرء لا يجد إتساقا في قول الدكتور:"أما تخيل الوطن السعيد المستعاد من الظالمين فهي مهمة لاحقة قد لا تأتي أصلاً".
فما نعرفه أن التخيل لما يكون عليه الوطن، أو أي شئ، يقوم على رؤيا وبرهان لها حتى تنشحذ همم الناس للبناء والعمار، فإذا كان المرشح الرئاسي يضع العربة أمام الحصان ويقول لنا عليكم أن تستعيدوا الوطن من الظالمين، ولاحقا عليكم أداء مهمة تخيل قد تأتي ولا تأتي، فلماذا الجناية على المعارضة، وإدانتها بأنها تريد إسقاط النظام كيفما إتفق؟!
إن القارئ لورقة (ملامح برنامجي الإنتخابي) والتي خرج بها الدكتور على الناس هاتفا وجدتها، وجدتها لا يجد فيها سوى الشبه بمقالة صحفية، غير مترابطة السياق، والهدف، ولا ترقى أن تقدم لشعب يريده الدكتور أن يمايز بين خطاب متوقع فيه الوضوح السياسي، وخطاب سلطوي أصابته الممارسة بالبوار. وإذا كررت قراءة الورقة لإتضح لك أنها فقرات تضج بالشكوى من المعارضة لتستهدفها، أكثر من أن تكون ملمحا لخطاب فيه من جزالة الأسلوب السياسي ما يغني، وعنده من نضج الوعي ما يبشر.
يقول الدكتور عبدالله "توخيت في امتناعي عن تأبط برنامج انتخابي في هذا الطور من مسعاي لأكون رئيس السودان القادم حكمة أمريكية تقول إنك ستزيد الطين بلة متى عالجت أزمة ما بنفس الفكر الذي ورطك فيها. وربما جاء العرب بمعنى قريب من هذا بقولهم "وداوني بالتي كانت هي الداء". وحين أنظر ما حولي من أفكار لصياغة برنامجي لشفاء الوطن لا أجد إلا تلك التي كانت هي الداء. وبيت الداء في منظومة هذه الأفكار الرديدة هو الذهن النوستالجي المستولي على عقل النادي السياسي المعارض بالذات. والنوستالجيا هي النزوع إلى شيء في الماضي (ربما لم يوجد أصلاً) ولكن الجماعة تحس بفجيعة فقده بحق وحقيق"
والثابت أن الدكتور ما كان بحاجة ليجد في امريكا، بعد كل هذا التطواف العلمي، الحكمة التي قال بها. فكلنا يعرف أن من المسلمات هو أن الأزمات تعالج بمزيج الروية، والرؤية، والتفكير، والتدبير، والتحرير، وما إلى ذلك من مستلزمات التبصر. فمتى ما تحررت من فكر الأزمات أعانك تأملك، لا أفكار الآخرين الذين من حولك، في وضع الحلول. ولو عاد ناقدنا لبسطامه الذي تركه وراءه لوجد ببساطة أن الأنبياء والمصلحين جاءوا من المستقبل بمناهج الحلول من خارج دوائر التفكير السائدة، وأحدثوا النقلة في حيوات شعوبهم والبشرية. أما إذا كان الدكتور يرى النادي السياسي المعارض وقد تلبسته الأفكار النوستالجية الرديدة فحسبه، وهو وقد أدرك ذلك، أن يقارب أفكارها بأفكاره البديلة، إذ هو قد شرح خزعبلاتها، ووقف عند بوار حيلها. وإذا أنجز الدكتور شيئا من تلك المقاربة، أو فقط توعد، فإن ما يتبقى له هو مقاربة أفكاره بأفكار الحكومة التي هي (رأس الحية) التي تلدغ من يمارسون في خطأ وصواب العمل الوطني. ذلك ما دام أنها أشعلت أمامه نيران الفتنة، وذهبت ببلاده إلى نذر التمزق، وأحرجته أمام العالمين. أما وإن لم يلهج لسان الدكتور بعبارات تقوم إعوجاج حكومة بلاده، لا بحد السيف طبعا، وفضل أن يهاجم الذهن المعارض، فإنه ربما يصبح يوما ولن يجد، بسبب عدم قول الحق أمام السلطان الجائر، معارضة بريئة من فعل يودي إلى فناء الوطن.
ولقد كان المتوقع من الدكتور المبجل أن يولي في خطاباته الإنتخابية الإهتمام بتطوير الأنشطة الرياضية، أو كيفية توفير مدخرات المغتربين، أو توفير اسس جديدة للإستثمار التجاري، أو تنمية مدخلات الصناعة، أو الإكثار من الصادر وتقليل الوارد، أو إقامة أنظمة محاسبية للخدمة العامة وتفعيل وظيفة المراجع العام، أو محاربة الملاريا والأوبئة المستوطنة، إلخ المجالات التي تتطلب إعمالا للفكر من قبل كل المرشحين لرئاسة الجمهورية.وعلى الدكتور أن يهتم بمصادر دعم حملته الإنتخابية والذين يستعين بهم كمستشارين يعززون برنامجه الإقتصادي والإجتماعي والتربوي حين يجد جد الإنتخاب. وإنه أيضا مطالب بالإجابة على سؤال التحالفات السياسية التي سيشارك فيها، على أن يبرز لنا الكيفية التي بها يكون هناك ضمان لإنتخابات نزيهة، لا تمتد إليها أيادي التزوير، وإلا فإننا نخشى على الأستاذ السابق بجامعتي الخرطوم وميزوري أن يكون قد قام بدور المهرج السياسي الذي لعبه ببراعة السلطان كيجاب من قبل.
وفي إطار المتوقع، فإننا لا ندرك حتى هذه اللحظة إن كان الدكتور عبدالله علي إبراهيم حافظ على مرجعيته الماركسية أم تخلى عنها، ولنفترض أنها لا زالت المرشد التي يستهدي بها فما هي فرص إقناع الداخل بضرورتها القصوي في حل المستعصي من قضايا الوجود التي يستورد لها البعض البضاعة الوهابية؟ ثم هل إستطاع أن يبشر بهذه الماركسية، بلسان نظري مبين لا لعثمة فيه، بأنها المخلصة لهذه المنهجيات التي يتعايش معها وتثني عليه، وذلك في زمان ينحسر فيه التسامح النسبي لصالح قوى دينية تكفيرية؟
نصدر بهذا والدكتور قد غادر بلادا، أكرمته وأكرمتنا. عرفت معني ومقتضيات الترشيح للرئاسة، وما يستتبع ذلك من إعداد منهجي لخوض غمارها، وحيث التجارب الماثلة من هذه التجربة الغربية تبرز إهمية التخطيط لحملات الإنتخابات عبر بيوت الخبرة السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، لا عبر إحتراف الكتابة في الصحف بوصفها كل ما لدى المثقف (البرنجي). فالجدية في إحترام الناخبين تستلزم أن يكون المرشح قادرا على أن يقدم مشروعا للكفاح السياسي لنيل الرئاسة، وأولى مراحل هذه الجدية تتعلق بالإستقامة في توظيف العلم، ونقد ممارسات أجهزة الدولة، وتبيين قصورها بما يستلزم إصلاحها، وفك الشفرات التي تقنن لها جلد النساء وإذلال كرامة المتظاهرين.
أما وإن كان مرشحنا الهمام قد تخلى عن ماركسيته ضمنيا، لا تصريحا، فما هي المرجعية الفكرية التي يتبناها في تصوراته، وبها يريد أن يقود بلادنا إلى طريق الحكم الرشيد، وإذا كان قد تخلص من كل المرجعيات،وإستهتدى إلى نظرية جديدة مستقلة بنفسه، فما هي إذن فرصها لجعله قادرا بالتمام والكمال للفوز بالديربي وتعميم فائدة خطابه وعمله وإنقاذ البلاد من حروب الموارد..؟ وإذا كان مرشحنا الرئاسي لا يني من التجوال في مناطق السلم في القضارف، كسلا، فمتى نراه وهو المرشح البديل يزور أهله في دارفور، لجنوب، كجبار، النيل الأزرق،وجبال النوبة وهي المسارح التي شهدت خيبة سياسة الدولة المركزية، وحيث أن الدكتور عبدالله يعرف المأساة في دارفور والتي إستلزمت زيارات من زملائه الاكاديميين الأمريكان للأقليم، قاطعين البحار والمحيطات، فكيف يتسنى لمواطني هذه المناطق أن يثقوا، وهو مواطنهم، في شفقته عليهم بأكثر من شفقة زملاء أجانب حركتهم المشاعر الإنسانية للوقوف على حجم المآسي هناك.
على أن المثقف الرئاسي لا بد أن يفطن من جانب آخر إلى أنه كان هناك رضا في الداخل عنه، رغم حادثة تعطيل فكرة إحتفاله يومذاك، وما كان لهذا الرضا أن يضرب مكانه لولا أن (الجوكية السياسية) رأوا أن الدكتور يغذ السير في إتجاه مختلف عن مواجهة أفك السلطان بصرامة ووضوح، كما يفعل المثقفون الذين يعايشون في الداخل موجات عسف الحكم ويناضلون بالكلمة الشجاعة والقوية التي ترتعد لها فرائص السلطة. وتلك الحركة يجب أن تعزز تشكيكنا وربما تشكيكه أيضا في (دور المثقف) الذي يلعبه اليوم، فالمثقف تاريخيا وحاضرا ظل مطاردا من قبل السلطات السياسية ولا تحفل به سلطة ما حتى تفتح له أبوابها على مصاريعها. وإلا فحسبه أن يتخفى في المناطق الرمادية أحيانا ليغازل أطرافا هنا وهناك حتى يضمن إستمرارية لحياة ثرة من الأضواء والنجومية، وبالتالي يتم الإنقلاب على مواقف ماضية لا يزال بعض الناس يتذكر جدوى تأثيرها الإيجابي على الأجيال.
ملحوظة:
تهدف هذه السلسلة إلى نقد مواقف، ومقولات، لرموز السياسة، والثقافة، والإبداع. وآمل أن تجد محتوياتها مجالا للمراجعة النقدية من قبل الراغبين، لما قد تثيره من رؤى للخلاف حول هذه الرموز، أو قصور، أو أخطاء في المعلومات. وأرى أنه ما دام أن المنطلق من هذه السجال تعميق الحوار مع رموزنا، فإن المتوقع أن مادة هذا السجال مطروحة للرأي الآخر. على أنني آمل أيضا أن أضم هذه السلسلة يوما في كتاب، وكذلك ضم الرؤى الناقدة لها.
salah shuaib [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.