السُّودان أمام مجلس الأمن: إيران لا تلعب أي دورٍ في الحرب ويجب ردع الإمارات.. ومؤتمر باريس كان يهدف إلى عزل السُّودان!!    إطلاق البوابة الإلكترونيةبسفارة السودان بالقاهرة وتدشين الهوية الرقمية الجديدة    بلينكن عن التدقيق في مزاعم انتهاك إسرائيل لحقوق الإنسان: سترون النتائج قريبا    يمضي بخطوات واثقة في البناء..كواسي أبياه يعمل بإجتهاد لبناء منتخبين على مستوى عال    السيارات الكهربائية.. والتنافس القادم!    واشنطن توافق على سحب قواتها من النيجر    اللواء 43مشاة باروما يكرم المتفوقين بشهادة الاساس بالمحلية    ملف السعودية لاستضافة «مونديال 2034» في «كونجرس الفيفا»    سوق الابيض يصدر اكثر من عشرين الف طنا من المحاصيل    الأكاديمية خطوة في الطريق الصحيح    شاهد بالصورة.. المذيعة السودانية الحسناء فاطمة كباشي تلفت أنظار المتابعين وتخطف الأضواء بإطلالة مثيرة ب"البنطلون" المحذق    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصور.. الفنانة مروة الدولية تكتسح "الترند" بلقطات رومانسية مع زوجها الضابط الشاب وساخرون: (دي اسمها لمن القطر يفوتك وتشتري القطر بقروشك)    شاهد بالصورة.. زواج الفنانة الشهيرة مروة الدولية من ضابط شاب يقيم بالقاهرة يشعل مواقع التواصل السودانية    القوة المشتركة لحركات الكفاح المسلح: بدأت قواتكم المشتركة الباسلة لحركات الكفاح المسلح بجانب القوات المسلحة معركة حاسمة لتحرير مصفاة الجيلي    مصطفى بكري يكشف مفاجآت التعديل الوزاري الجديد 2024.. هؤلاء مرشحون للرحيل!    شاهد مجندات بالحركات المسلحة الداعمة للجيش في الخطوط الأمامية للدفاع عن مدينة الفاشر    إجتماع مهم للإتحاد السوداني مع الكاف بخصوص إيقاف الرخص الإفريقية للمدربين السودانيين    وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك        غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



"50" عاماً على إغتياله: مالكوم أكس .. بقلم: ياسر عرمان
نشر في سودانيل يوم 09 - 11 - 2015

نكهة الستينيات وعطرها: أهمية بناء تحالف سوداني جديد للحقوق المدنية والسياسية والثقافية

ياسر عرمان
نوفمبر 2015م
"50" عاماً على إغتياله
مالكوم أكس نكهة الستينيات وعطرها
أهمية بناء تحالف سوداني جديد للحقوق المدنية والسياسية والثقافية
ياسر عرمان
نوفمبر 2015م
الي سيدي ومولاي الحاج مالك الشيباز:-
خمسين عاماً مرت منذ إغتيال سيدي ومولاي الحاج مالكوم أكس واحد من أشجع دعاة الحقوق المدنية والسياسية والمواطنة بلاتمييز، وتم إعادة فتح التحقيق في جرائم إغتيالات كثيرة في الولايات المتحدة ولكن الأجهزة الفدرالية والمسئولين في مدينة نيويورك لا يرغبون في إعادة فتح التحقيق في جريمة إغتيال ملكوم أكس، فالقضية لا تزال حية وتهدد السلم الإجتماعي على راي بعض الجهات النافذة، وحينما يغتال إنسان على بعد خمسين عاماً ويظل الكشف عن الدم المراق يهدد السلم الإجتماعي فهذا يعني إن الإنسان المعني بالإغتيال لم يمت. فلماذا ظل مالكوم أكس حياً بعد خمسين عاماً من توقيعه على دفاتر الرحيل وشارات الوداع، وهل نحن في السودان معنيين بالقضايا التي أثارها مالكوم أكس، هل لبلادنا أي صلة بتلك القضايا، لاسيما حينما يتعلق الأمر بالحقوق المدنية والثقافية والإقتصادية والسياسية وعلى راسها حق المواطنة بلا تمييز، هل بإمكاننا إعادة تعريف المشروع الوطني السوداني بعد فصل الجنوب والأسباب التي أدت اليه وبعد الإبادة وجرائم الحرب التي أرتكبت ضد قوميات سودانية مهمة، وهل بإمكاننا إستعادة الدولة السودانية المختطفة بسياسات التمكين وشعارات الإسلام السياسي بل إستعادة الإسلام نفسه بعد أن تم إختطافه لكي يكون داعماً للنسيج الوطني لا مصدراً من مصادر الشقاق. هل هنالك درس ما يهمنا من حركة الحقوق المدنية والسياسية والثقافية في الولايات المتحدة الأمريكية في ستينيات القرن الماضي، هل بإمكاننا إقامة مشروع بناء وطني جديد دون قيام تحالف عريض للحقوق المدنية والإقتصادية والثقافية والسياسية بين قوى التغيير المؤمنة بالمواطنة بلا تمييز وبالعدالة الإجتماعية وبديمقراطية الثروة والثقافة وإعادة هيكلة الدولة السودانية وإقامة الوحدة في التنوع لمصلحة جميع السودانيين، لا سيما إن واقع اليوم يشهد إختطاف الدولة والثروة والسلاح والإعلام من قبل طرف وحيد ملأ مساحات عريضة وهمش الأخرين وإتنشر على نحو سرطاني وطفيلي، ويتضح يوماً بعد يوم إنه لايمكن الوصول الي دولة مدنية ديمقراطية قائمة على المواطنة بلاتمييز الا بتعديل موازين القوى وإقامة تحالف جديد للحقوق المدنية والسياسية والثقافية. وهي قضايا شديدة الشبه بالقضايا التي ناضل من أجلها مالكوم أكس والسؤال قائم حول إمكانية إنجاز هذا التحالف الذي يجب أن يحظى بدعم من المهمشين والقوى الديمقراطية معا وأن يكون قوى إنتخابية قادرة على المنافسة والوصول الي السلطة ديمقراطياً وعبر حركة جماهيرية سلمية، وهل بإمكان هذا التحالف أن يأخذ قضايا القوميات المضطهدة والمهمشة ويربطها بمحتواها الإقتصادي الإجتماعي الثقافي السياسي، أي الربط بين الإقتصاد السياسي للإضطهاد القومي وتجلياته وتمظهره الثقافي، وقضايا الديمقراطية الإثنية والمواطنة بلاتمييز وجذورها الإقتصادية الطبقية، هل بإمكان ذلك التحالف أن يرى بعينين نافذتين عين على الإضطهاد القومي والثقافي وعين على جذوره الطبقية، أي أن لا يكتفي هذا التحالف العريض بمظاهر الإضطهاد القومي وتجلياته ورموزه ورمزياته وان لايتوقف عند تغيير الأشكال والألوان والإحلال والإبدال بل الذهاب عميقاً لتغيير علاقات الإستغلال نفسها، والإستغلال هو الإستغلال سوى أن جاء من بني جلدتك أو من الآخرين.
إن إلغاء علاقات الإستغلال نفسها هو مربط الفرس، فدخول أوباما الي البيت الأبيض مثلاً كان خطوة جيدة وغير كافية لتبديل أوضاع المضطهدين من بيض وسود وفي الماضي رفع بعض (اللوا) في كينيا شعار (أجعلوا من أوبينقا أودينغا ملوينيرا) دون أن يدركوا إن أوبينقا حينما يكون ملوينيرا سيذهب بعيداً من (اللوا) أنفسهم.
لقد مضى مالكوم أكس ولكن بعد "50" عاماً لم يفت أوانه واوان القضايا التي طرحها والحقيقة حينما إغتيل مالكوم أكس في نيويورك لم يتعدى عمري ثلاثة أعوام وهانذا بعد خمسين عاماً يأسرني مالكوم أكس على الرغم من بعد السنوات والمسافات من مكان مولد مالكوم أكس وإغتياله. ويظل مالكوم أكس شديد الأهمية لأناس كثر على نطاق العالم أجمع وكذلك لأناس لم يولدوا بعد.
في السودان مايزال البحث جاري لبناء حركة حقوق مدنية ثقافية سياسية جديدة بالإستنادة على كل إرث الحركة الديمقراطية ومؤسساتها وقواها الإجتماعية الجديدة والقديمة وإرث العمل السلمي والمسلح ودون دمجها تنظيمياً بل بخلق تحالف عريض وكتلة تاريخية لبناء دولة حديثة على أساس المواطنة بلا تمييز والعدل والديمقراطية والتنوع الثقافي ومواجهة قوى الماضي التي تتمسك ببناء وطن قائم على الدين والإثنية وترفض دولة المواطنة.
إن مصاعب اليوم التي يواجهها الشباب وإنعدام بارقة الأمل أحيانا وضبابية شعارات التغيير ونزوع بعض قوى التغيير لإهتمامات جزئية تتغافل قضايا المواطنة بلا تمييز أو تركز عليها وتتغافل قضايا العدالة الإجتماعية والديمقراطية وفي الحالتين تتقاصر عن إنجاز التغيير، إن الواجب يحتم علينا العبور من النظرة الجزئية الي رؤية شاملة لقيام تحالف وطني عريض إستراتيجي من أجل المواطنة والحقوق المدنية والثقافية والسياسية والعدالة الإجتماعية، لا يغيب قضايا المواطنة بلا تمييز ولا يتجاهل الجذور الإقتصادية الإجتماعية للإضطهاد القومي ويلتزم جانب الديمقراطية، تحالف يرى بعينين ولا يغمض عينه على بعض الحقائق ويفتحها على جزء منها، تحالف يضع نصب عينيه قضايا النساء والإضطهاد المركب عليهن وقضايا الشباب وإعطاءهم برنامج يحي الأمل لديهم ويضعهم في قلب الحياة السياسية والثقافية والإجتماعية كمساهمين لا متلقيين سلبيين في هامش الفعل السياسي الثقافي الإجتماعي تضرب صفوفهم العطالة وإنسداد الأفق، ويهتم بقضايا البيئة مثلما يهتم بتوفير الخبز والصحة والتعليم والمياه النظيفة ويربط عضوياً بين نهضة المدينة والريف وفي عبارة جون قرنق الرصينة نقل المدينة الي الريف لا الريف الي المدينة.
إن نداء دولة المواطنة والعدالة الإجتماعية برنامج جاذب لبناء كتلة تاريخية للتغيير وإقامة دولة حديثة تعترف بحق الآخرين في أن يكونوا آخرين دون إغفال لديمقراطية الثروة والسلطة والثقافة.
ومن هنا نحتفي بحياة سيدي ومولاي مالكوم أكس بعد خمسين عاماً من تغيبه المتعمد وفي نفس اليوم الذي كان يريد أن يعلن فيه برنامجه الجديد والذي لو قدر له أن يتم لعبر مالكوم أكس الي الضفة الآخرى وتحالف مع قطاعات إجتماعية وثقافية متعددة المشارب لا على أساس اللون أو الدين بل على أساس إلغاء كل علاقات الأستغلال الإقتصادي والثقافي والإجتماعي السياسي، ولم يكن مستغرباً إغتياله ذاك اليوم على وجه التحديد مستبقين إعلانه لبرنامجه الجديد لخطورة ما سيترتب عليه في حصون حركة الحقوق المدنية.
دار الزمان دورات عديدة منذ مقتل مالكوم أكس في 21 فبراير 1965م في مدينة نيويورك ولم ينقضي هوى الحاج مالك الشيباز عند الكثيرين في طول المعمورة وعرضها وأنا في معيتهم أكتب بالمحبة كلها الي سيدي ومولاي مالكوم أكس ولا تزال سيرته ومقتله مدار بحث وتامل فلسفسياً وجنائياً والصلة بين ماضي مالكوم أكس وحاضرنا لا تنقطع ورغم ما قيل (كل زمن وليهو هلاله) ولكن هلال مالكوم أكس لايختفي ولا يشيخ وصوره الأخاذة تزين صفحات التواصل الإجتماعي ومع تقدم أدوات التصوير وفاعليتها لاتزال صوره بالأبيض والأسود ولمحاته الزكية ووجهه الصبوح جاذبة مثل القضايا التي طرحها، فهوى مالكوم أكس لا ينقضي وصوره الجميلة لا تسقط بالتقادم، بل إن المقابلات التلفزيونية التي أجراها منذ زمن بعيد مثلها مثل أفلام السينما العظيمة لا ينفك الناس يشاهدونها، لغته كوخز الإبر في بركة الضمير الإنساني الأسنة سيما حينما يتعلق الأمر بالمساواة بين الأجناس والتطلع نحو مجتمعات جديدة، رغم مرور الزمن تبقى إجاباته كما هي ذكية ودقيقة الصور رغم المتغيرات الكثيرة وتبدل حركتها في نسق وسياق إجتماعي وأقتصادي وثقافي وسياسي جديد ولكن إجابات مالكوم أكس تصوب على أهدافها بدقة ومع ظهور متحدثين بارعين على مدى سنوات غيابه لكنه يظل في مقدمة البارعين. والحاج مالك الشيباز إنسان محظوظ عاش وظل كذلك، وفي بداياته في ولاية نبراسكا كان يمكن أن ينتهي في عالم المخدرات وقضايا اللصوصية الصغيرة وبالفعل دخل السجن في قضايا صغيرة وخرج بإحلام إنسانية أكبر ويظل يخرج من ضيق المكان الي الزمان السرمدي الفسيح حتى الذين إغتالوه أخطأوا التصويب عليه وخرج من قميص جنازته الضيق الي عالم من الإنسانية بلا ضفاف، وحتى كتابة هذه السطور حبه مقيم والقضايا التي تناولها بالأمس هي قضايا اليوم في فرغسون، وحينما أرادوا التخلص منه بحفرة في الأرض صعدت به القضايا التي نذر نفسه من أجلها الي السماء فهو في الثريا والثرى ولا يخلوا أمره من ضربات حظ عظيمة، قبح إغتياله عمق جمال صورته، فالكلمة أقوى وأكثر خلوداً من المدفع وبقى أثر مالكوم أكس على مر السنوات فحياة الإنسان قصيرة في هذا العالم بالإغتيال أو بدونه والضوء الذي يبقى من بعض البشر يمكن رؤيته لقرون أتيات.
قام العم إليجا ملوك وهو من قدامي المحاربين بزيارة دكتور قرنق مبيور في منزله وهو من أهم أقرباءه الذين لم يتخلوا عنه في الحرب وفي السلام ووجد قرنق مبيور يراجع خطابه الذي سيقراءه في التوقيع النهائي على إتفاقية السلام وقال له العم إليجا (إنني أخاف عليك بعد توقيع إتفاقية السلام، رد قرنق ما الذي تخشاه يا أنكل إليجا) فرد قائلاً (أخشى أن يقوموا بإغتيالك) فرد قرنق بثبات، وكان يقول له تأدباً (أنكل) لفارق العمر بينهما، ( أنكل إليجا كما تعلم إنني قد قمت بقيادة الألاف الذين قدموا أرواحهم من أجل قضيتهم ولم أكن أفضل منهم، وإذا ما تم إغتيالي بعد توقيع إتفاقية السلام فسأكون قد أديت مهمتي بتوقيع إتفاق سلام مشرف لمن قمت بقيادتهم وهو ما كنت أسعى إليه بأن أنهى الحرب بطريقة مشرفة وهذا هو المهم) ذكر لي العم إليجا ملوك ذلك لاحقاً في حواراتي المتفرقة معه عن شخصية قرنق مبيور أتيم، وهذا العام رحل أنكل إليجا مثلما عاش ذو مبادئ ومواقف واضحة وصارمة وقد أوجعني رحيله وذهبت لزيارته قبيل رحيله مرات عديدة وهو واحد من أصلب القوميين الجنوبيين الذي إلتقيتهم.
إن الإنسان المعنوي يعيش على نحو أكثر مضاءة من الإنسان المادي وهذه هو بها الفضاء الإنساني، رحل مالكوم أكس وأثبت إن العالم قابل للتغيير.
مالكوم أكس الأوجه المتعددة:-
لمالكوم أكس أوجه متعددة ومنها جميعا أشرقت شمسه من عالمالمخدرات والسجن وإستطاع أن يحول الكارثة الي منفعة، قرأودرس ومن نصف متعلم خرج من السجن معلم ومن أعظمالمتحدثين باللغة الإنجليزية، بل إن خطاباته ولقاءاته حفرتمجرى رئيسي للخطاب السياسي الأمريكي المعاصر المتشبعبرائحة الستينيات وبحركة الحقوق المدنية، ورغم محاولاتالإعلام المؤسسي تجاهله ومحاصرته وإستغلال هفواته لسدطريقه وهو يخوض معركة مزدوجة في تحدي السلطات وإيلاجامحمد زعيم أمة الإسلام على نحو باهر، وتعرف مع مرور الوقتعلى حقائق المجتمع الأمريكي والعالم الخارجي وفي نهاياتحياته لامس جذور القضايا الإجتماعية والإقتصاديةوالسياسية والثقافية وإقترب من اليسار الأمريكي ومن مجلة(المنصلي رفيو) كما أقترب من تيارات البان أفريكان وألتقىبقادتها في إفريقيا، كما إلتقى بقادة من الحركات الإسلاميةالحديثة وبدء يمد الجسور نحو حركات البيض المؤمنة بالعدالةالإجتماعية والسياسية مما عجل بإغتياله، ومن ضمن من إلتقىبهم عبدالرحمن عزام ومحمد الفيصل وزار عدد من البلدانالإفريقية من بينها السودان وإندمج في حركة الحقوق المدنيةفي أوج عظمتها وأصبح واحدا من زعماءها ومتحدثيهاالمتفوهين، وأثار قضايا لا تنتمي لدين بعينه، كقضاياالديمقراطية الإثنية والمساواة بين الأعراق. وكاد أن يدلف الي بوابة قضايا العدالة الإجتماعية ويفتح صفحة جديدة في نضاله المتصاعد، وحبي لمالكوم أكس يبلغ قمته عند الصفحة التي لم يكتبها مالكوم أكس بعد لا عند الصفحة التي كتبها، وعند منحنى الرصاصات التي أطلقت عليه كان على أعتاب مرحلة جديدة في نضاله ومع ذلك يظل بازخاً فيما أنجزه وما كاد أن ينجزه.
وسيدي ومولاي الحاج مالك الشيباز كان مع أمة الإسلام ولم يكن منهم، فهو مختلف رائحته كفاحية وتصويبه دقيق وإستقامته لا تخطئها العين وقد كاد أن يتوصل الي تفاهمات وتحالف مع آخرين من الباحثين عن التغيير في خاتمة حياته وحينها كان ذهنه متوهجاً وبدء سريعاً في التوصل الي جذور الإضطهاد الإثني وأعماقه الإقتصادية الإجتماعية وضرورة تغيير علاقات الإستغلال نفسها للوصول لمعادلة سياسية ثقافية جديدة.
إن اللون وحده غير كافي لإلغاء علاقات الإستغلال فكم من أسوداً حقاً إضطهد السود أكثر من البيض أنفسهم، وكم من إنسان أبيض ناضل ضد الكوابح السياسية والإقتصادية الثقافية ودعى لإنصاف الجميع، إن مالكوم أكس غير موجود اليوم وتغيرت الوجوه في البيت الأبيض وظلت أحداث فرغسون بارزة النتوءات تستدعي أحاديث سيدي ومولاي الحاج مالك الشيباز، وحينما غاب مالكوم أكس عن المسرح أو غيب عنه كان وجهه أشد نضجاً ووسامة من كل أوجهه المتعددة السابقة، إن وجهه الأخير صلاحيته لا تنتهي.
رغم تباعد الزمن بيننا وبين الستينيات الساحرة ولكن لا يزال عطر الستينيات ينداح برائحة النفاذة من أمواج الإحتجاجات التي شملت كآفة المدن العظيمة، من نيويورك الي لندن وباريس ومدن إفريقيا وأسيا وأمريكا اللأتينية وجمال صور الطلاب الفرنسيين وحركة الطلبة في كوريا الجنوبية وصور فرقة الخنافس ومانديلا شامخاً في محاكمة روفانا، والظهور الكبير للنساء السودانيات في ثورة أكتوبر 1964م ودخول الزعيمة فاطمة أحمد إبراهيم البرلمان وهي تؤدي القسم وحيدة جنباً الي جنب مع الرجال، والعم كلمنت أمبورو يؤدي القسم وزيراً للداخلية كأول جنوبي تحمله رياح أكتوبر الي وزارات السيادة، والأب فيبلب عباس غبوش متسائلاً عن جدوى المواطنة في ظل دستور إسلامي ولا زال سؤاله قائماً. إن عطور الستينيات حملت في قلبها صور مالكوم أكس ومارتن لوثر كينغ وأستوكلي كارمايكل الذي قال عنه القس جيسي جاكسون عبارته أنيقة وهو يقوم بزيارته في فراش الموت في غانا بعد أن هجر الولايات المتحدة الأمريكية وإستقر هناك وهو صاحب بصمات واضحة في أمواج الستينيات المتلاطمة لحركة الحقوق المدنية، قال جيسي جاكسون عن إستوكلي (هو واحداً من أبناء جيلنا الذين عقدوا العزم ووهبوا حياتهم لتغيير أمريكا وإفريقيا لقد كان ملتزماً بإنهاء التمييز العنصري في بلادنا، وقد ساهم في هدم حائطه الي الأسفل).
إستمتعت بالحديث مع الدكتور جون قرنق عن الستينيات وعن أيام تنزانيا وقرنيل وعهود الصبى ونظرت في عين الستينيات آفاقاً وأسراراً ومعنى، وقرنق مبيور مثقف مطبوع ومفكراً قادماً من قلب السيتينيات عطراً ورائحة ودم.
كان مالكوم أكس إنسان عظيم التأثير على الآخرين وإستطاع أن يجذب كثيرين الي حركة الحقوق المدنية ولكن يظل تأثيره على الرجل الفراشة محمد علي كلاي هو الأهم والأكثر تاريخية وبعد رحيل مالكوم أكس ظل محمد علي كلاي محتفظاً بذلك التأثير رفض المشاركة في حرب فيتنام واضحى أهم البهارات في حملة مقاطعتها، ورفض عرض دان كنغ متعهد مباريات الملاكمة الأسود للذهاب الي جنوب إفريقيا النظام العنصري رغم ترغيب وترهيب ومكائد ومكر دان كنغ، لقد كان مالكوم أكس بالغ التاثير على محمد علي كلاي بالرغم من أن إلايجا محمد كان ضد تلك العلاقة، وظل كلاي وفياً لها بعد إغتيال مالكوم أكس الذي ظلت ذكراه تلاحق الظلم في الحل والترحال. وقد نازل محمد علي كلاي حكومة الولايات المتحدة الأمريكية ذات الوزن الثقيل ورفض الذهاب الي فيتنام وتمت مصادرة جوازه ومنع من السفر للخارج وأوقف عن الملاكمة رغم محاولات إلايجا محمد لإثناءه عن ذلك، وإيلاجا الذي لا يفرق بين الدين والمال والحماقات وقد تدخل مراراً لقطع العلاقة بين مالكوم أكس ومحمد علي كلاي، وحينما حكم على محمد علي كلاي بالسجن لمدة خمسة سنوات قال عبارته المشهورة (ليست لدي حرب مع الفيتى كونغ سوف أكون يوماً ما أريد، كنت في السجن لمدة 400 عام ولا أمانع خمسة سنوات آخرى) تعليقاً على الحكم عليه بخمسة سنوات سجن لرفضه المشاركة في حرب فيتنام، وقد كانت تلك عبارة من عبارات الحرية، وقالت زوجة محمد على عن دان كنغ الذي أخذ عشرة مليون دولار من مبوتو سيكسيكو لنقل مباراة محمد على وجورج فورمان الي زائير وكان يتاجر مع المؤسسات بالملاكمين السود قالت عنه (إن دان كنغ يتحدث كأسود ويعيش كأبيض)، إن روح الحاج مالك الشيباز أو مالكوم أكس كانت بينة في مواقف محمد علي، وستعود من جديد في طموحات الشباب القادمين.
إن مالكوم أكس لم يمت في نيويورك فمازالت روحه طليقة وأفكاره حرة تجوب عالمنا ولا تنتمي الي أي لون، بل تنتمي الي بحث الإنسان الدائم عن العدالة والمساواة والحرية للجميع، وعن الإنسجام والمجتمع الجديد.
قبل أكثر من عام كتبت مكتوبي هذا الي سيدي ومولاي مالك الشيباز وطلبت من عزيزنا منعم الجاك طباعة تلك القصيدة وإحتفظت بها بعيداً عن ظلال أحداث فرغسون التي أعادت إنتاج مواجع قضايا حركة الحقوق المدنية وفي قلبها مالكوم أكس الذي عادة ما يطل عقب كل نسيان، فالحياة تبتسم له حياً وميتاً فبالأمس إلتقى بالكاتب الرائع ألكس هيلي الذي كتب سيرته الذاتية ومرة آخرى أعاده الي الحياة لي دانيالز ودينزل واشنطن في فلمهما الشهير عن مالكوم أكس، وقد ورد من بعض المصادر إن الذي قام بالصلاة على جنازة مالكوم أكس سوداني، وفي ذلك قصة جديرة بأن تروى.
إن ديمقراطية الثقافة بما في ذلك إعادة النظر في كتابة تاريخنا المشترك وعلى نحو شامل لمجتمعنا والإنتماء الي كل حقب تاريخنا التي شكلت الشخصية السودانية وبناء الوحدة في التنوع، ويأتي الإهتمام بقضايا الفقراء والمهمشين في قلب التحالف الجديد، تحالف يرد الإعتبار للقضايا التي تغافلها القوميين من القوميات المضطهدة الذين يركزون على القضايا الإثنية وتمظهرها الثقافي ويتجاهلون على نحو قاتل الجذور الإقتصادية والإجتماعية للإضطهاد القومي، وكذلك يرد هذا التحالف الإعتبار لتغافل ذوي العيون الطبقية ومحدودية منظارهم الذي يقلل من الإضطهاد القومي والتهميش الإثني الثقافي ويعتبره ملحق من ملاحق القضايا الطبقية والتقدم نحو إيجاد تحالف يجمع كل هذه القضايا ويناضل بكفاحية لتحقيق دولة المواطنة بلاتمييز والعدالة الإجتماعية والديمقراطية السياسية والثقافية التي تعترف بحق الآخرين وحقهم في أن يكونوا آخرين وترد الإعتبار لتاريخنا المشترك ومخاطبة قضايا العنصرية المؤسسية وإرث تجارة الرقيق وتصميم مناهج تعليمية جديدة تستند لكآفة هذه القيم وتحقق الإنصاف الجندري.
حكى دكتور جون قرنق إنه حينما ذهب الي كلية (فورت بني) للمشاه في ولاية أطلنطيا جورجيا بالولايات المتحدة وكان حينها نقيب مستوعب من قوات الأنانيا الأولى بالقوات المسلحة السودانية وذهب بمعية الرائد سعود أحمد حسون، وفي اليوم الأول في الكلية كان يوماً تعريفياً وجاء الضابط العظيم في الكلية وخاطب طابور الضباط المتدربين من كل القارات وبدأ في توزيعهم وأعطى لكل مجموعة دليل يقودها للتنوير والتعريف بكلية (فورت بني) وبدأ التوزيع بالقارات والمناطق الجغرافية فتم النداء على طلاب أوروبا وأمريكا اللأتينية وأسيا والشرق الأوسط وهكذا، وحينما تمت المناداة عل الطلاب الأفارقة نبه النقيب قرنق الرائد سعود بأنهم يجب أن يذهبوا مع الأفارقة وللمفارقة فإن الرائد سعود أحمد حسون يأتي من أقصى شمال السودان، وبما إنه هو الأقدم عسكرياً فهو صاحب القرار، فقال لقرنق يجب أن ننتظر لأنه كان يؤمن بإن السودان جزء من العالم العربي وليس إفريقيا، والمفأجاة كانت إن لا يوجد طلاب من العالم العربي والذين وجدوا ذهبوا مع طلاب الشرق الأوسط، وتم توزيع جميع القارات وبقي طالبان لاينتميان الي أي قارة هما الرائد سعود أحمد حسون والنقيب جون قرنق دي مبيور، فسأل الضابط العظيم، من أي قارة أنتم لقد إنتهت جميع القارات؟ فذكروا له إنهم من السودان، فقال لهم أين السودان أليس هو جزء من إفريقيا! وتم طلب الضابط المسئول من الطلاب الإفارقة مرة آخرى وكان هو العقيد بيتر أدوم كاي من دولة نيجيريا الذي أصبح يسخر من سعود وقرنق ويقول إفريقيا في هذا الإتجاه والسودان في الإتجاه الآخر. حتى دعاه جون قرنق الي وليمة تمت فيها المصالحة بين سعود وقرنق وبيتر أدوم كاي الذي أصبح لاحقاً عضواً في إحدى مجالس الثورات في إنقلابات الجيش النيجيري المتعددة، وكان جون قرنق يحكي هذه القصة بحق للتدليل على أزمة الهوية في السودان. السودان الذي يقع في ظل المطر فلم يرضى به العرب ولم يرضى هو بالأفارقة وهي إحدى القضايا التي تحتاج لمعالجة بأن نكون سودانيين أولاً قبل أن نكون شماليين أو جنوبيين عرب أو أفارقة مسلمين أو مسيحيين، فالننتمي إلي أنفسنا قبل أن نتأهل للإنتماء للعالم العربي أو إفريقيا وبإمكاننا أن ننتمي لهما معا وللإنسانية ولايمكن ذلك الا بالإنتماء الي أنفسنا أولاً ففاقد الشئ لا يعطيه.
حدثني عزيزنا عبدالغني إدريس إن السوداني الذي صلى على جنازة مالكوم أكس هو الشيخ أحمد حسون والد الرائد سعود أحمد حسون وياله من حادث صدفي محض، فحينما ذهب مالكوم أكس الي الحج طلب من الملك السعودي الراحل فيصل بن عبدالعزيز أن يعطيه عالم ليعلمه الإسلام السني فأختير الشيخ أحمد حسون الذي ذهب الي الولايات المتحدة مع مالكوم أكس وكان يجيد اللغة الإنجليزية وصلى على مالكوم أكس بعد إغتياله، روى ذلك اللواء الراحل سعود أحمد حسون لعبدالغني إدريس، بعد أن تم فصله من القوات المسلحة من قبل إنقلاب الإنقاذ وشرد وهاجر الي الأمارات، إن الحياة مليئة بالمصادفات وبالمفارقات وقد جاء ذلك في صياغ أحاديث عديدة مع عبدالغني إدريس عن زملاءه الراحلين ممن ذهبوا الي الجنوب ولاسيما الأخوين سيد ويوسف وعلي عبدالفتاح والدكتور محمود شريف الذين طالما توقفت عند شجاعتهما وإحتفظت ببعد المسافة عن الرؤية التي دفعتهم في ذاك الطريق.
إن القوميين في مناطق الهامش الذين يتغافلون عن عمد أو بمحدودية التفكير قضايا العدالة الإجتماعية والمحاسبة والشفافية ولايشركون الجماهير في صياغة المستقبل الجديد وينصبون من أنفسهم وكلاء لها في الأرض وهم بذلك إنما يسعون لإحلال وإبدال سطحي في المؤسسات الفوقية للسلطة ويسعون لوراثة علاقات الإستغلال القديمة دون تغيير في محتواها بل مجرد إحلال وإبدال شكلي للوجوه والأسماء في أكبر عملية تضليل لإعادة إنتاج النظم القديمة، إن القوى الديمقراطية والإجتماعية الجديدة التي تتغافل قضايا الإضطهاد القومي وقضايا المواطنة بلا تمييز ولا تتصدى بحسم لبناء الوحدة في التنوع ستفشل كذلك في الإقتراب من جماهير ذات دور حاسم في التغيير وتحكم على نفسها في الجلوس على مقاعد الفرجة السياسية بعيداً عن الفعل السياسي الحاسم والرصين لاسيما وإن سودان اليوم ليس هو سودان الستينيات الذي لعب فيه القطاع الحديث والطبقة الوسطى دوراً حاسماً ولقد تناقص دور القطاع الحديث وتأكلت الطبقة الوسطى وإنهار الريف وتريفت المدينة وأحتلت القضايا الإثنية والثقافية وقضايا المواطنة دوراً جديداً وحاسماً في النضال من أجل التغيير. إن الحفاظ على وحدة السودان على أسس جديدة هي من أولويات هذا التحالف الجديد وعلينا أن نهتم وأن نعكس في برنامج هذا التحالف التنوع التاريخي والمعاصر لبلادنا، ولقد سبق أن قلت في مقابلة صحفية وأشرت في مقالة سابقة لإنفصال الجنوب، إن الإنتقاص من تاريخ بلادنا سيقود للإنتقاص من جغرافيتها وهو ما حدث بالفعل في حالة جنوب السودان.
إن قيام حركة حقوق مدنية ثقافية سياسية جديدة تتصدى لقضايا الفقر والمواطنة بلاتمييز وتربط بينهما بأفق من الإستنارة والتقدم ولا تتغفال قضايا النساء والشباب والبيئة ومجمل قضايا البناء الوطني وتعمل على إيجاد معادلة عالمية جديدة لمصلحة الهامش العالمي والبلدان الفقيرة وتربط بين نضالها الداخلي من أجل العدالة الإجتماعية والثقافية والسياسية في إطار ديمقراطي يحترم الحقوق الأساسية للإنسان وسيادة حكم القانون والفصل بين مؤسسات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية وإحترام مهنية المؤسسات العامة وإقامة دولة مدنية ديمقراطية فهو عصب برنامج هذا التحالف. إن الإهتمام والإنحياز لإعادة التوازن للعلاقات الدولية مهم والا لأصبحنا كمن يهرب من بيت المرفعين الي بيت الأسد كما ورد في عبارة سديدة للشهيد جوزيف قرنق في كتيبه الهام (مأزق المثقف الجنوبي) وفي حواره مع القوميين الجنوبيين.
مؤخراً، قال جيسي جاكسون الذي عاصر وشارك في حركة الحقوق المدنية عن ما حدث في فارغسون (في عصر فارغسون فإن شجاعة مالكوم أكس في منازلة العنصرية محفزة أكثر من أي وقت مضى). إننا إذ نحتفي اليوم بمالكوم أكس فإننا نحتفي بأهمية حركات الحقوق المدنية السياسية ونتطلع نحو بناء تحالف لحركة حقوق مدنية سياسية ثقافية سودانية جديدة بعد حدثين كبيرين شهدهم السودان يشكلان علامة فارقة في تاريخنا الحديث، وهما إنفصال الجنوب وإرتكاب الدولة لجرائم الإبادة الجماعية ضد مجموعات كبيرة من السكان السودانيين مما يستدعي إعادة تعريف المشروع الوطني السوداني والتأمل في فشل الدولة ومشروعها الحالي بغية الوصول لرؤية شاملة للبناء الوطني، مما يطرح على قوى التغيير بناء كتلة تاريخية جديدة من مختلف القوى الإجتماعية الجديدة والقديمة بفكر ثاقب يتصدى بحسم للزج بالدين والإثنية في العمل السياسي لتحقيق مكاسب سياسية، وبناء دولة المواطنة بلا تمييز بعيداً عن محددات الدين والإثنية، ورفض أي تمييز على أساس الدين والإثنية والنضال من أجل دولة مدنية على أساس الفصل الكامل بين الدين والدولة، وأن تكون المواطنة هى أساس الحقوق والواجبات في الدستور، إن التحالف الذي ننشده يستند على قوة الجماهير وحضورها بعيداً عن ثقافة المنظمات غير الحكومية التي تستجدي التمويل. وعلى هذه الحركة أن تثبت أقدامها في العمل الجماهيري الداخلي مع الإستعداد الكامل للتفاعل مع المحيط الخارجي وإقامة شراكة إيجابية مع الخارج مستندة على المصالح الوطنية.
التحالف العريض لا يعني أن تتخلى مختلف المنظمات المكونة له عن هويتها التنظيمية بقدر إجتماعها لتكوين حركة ثورية مؤمنة بالديمقراطية في مظلة تحالف واسع يتصدى لسياسات التمكين والتخريب الذان لحقا بالدولة والمجتمع السوداني.
إن الطريق الوحيد للوصول لتحالف الحقوق المدنية السياسية الثقافية الجديد يكمن في خوض المعارك لإزالة نظام الإنقاذ بكآفة الوسائل المتاحة وعبر أكبر جبهة معارضة يستند عملها المشترك في أهداف واضحة لإزالة دولة التمكين وبناء دولة الوطن، إنهاء الشمولية وتحقيق الديمقراطية ووقف الحرب والوصول لسلام حقيقي وشامل يخاطب أسبابها والإحتكام للشعب السوداني ديمقراطياً ليختار من يختاره، وهذه عملية طويلة تحتاج لبناء جبهة معارضة وإعمال النظرة النقدية لتجاربنا من التجمع الوطني الديمقراطي الي الجبهة الثورية والفجر الجديد الي نداء السودان الذي يشكل الأن أعلى محاولات توحيد العمل المعارض وعلينا التمسك بنداء السودان وتطويره كماً ونوعاً والإنفتاح على قوى معارضة خارجه.
إن شجاعة مالكوم أكس وعالمية أفكاره تسهم في هزيمة ظلام العنصرية، وفي السودان علينا أن نتحدث عن ما هو مسكوت عنه من عنصرية مؤسسية ذات لغة وشفرات غير مكتوبة كواحدة من قضايا تحالف حركة الحقوق المدنية السياسية الثقافية الجديدة من أجل بناء دولة المواطنة بلا تمييز.
إن قيام تحالف متعدد الثقافات لا يعمل على شيطنة مجموعات سكانية ووضع آخرى في مصاف الملائكة ولا يحدث قطيعة بين مكوناته الموضوعية ولا يعمل على إستبدال الضحايا بضحايا آخرين أو الوصول الي تغيير محدود لا يخدم كآفة أطرافه ويتقاصر عن تحقيق دولة المواطنة بلا تمييز ويبتدر مسيرة جديدة للبناء الوطني هو ما يشكل أساس هذا التحالف.
إن جمهور هذا التحالف هو نفس الجمهور صاحب المصلحة في إنتفاضة سبتمبر – أكتوبر 2013م وهو نفس الجمهور الذي إستقبل دكتور جون قرنق دي مبيور في الساحة الخضراء والذي كان بمثابة الإستفتاء على دولة المواطنة بلا تمييز والقبول بالآخر والذين كانوا هناك هم فقراء المدينة والريف من كل القوميات المتطلعين لدولة المواطنة والعدالة الإجتماعية والديمقراطية، وجمهور هذا التحالف يقع في مثلث المواطنة، العدالة الإجتماعية والديمقراطية. ولقد تخطى خطاب جون قرنق منذ زمن طويل محدوديات الخطاب الإثني الجغرافي وتناول على نحو تقدمي قضايا الفقراء والمواطنة كوجهين لعملة واحدة وهذا سر حب الناس لقرنق من نمولي الي حلفا ومن الجنينة الي كسلا، فهو قد خاطب مهمشي الريف وفقراء المدن وسعى لوحدة السودان بتقديم برنامج ديمقراطي جديد يتجاوز مظالم الماضي ويسعى الي بناء أجندة مستقبل مشتركة لجميع القوميات والفقراء، وقد وحدت الساحة الخضراء النساء والرجال والفقراء والشباب من كآفة الألوان والقوميات وكانت حدثاً فريداً، وإذا ما كان هنالك سبباً عجل بإغتيال جون قرنق فهو الساحة الخضراء والإستقبال غير المسبوق في تاريخ السودان الذي وجده الدكتور جون قرنق ديمابيور والذي إنتقل به نوعياً الي قاعدة إجتماعية جديدة.
إنتقل مالكوم أكس تدريجياً من شيطنة البيض للقبول بالتحالف والحوار مع أقسام منهم ومن الإنعزالية عند الغيتو الأسود للنضال من أجل حق التصويت للسود أو الأفارقة الأمريكيين لتغيير توجهات النظام القائم، وكانت ساعة إغتيال مالكوم أكس هي ساعة إعتزامه الإعلان عن توجهاته الجديدة وتقدمه نحو التحالفات متعددة الثقافات، تحالفات الراغبين في التغيير، لقد كان مالكوم أكس لحظة إغتياله شامخاً وعملاقاً وإقترب من ملامسة الإقتصاد السياسي لمعضلات الفوارق الإثنية والثقافية وهي لحظة تحتاجها حركات الهامش في السودان للدمج والربط الوثيق بين القهر القومي وجذوره الإجتماعية الإقتصادية، والتوجه نحو برنامج لا يقف في سطح الفوارق الإثنية بل يسعى لإلغاء غلاقات الإستغلال في جوهرها وبناء مجتمع جديد، إن الحركة الجماهيرية السودانية اليوم تتشكل بملامح جديدة فالمدن السودانية إعاد الريف تشكيلها على نحو جديد وهي التي كانت تشكل الريف وأدت الحروب في الهامش لهجرات واسعة نحو المدن وأدى الإحتكار الضيق للسلطة والثروة على نحو طفيلي لتدمير إقتصاد الريف والمدينة وإشعال الحروب وتتشكل حركة جماهيرية جديدة مما يمهد لقيام حركة مقاومة سلمية للحقوق المدنية السياسية الثقافية في المدن والريف وذات علاقة عضوية بين جمهوري الريف والمدينة يمكن أن تشارك في إنتفاضات المدن والإنتفاضات المسلحة في الريف إنها تيار جديد يسكن بالقرب من عمارات السلطة وأقرب إليها من حبل الوريد كل ما ينقصها هو الرؤية السليمة والإنتظام في تحالف جديد وعليها أن تربط بين القهر الإثني والقهر الإقتصادي والإستعداد لمعركة لا تكتفي بالتغيير الشكلي والإحلال والإبدال في البنية الفوقية للسلطة بل بالتوجه بحسم لبناء مجتمع جديد لمصلحة كآفة الفقراء والمهمشين من كآفة القوميات وبناء حركة لا تساوم مع خصومها في القضايا الإستراتيجية وتوحد المتضررين من كآفة القوميات وهذا هو مصدر قوتها فهي لا تستبدل الإنقسامات القديمة في المجتمع بإنقسامات جديدة ولكنها تستبدل الإنقسامات التي قامت على أسس إثنية إقتصادية إجتماعية في المجتمع القديم ببرنامج جديد يوحد المنتجين والمتضررين والمهمشين وفي قلبهم قضايا النساء لإنجاز دولة المواطنة بلا تمييز.
خلال أكثر من (260) ندوة قمنا بها في الفترة الإنتقالية في كآفة أنحاء السودان إلتقينا بمئات الألاف من السودانيات والسودانيين تولدت لدي ملاحظات وأسئلة أكثر من إجابات وجميعها تحتاج الي بحث معمق، إن التدمير المنهجي للريف السوداني المنتج وإنتقال الملايين الي مدن السودان خلق نوع جديد من المدينة يمتلك أكثر من ضمير سياسي بين القدامي والقادمين وإختلاف سبل كسب العيش والمطالب الحياتية ووجود فئات ذات تقاليد عمل سياسي راسخة وآخرى في مرحلة تثبيت أقدامها والتأقلم مع المدن، وهي مدن تم تدمير الصناعة بها ومؤسسات الإنتاج مما خلق التباعد بين جمهورى المدينة، كما إن الإختلافات الإثنية والثقافية وتقاليد العمل السياسي والمطالب السياسية المباشرة تباعد بينهما أيضاً، ويستخدم النظام الطفيلي السرطاني وأجهزة أمنه هذه الهواجس في تعزيز الإنقسامات وبناء حائط العزلة والتلاعب على جمهوري المدينة وعدم إنخراطهما في مهام مشتركة من أجل التغيير ويكمن عملنا الحقيقي في كيفية إيجاد برنامج مشترك يوحد جمهوري المدينة ووجدانهما وضميرهم السياسي بعد التحولات الديمغرافية والسياسية التي شهدتها المدن على نحو مثير للإنتباه، حتى يلتقي جمهوري المدينة على طريق الإنتفاضة.
إن رسالة حركة الحقوق المدنية السياسية الثقافية الجديدة يجب أن تكون رسالة غضب وحب في آن معاً وتربط بين الإضطهاد الإثني الثقافي والطبقي وتعي أهمية بناء مجتمع جديد للجميع وهذه تمثل أحدي خلاصاتي المهمة في تجربة إستمرت لمايقارب (30) عاماً من العمل المستمر في وسط الحركات التي إنطلقت من الهامش والإنتماء الملتزم بها.
تكمن قوة الحركات التي إنطلقت من الهامش في وضوحها الشديد في قضايا الإضطهاد القومي الإثني الثقافي ويكمن ضعفها في عدم الوضوح في جذور الإضطهاد القومي الإقتصادية السياسية ولذا تكون أحياناً ذات قابلية للمساومة مع النظام أو إحلال وإبدال شكلي يرث علاقات الإستغلال في المجتمع القديم دون تغيير كما ترث الإنقسامات القديمة للمجتمعات بكآفة أشكالها مع العجز في تقديم برنامج للبناء الوطني وتوحيد قوى بناء المجتمع الجديد وإحداث قطيعة مع تجربة البناء الوطني الماضية وإيجاد برنامج بناء وطني جديد يوحد كآفة المضطهدين ويقيم الوحدة في التنوع وهذه هو جوهر مشروع السودان الجديد وهذه واحدة من دروس تجربتنا بالإضافة الي المستجدات الجديدة في السودان وفي تطور الفكر الثوري على مستوى العالم.
إغتيل جون قرنق حينما توصل لتوحيد قوى التغيير بالدمج بينما هو إثني وطبقي والتمسك بضرورة وحدة السودان وهي قضية تحتاج لمزيد من البحث والتقصي لأن إغتيال قرنق يطرح أسئلة أكثر من إجابات كما ذكرت من قبل.
حينما بدأت أطالع كتاب البروفسور ثيوبولد عن المهدية والإستعمار التركي البيرطاني 1881-1889م لم يكن ما إستوقفني هو الرصد الدقيق لكثير من الأحداث الهامة والسياق الإجتماعي الإقتصادي للمجتمع السوداني أنذاك ولكن كان الأكثر جاذبية لي هو قدرة الإمام المهدي الشاب على النهوض في وسط الإحباط الي درجة اليأس في مجتمع مشتت تضربه الإنقسامات ويئن كاهله من الضرائب الباهظة والفقر وتفوق المستعمر وأدوات قهره العظيمة الناعمة والخشنة ومع ذلك تمكن المهدي الفتى من إشعال جذوة الأمل وسط اليأس والإحباط وزرع بذرة الإتحاد في وجه التشتت والإنقسام وتمكن من توحيد كتلة بشرية هائلة تفوقت على أدوات قهر المستعمر الناعمة والخشنة وعلى سلاحه الناري وكتبت صفحة تاريخية شديدة التأثير على مستقبل السودان وهذه ما يحتاجه السودان مرة آخرى لتوحيد كتلة تاريخية جديدة لبناء مجتمع ودولة تسع الجميع وعبر شركة مساهمة من كآفة الراغبين في التغيير.
ذهبنا في عام 1994م الي شرق الإستوائية مع قرنق مبيور وحينما هبطنا بطائرة الهيلكوبتر أستقبلنا المواطنون والجيش الشعبي بمعنويات هابطة فأتي الي جانبي صديقنا حماد آدم حماد المتمرس في العمل الحركي قبل إنضمامه للحركة الشعبية وقال لي (يا كمرد أعمل حسابك وكلم الرئيس انو الجيش زعلان شديد ولايوجد أكل ولا علاج ولا زخيرة وربما تحدث مشاكل في هذه الزيارة، كانت تلك كبسولة مكتملة فقلت له إن جون قرنق يدرك ذلك وعلى إطلاع على الوضع وسترى ماذا سيفعل)، دعى جون قرنق الضباط والجيش لمحاضرة وقام بشرح الوضع داخل السودان وداخل الحركة الشعبية وأسباب التراجع في صيف العبور والوضع الإقليمي والعالمي وقضايا الإسلام السياسي وأصدقاء الحركة الجدد في الإقليم وقال يوم غداً سوف يشهد وصول أكل وأدوية وزخيرة للمعسكر وقام بإعادة تنظيم الجيش وبترقية بعض الضباط ومن بينهم النقيب أبوحديد(جمعة بابو) أحد المؤسسين للجيش الشعبي من أبناء المورلي والذي أتى بعد ذلك محتفلاً في طابور مع زوجاته وأبناءه وهو يعزف موسيقى بإستخدام (قرن ثور) هاتفاً بحياة الدكتور جون قرنق، وفي الصباح وصلت العربات تحمل الزخائر والأكل والأدوية وبعد ساعات جاءت الهيلكوبتر جاءت طائرة الهيلكوبتر لتقل قرنق مبيور أتيم مرة آخرى الي المكان الذي أتينا منه وخرج المعسكر عن بكرة أبيه يردد الأغاني الثورية ويهتف بحياة الحركة الشعبية وحياة قرنق مبيور أتيم فأتي الي جانبي حماد آدم حماد كما فعل في المرة السابقة وقال لي (عمك الساحر والأطفال حينما يأتي تخضر الأشجار وتتفتق الأزهار).
إن قرنق مبيور قاد الحركة الشعبية بالأمل كله وكان بائع أحلام عظيمة على مدى قيادته التاريخية للحركة الشعبية في سنوات الحرب وبدايات السلام لا يخدع من هم في قيادته لكنه يحفزهم بإمكانية تحقيق إحلامهم وإن غداً أفضل من اليوم، وقاد الحركة والجيش الشعبي على مدى أكثر من (20) عاماً دون مرتبات وإستشهد الألاف تحت قيادته وحينما وقع إتفاقية السلام كان من أتوا الي الحركة في العشرينيات وصلوا الأربعينيات ومن هم في الأربعينيات كانوا في الستينيات، في مؤتمر رمبيك عام 2003م الذي حضره الالاف الضباط من كل الجبهات لمشاورتهم حول الوصول لإتفاقية سلام وأخذ رايهم في المستجدات المهمة ذاك الوقت، في بداية الجلسات كنا ننتظر حضور ضباط من شمال بحر الغزال ومنطقة واو وكان دكتور قرنق مهتم بحضورهم لأنه أمضوا سنوات طويلة دون أن يلتقي معظمهم وكان يسأل أحد مساعديه هل وصل الضباط؟ وذكر له إن الطائرة من المفترض أن تكون قد وصلت، ولكن حينما أرسلنا العربات لم نجد الضباط وهنالك سلاطين كبار السن في المطار وكرر دكتور قرنق سؤاله أكثر من مرة وإلتفت بذكاءه المعهود وحس الفكاهة الذي لا يفارقه وخاطب القاعة قائلاً إنه متأكد إن السلاطين الذين تم الحديث عنهم هم الضباط أنفسهم وقال (يا جماعة نحن قعدنا كتير في الغابة وأتينا شباب ولكن الأن معظمنا يشبه السلاطين كبار السن، والضباط في منطقة شمال بحر الغزال ومنطقة واو ليس لديهم لبس عسكري) وارسل العربات مرة آخرى للمطار وأتى الضباط الذين أعتقد من ذهب لإحضارهم في البداية بإنهم سلاطين كبار السن، وقرنق مبيور كان قائدنا باع لنا الأحلام وزرع في نفوسنا الآمال حتى أثمرت آماله غابة من الآمال العريضة في الساحة الخضراء ولازلنا نحلم بإستعادة ذاك الأمل. إن بلادنا اليوم تحتاج لباعة أحلام وزارعي آمال عظيمة يتسربون من بين فجوات اليأس والإحباط لنعبر نحو دولة المواطنة بلا تمييز والتي تنحاز للفقراء وفق مشروع بناء وطني جديد يطرح مرة آخرى قضية توحيد السودان جنوباً وشمالاً على أسس جديدة فما سقط هو شكل من أشكال الوحدة وتبقت أشكال آخرى لتوحيد السودان ولقيام (إتحاد سوداني) بين دولتين مستقلتين قابلتين للحياة وقائمتين على المواطنة بلا تمييز والديمقراطية والعدالة الإجتماعية، ومن كان يظن إن ألمانيا وفرنسا سيكونان في إتحاد واحد هو الإتحاد الأوروبي بعد الذي جرى في الحرب العالمية الثانية، واليوم معظم أوروبا تسكن وتعمل وتتنقل من مدريد الي النرويج في فضاء الإتحاد الإوروبي، ونحن لازلنا نحلم مرة آخرى بفضاء (الإتحاد السوداني) من نمولي الي حلفا بين دولتين مستقلتين لكل دولة علمها وراس دولتها ونظامها. ويظل الدكتور جون قرنق ورؤية السودان الجديد قاسم مشترك يدفع إيجاباً نحو (الإتحاد السوداني).
إن أهم تجربة معاصرة قطعت قول كل خطيب حول أهمية المسالة الإقتصادية وقضية العدالة الإجتماعية هي بالقطع المسيرة الطويلة لشعب جنوب إفريقيا وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي أهم حركات التحرر الوطني الإفريقي الذي عقد قادته الكبار مانديلا وسوسولو وأوليفر تامبو تسوية مع نظام التفرقة العنصرية إنتقلت بموجبها السطلة السياسية للأغلبية بموجب الصوت الواحد للإنسان الواحد وتبقت الشوكة الإقتصادية عند قوى النظام القديم مما أدخل جنوب إفريقيا في تحديات كبيرة متعلقة بالعدالة الإجتماعية وديمقراطية الثروة وقضاياها الهامة واولها قضية الأرض وساعد هذا الوضع للتحريض على ثورة مضادة ضد كل القيم والمبادئ التي ناضل من أجلها شعب جنوب إفريقيا وحزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ويعتمد إستكمال ثورة شعب جنوب أفريقيا على حل القضية الإقتصادية وتحقيق العدالة الإجتماعية الأمر الذي يبرز أهمية هذه القضية والمرحلة الجديدة من النضال الذي يخوضها حزب المؤتمر الوطني الإفريقي والذي يستحق التضامن.
شهدنا حكاية الفتى الذي تعرض لإعتداءات الغوغاء والتي إنتهت بموته كما ورد في بعض الأخبار بعد تعذيب معنوي ومادي وإستخدمت فيه (الشطة) وغيرها وعلى الرغم من إنني شاهدت منذ سنوات في شرق إفريقيا (قصاص الغوغاء) في مدنها التي نهشها إقتصاد السوق من غير رحمة وتسمح بالقصاص من الفقراء بغير قانون وتحيط منازل الأغنياء بسياج مادي وقانوني، ولكن ما حدث لذلك الشاب والذي وجد ردود فعل واسعة إستياءاً وحزناً وإدانة ومع ذلك مازال السؤال قائماً لماذا حدث ما حدث ولماذا أخذ الضمير إجازة وترك الفضاء للغوغاء؟ ولماذا إنهارت حاكمية وسيادة حكم القانون ؟ وهل لما حدث علاقة بإزدياد حدة الفقر والتوترات الإثنية ؟ وهل للنظام دور في تعميق التوترات الإثنية وتوظيفها إجتماعياً وسياسياً؟ إن المعتدين الذين إستباحوا إنسانية المعتدى عليه فقدوا إنسانيتهم أيضاً في ذات الطريق، إن ما حدث ليس حادثاً معزولاً بل ظاهرة شاملة مرتبطة بالنظام وبيئته وضيق قاعدة حكمه وإحاطة خصومه به ويعمل النظام على شغل خصومه بأنفسهم في بيئة فاسدة لاتوّلد سوى الفساد. وإتساع دائرة الفقر والتناقضات الإثنية متلازمتين لمشروع الإسلام السياسي، وعجزه عن خلق مجتمع منتج وإعتماده على النهب الطفيلي وهي ظاهرة لاتخص السودان وحده، ومؤخراً شاهدت فيلم وثائقي عن ما يفعله جنرالات بورما وثورة الزعفران وكيف وظف النظام الرهبان البوذيين ضد مبادئهم وضد المسلمين للحفاظ على سلطته والنظام يستفيد من هذه الحوادث نفسها لتعميق الشرخ وسط المتضررين وتقسيمهم إثنياً وثقافياً وضرب وحدة الضمير السياسي لهم، ونحتاج لطريقة جديدة فوق الحزن والغضب للتصدي للظواهر المستمرة التي تنتجها بيئة النظام الفاسدة وتدميرها المستمر للقيم والنسيج الوطني السوداني وسيادة حكم القانون.
الحركة السياسية السودانية بمجملها إقتربت وإبتعدت عن قضايا البناء الوطني في عدة مناسبات وهي تحتاج أكثر من اي وقت مضى أن تتفق على أساسيات مشروع بناء وطني جديد لكيفية حكم السودان قبل من يحكم السودان، وهو جوهر المؤتمر الدستوري كألية للوصول للمشروع الوطني وإعادة تعريف البناء الوطني وفي ذلك لابد من عملية منتجة متكافئة تساهم فيها كآفة التيارات السياسية والمجتمع المدني (والدجي يشرب من ضوء النجيمات البعيدة) والإشارات السديدة بداية بمشروع ثورة 1924م ومروراً بكآفة الفرص المهدرة.
الأستاذ الشهيد محمود محمد طه الذي إستقام وصدق وقال في عبارة فالحة إن مشكلة الجنوب لايمكن حلها دون حل مشكلة الشمال. فحقاً إن مشاكل الهامش تصنع وتنتج في الخرطوم. أعجب جون قرنق بشعار حزب الأمة والإمام عبدالرحمن المهدي (السودان للسودانيين) وجون قرنق يؤمن بإن السودان لن يتوحد مالم يكن لجميع السودانيين، فهل نعيد البريق لهذا الشعار وهل توقفنا عند الراحل إبراهيم بدري الذي لو زرنا قبره لوجدنا مكتوباً عليه حب الجنوب، ولايزال الأستاذ إبراهيم بدري فكرة وبذرة وذكرى. الوصول لمشروع وطني يحمل بصماتنا جميعاً لاتتعارض مع تكوين حلف من أجل الحقوق المدنية والسياسية والثقافية بل العكس هو الصحيح بدون بناء هذا الحلف وتغيير الموازين من الصعب الوصول لمشروع بناء وطني متكافئ في ظل توازن القوى الحالي.
إن مشروع الإسلاميين الحالي أضر بالسودان وبالإسلاميين أنفسهم وهو لا يصلح حتى لتوحيد الإسلاميين دعك عن توحيد السودان، وهو قائم على مجموعات المصالح من دوائر الفساد والسلطة وعلى الإسلاميين الجادين الرجوع لمقاصد مشروعهم الأولى وخوض المعركة الي جانب شعبنا وضد نصفهم الأمني السلطوي الفاسد والقبول بالديمقراطية وأساسيات مشروع وطني جديد في تفاهم مع القوى الوطنية المناضلة من أجل التغيير.
أكتشف الشهيد داؤؤد يحى بولاد إن الدم أثقل في موازين إسلامي السلطة من الدين فإختار مفارقة الجماعة والإنتماء الي الوطن، وإنتبه (ودالمكي) محمد عثمان مكي قبل رحيله المبكر لضرورة الحوار مع جون قرنق ونكص بعض صحبه من بعده وإستقام آخرين.
في مؤتمر القضايا المصيرية كادت الحركة السياسية أن تصل الي الضفة الآخرى سوى إنها أمتلكت الفكرة ولم تمتلك الأليات.
دكتور حسن مكي في إنتباهة بصيرة قال إن السودانيين الداعشيين المشاركين في غزوات الخارج ربما حكموا السودان حينما يعودون الي الداخل يوماً، ليس بالضرورة إنه قد عنى ذلك بالكامل لكنها فكرة لاتخلوا من زكاء مضاف إليها تربية أجهزة النظام لمحن داعش وصغارها بالداخل من عبدالحي يوسف ومحمد عبدالكريم والجزولي وماخفي أعظم وإن لم نتوخى الحرص ونغيير الموازين بقيام حلف مدني سياسي ثقافي جماهيري فربما وجدنا أنفسنا جميعاً أيتام في موائد اللئام.
في خاتمة المطاف وردة وتحية لحاجة العازة محمد عبدالله أول إمرأة خرجت في تظاهرة في العمل السياسي الحديث، والمرأة التي قادت الرسن وهتفت بحياة الوطن، ووردة على قبر عبيد حاج الأمين وصالح عبدالقادر والمطبعجي وزملاءهم الذين أحدثوا القطيعة بينهم وبين إرث تجارة الرقيق ولم يترددوا في السير خلف الزعيم علي عبداللطيف على درب المواطنة بلا تمييز ونحن مطالبين اليوم بإستكمال مشوارهم في أكثر أزمنة بلادنا دقة وحرجاً، وعجيب أمر عبيدحاج الأمين الذي توسد ثرى مدينة واو جنوباً عنوناً للإرتباط الأبدي بين الشمال والجنوب بينما توسد صديقه علي عبداللطيف ثرى القاهرة شمالاً وتوسد عبدالفضيل الماظ ثرى الخرطوم والحاكمية كانت دائماً للنيل. وردة آخرى لشهداء الكفاح المسلح الباحثين عن المواطنة بلاتمييز، وآخرى لكآفة الشهداء، وقرنفلة ووردة لشهداء سبتمبر – أكتوبر 2013م الذين أحييوا جذوة الأمل بعد طول غياب إليهم جميعاً سارة عبدالباقي والسنهوري ومحي الدين وهزاع والهادي جابر، الي الريف والمدن التي أنجبتهم من نيالا وكجبار وبورتسودان ومدني والخرطوم، وردة للمقاومين في لقاوة والحلفاية وبرى والشجرة والحماداب، وسنكون يوماً مانريد.
في الختام كلمة وقصيدة لسيدي ومولاي الحاج مالك الشيباز الي مالكوم أكس أقول بعد خمسين عاماً من رحيلك فإنك لم تتخلف عن الحضور في كآفة قضايا الحقوق المدنية مازلت تشغل مقعدك بعد إنهمار الرصاص على جسدك وها أنت بكامل أناقتك في فرغسون ودائم الحضور تحفك باقات الزهور من محبيك الكثر ومن دواعي سروري وشرفي أن أوقع إسمي في دفتر محبتك.
الي سيدي ومولاي الحاج مالك الشيباز:-
لا تسقط الصور الجميلة بالتقادم
إليك مضرجا بالشوق وبالحنين ... الى عدل النبي
في عتمة الظلم الطويل
والأيادي الأثمات
في نهارات بروكلين
تكتب الموت والميلاد
والأذرع المرتجفة لك بالمرصاد
وجهك يضيء
صورك الانيقة تحتل شرايين الخيال
يا سيدي لا تسقط الصورة الجميلة بالتقادم
متدفقاً من السجن
نهر من عزيمة
وهدية للأيدي الطويلة
وحديثك العذب بوابات للحضور
يا سيدي الشيباز ضع يدك في جباهنا
إمسح عن أرواحنا غبار الحياة
أسمح لنا باخذ الصور ... في عصر الهواتف الذكية
وزع وسامتك على جميع الصور
أزرع إبتسامتك في حقول العابرين على مر العصور
شجرة العدل تنمو عند بوابات المواني
الحياة غمضة رمش
والكون يدور ملايين السنين
يا سيدي الشيباز
ضع كفك في جبيني ... يذهب الشح وتمتليء العروق
خذني جنديا معك
في رحلتي الأخيرة إلى نيويورك
بحثت عنك في ميدان الفراولة
وجدتك تعزف الجيتار مع فرقة الخنافس
معانقا جون لينون
يا سيدي علّمنا مرة أخرى أخذ الصورة الوسيمة عبر الزمن
في رحلتي الأخيرة
عند هارلم
لمست خطوك الواثق في شوارعها
وجدت إسمك مكتوب بالطين في كراسة الروايات الحزينة
وأنت تملىء ذكريات مولدك على ألكس هيلي عند زخات الرصاص
ووجهك باذخاً ...
وقلت لي في الموت الحياة
وفي الذهاب الحضور
ولم تكترث لأخبار الصباح
ومحطات المساء
أنت تعلم أن رسمك منقوش على رمل الحياة
في سقف البيوت
ووجبة لجوعى الحارات ،،، ماء ومساء
لكنك تعجلت الخطو وحديثنا لم يكتمل
بحثت عنك في كل المدينة
لم أذهب الى منهاتن
فلن أجدك هناك
ذهبت الى فنار الميناء قبل بزوغ الفجر
أكدوا لي مجيئك ... ولو بعد طول غياب.
ياسر عرمان
اكتوبر 2014م
نهاية
"50" عاماً على إغتياله مالكوم أكس نكهة الستينيات وعطرها أهمية بناء تحالف سوداني جديد للحقوق المدنية والسياسية والثقافية


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.