إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    طباخ لجنة التسيير جاب ضقلها بكركب!    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    نائب وزير الخارجية الروسي من بورتسودان: مجلس السيادة يمثل الشعب السوداني وجمهورية السودان    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    الانتفاضات الطلابية مجدداً    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أزمة التطور السوداني: نظره مختلفه .... تلخيص وتقديم جعفرأبكر علي
نشر في سودانيل يوم 28 - 12 - 2009

الديموقراطية تفشل في السودان بسبب الغياب التاريخي للاساس التنويري والاستناري الذي تستند إليه.
اليسار السوداني هيّمن علي الفضاء الثقافي فيما بعد الاستقلال فحرم الديمقراطية من التطور.
الجماعات السياسية والعسكرية والتيارات التي تفكر دوما في الحلول الانقلابية وتجاوز وحرق المراحل ما كان لها ان تنمو وتحول تفكيرها وميولها وتوجهها السياسي نحو الانقلاب لو ان المجتمع نفسه فيه القدر الكافي من المصدات والردع بما يمنع التفكير الانقلابي.
تبخر الرصيد الاستناري في المجتمع وتفتتت القطاعات الحديثه وساد وسطها نوع من التدين الخام وإكتسب التدهور ميكانيكية ذاتية للتوسع.
هناك مخرج من الازمة يعتمد علي اسلوب جديد لعمل المعارضة. يتطلّب منها العمل داخل المجتمع بجانب الاساليب التقليدية للمعارضة.
ملخص للندوة التي قدمها الاستاذ عبد العزيز حسين الصاوي بمانشستر نوفمير 2009
ما أطرحه اليوم هو عبارة عن أفكار قيد الصنع وتأملات ومحاولة للفهم ، ولذلك أرحب بالتغذية الراجعة وسيكون ذلك ضروريا لمراجعة الطرح وتطويره. الجزء الاول من الموضوع ينظر في توصيف الازمة. عموما أعتقد ان هناك اتفاق في توصيف الوضع الذي نعيشه علي انه أزمة. أزمة حقيقية في تطور المجتمات والدولة السودانية وان الازمة آخذة في التفحل وأنها أصبحت تتشعب وتتمظهر في اشكال عديدة ومن أخطر تلك الاشكال نذكر تصاعد العنف في العلاقات الاجتماعية والجريمة في داخل المدن واتخاذها لاشكال بالغة في العنف بما في ذلك جرائم السطو العنيفة والتي عادة ما تكون مصحوبة بالقتل والتي غالبا ما يلاقي فيها الضحايا ابشع انواع القتل والعنف الجسماني وكذلك أحداث القتل داخل الجامعات ، في السابق كان طابعها سياسي في الاساس ، الآن يمكن ان تري القتل ناجما عن اختلافات في العلاقات الاجتماعية بين الطلاب . واذا اضفت الي ذلك العنف الديني علي شاكلة الاحداث الأخيرة في الجريف فان ذلك يدعونا لأن نشكك بقوة في المنحي النظري القائل بان المدينة هي المرشحة الاولي للمساهمة بشكل اساسي في قيادة عملية الخروج من الأزمة فتصبح المدينة هي الاخري مرشحة للانفجار.
قبل هذا وذاك نجد أزمة الحكم السياسي المتمثلة فيما يشار إليه عادة بتداول الحكم بين الانظمة المدنية والعسكرية. وهذا في حد ذاته ليس بالتوصيف الدقيق للازمة ، فسنوات إستقلال الدولة السودانية التي تعّدت الخمسين عاما هيَمن الحكم العسكري الشمولي علي أكثر من أربعين عاما منها وساد فيها الحكم المدني الديمقراطي لفترات قصيرة جدًا ، ولذلك ليس من الدقة في شيء القول بان هناك تداولا في الحكم بين النظم العسكرية والمدنية. فالوصف الأكثر دقة هو ان البلاد منذ استقلالها قد حُكمت حُكما عسكريا ذا طبيعة شمولية. وهذا مؤشر علي ان هناك اسباباً أعمق أدت الي ذلك وسنتطرق لها فيما يلي:
الازمة الاقتصادية فأبلغ ما يشير الي ما آلت اليه هو حقيقة إنخفاض متوسط عمر الانسان في السودان الي 45 عاما مقارنة ب75 عاما كما هو الحال هنا فى بريطانيا. وهناك بالطبع الاحصاءات التي تبَين مستويات الفقر هذا الي جانب الفضيحة المتمثلة في إضطرار النظام الحالي الي اللجوء مجددا الي صندوق النقد الدولي مما يبَين بوضوح خط اللاتنمية الذي وصلت نظام الجبهة القائم فهاهو يلجأ الي صندوق النقد الدولي رغم كثافة جهوده الاعلامية في الحديث انه حقق معدلات للنمو تتجاوز 7 في المائة.
وفي الجانب الثقافي نجد تدهور المستويات الثقافية وإنتشار فكر الخرافة حتي في أوساط المتعملين ، للحد الذي ادي الى انتهاج بعض الفئات المهنية المتقدمة الي اساليب الشعوذه والدجل والمحايا في تعاطيها مع مهنها ذات الطابع العلمي. فيقال ان هناك طبيبة لاقت حتفها كنتيجة لتعاملها مع المتشعوذين بحثا عن العلاج.
عدم قدرة نظم الحكم الديمقراطي علي الاستمرار والإستدامة يعتبر من أهم أشكال تمظهر الأزمة. هنالك بالطبع تفسيرات أخري عديدة تختلف بإختلاق المرتكزات الفكرية والسياسية. ومنها التفسير المعتمد علي النظر في الأساس الإجتماعي والطبقي وضعف تطوره التاريخي. هناك تفسيرات تقدمها عادة الاحزاب التقليدية والتي تعزو عدم استمرار الدمقراطية الي تدخل الجيش. ولكن أهم تلك التفسيرات وأكثرها رواجا في الوقت الراهن هو تفسير ما يمكن تسميته بمدرسة الهامش وهذا التفسير تتبناه الحركات الاقليمية والمسلحة وتري هذه المدرسة الازمة من وقائع انها أزمة صراع بين المركز والاطراف وأن طبيعة عملية التهميش والخلل التنموي فيما بين المركز والاطراف هو العامل الاساسي لانتفاء الاساس الذي يمكن ان تقوم عليه النظم الديمقراطية..
هذه لمحة سريعة عن ما يمكن تسميته الازمة السودانية. التفسيرات هذه تقدم تشخيصات ما لطبيعة الازمة ويمكن الأخذ بصحتها بتكاملها جمعيا لتقدم تفسيرا ما لظاهرة عدم استمرار الديمقراطية وللازمة العامة. ولكن استمرار الازمة واستدامتها وتفاقمها علي هذا النحو يعني ان هناك اسباب اخري وعوامل فاعلة وأكثر عمقا.
ما أود التقدم به في هذا المجال اليوم هو أن مشكلة الديمقراطية في السودان وكثير من دول العالم الثالث منبعها انها لم تتاح لها ظروف ان تنمو وتتطور علي النحو الذي نمت به في أروبا. فالديمقراطية في أوربا كانت نتاج ما يسمي بعصر التنوير والنهضة (Renaissance) أو (Enlightenment) في الفترة ما بين القرن السادس عشر الي القرن الثامن/التاسع عشر. وشهدت هذه الفترة ثلاث ظواهر متشابكة وهي الإصلاح الديني والثورة الصناعية ونشوء الطبقة البرجوازية. فالاصلاح الديني حدث في الكنيسة الكاثولوكية بدءاً بترجمة الإنجيل الي اللغة الالمانية وظهور مارتن لوثر كينج وحركة الاحتجاج البروتستانية (Protestantism) ويتشابك هذا مع نشوء الطبقة البرجوازية وفك الارتباط الوثيق الذي كان قائما بين الطبقات الاقطاعية والكنيسة الكاثوليكية والدولة فيما يسمي بنظام الحكم الالهي (Divine Rule) في الملكيات القديمة. وبصورة تدريجية أدي ذلك في نهاية الامر الي إتاحة الفرصة للديمقراطية. أما الظاهرة الثانية فهي الثورة الصناعية وكانت بريطانيا هي المجال الرئيس الذي حدثت فيه هذه التطورات وقيام الصناعة وظهور الطبقات البرجوازية والعمالية حيث قوية شوكت الطبقات البروجوزاية علي حساب الاقطاع ونظام الحكم الالهي مفسحا المجال لنموالديمقراطية كاحزاب وثقافة وإزدهارها كنظام للحكم واسلوب للحياة وسيادة الطبقة الوسطي. ورافقت هذه التطورات ومهد لها ظهور حركة التنوير وفلسفة أو فكر التنوير. وهنا نقف علي ثلاث مدارس فكرية لعبت دورا اساسيا في تهيئة الظروف لظهور عصر النهضة في أوربا والذي نبعت منه الديمراطية وتشّكل منها اساسها الفكري والثقافي . المدرسة الألمانية حيث نجد أسماء عمانويل كانت (Kant,Immanuel) وهيردر (Herder, Johann) وهناك مدرسة فرنسية فيها فولتير ومونتسكيو وجان جاك روسو وديكارت صاحب منهج الشك الفلسفي وفي انجلترا نري مدارس وفلسفات العدل الاجتماعي ولأن انجلترا شهدت نموا وتراكما في الثورة ظهرت هذه المدارس والفلسفات الاجتماعية لمدارس الفكر الاشتراكي المثالي وظور اسماء كروبرت اوين وخلافه من شخصيات حركة التونير المعروفة.
هذا هو الاطار الذي ظهرت عليه الديمقراطية كثقافة وكمؤسسات في أوربا وشكلت الاُسس التي بُنيت عليها الديمقراطية وارست قواعدها كنظام للحياة كثقافة وكأحزاب ومنظمات مجتمع مدني. هذا في أوربا ، أما في السودان وفي كثير من دول العالم الثالث فلم تنبع الديمقراطية كنتيجة للتطور من هذا الشكل ، وفي الواقع ان الديمقراطية جاءت مربوطة بالزحف والمشروع الكولينيالي علي أفريقيا ودول العالم العربي. فلذلك نزعم بان الاساس الموضوعي والتاريخي للديمقراطية كان ضعيفا. فالادارة الاستعمارية في السودان كانت بحاجة الي خلق اجهزة تسهل عليها مهمة النهب الكولينيالي ولذلك قامت بانشاء اجهزة للادارة ونظم للتعليم تسهل لها مهمتمها فكان انشاء النظام التعليمي وكلية غردون والاجهزة التي خلقها المستعمر كمشروع الجزيرة والجهاز الاداري للدولة والسكة حديد والجيش هي التي وفرت القدر الكافي من الاشعاع والاوساط المتعلمة تركزت حولها فكرة الديمقراطية كممارسة ووسيلة ممكنة لتنظيم العمل السياسي والممارسة السياسية والحياة.
بجانب الاشعاع التنويري الذي جاء مرتبطا بجهاز الدولة الاستعمارية كان هناك التأثير المرتبط بفكر التنوير والنهضة القادم من مصر. ففي مصر كان تأثير فكر النهضة والتنوير قويا ومبكرا نسبيا بفعل عوامل عديدة نذكر منها الحملة الفرنسية علي مصر أيام نابليون بونابرت والتي استمرت لثلاث سنوات ، وهناك إجماع علي ان الحملة الفرنسية عملت علي تحريك النظام السياسي المصري والمجتمع المصري بشكل كبير خاصة ان الاستعمار الفرنسي وقتها كان مبنيا علي أو واقعا تحت التأثير الفكرالتنويري والفكر النهضوي بشكل يختلف عن الاسس التي استعمروا عليها الجزائر فيما تلي ذلك. الفرنسيون قاموا بدراسة مصر ومن السهل ان نتذكر ان العلماء الفرنسيين المرافقين للحملة قاموا في تلك الفترة باكتشاف حجر رشيد وفك طلاسم اللغة الهيروغروفية مما فتح الحضارة المصرية برمتها للدراسة. ومن الامثلة ايضا نذكر انهم قاموا بانشاء النظام القانوني بمصر وأعمال اخري كالطباعة وغيرها من الاعمال التي ادت الي تحريك المجتمع المصري وادخال قدر كبير من الاستنارة والحراك الفكري مما هيأ لقدر اكبر من الانفتاح في مراحل لاحقة. تلي تلك الحقبة ظهور محمد علي باشا وكان هو بدوره شخصية غربية لابعد الحدود ، فبالرغم من انه كان شخصا متواضعا من حيث الخلفية التعليمية وأعتقد انه كان اميا وجنديا عاديا لا يجيد اللغة العربية الا انه كان مهتما بالتعليم حيث قام بارسال اعداد كبيرة من المصريين من ابناء العائلات الكبيرة الي ألمانيا وفرنسا للدراسة وقام كذلك باعمال أخري كنظام الري والقناطر الخيرية والتوسع في بناء الجيش. أدي ذلك في مجمله الي خلق تغييرات كبيرة في التركيبة الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع المصري مكّنت من تعميق الانفتاح الفكري والتنوير وإفعال الحراك داخل المجتمع المصري مما هيأ لمرحلة ثالثه من مراحل التنوير وإرهاصات النهضة وهنا أود ان أقف عند شخصية محددة وهي رفاعة الطهطاوي وكان شيخا اُبتعث الي فرنسا ليس للدراسة وانما للإشراف علي مجموعة من الطلاب وإذا به يتمكن في فترة قصيرة من تعّلم اللغة الفرنسية ودراسة وفهم المجتمع الفرنسي وعند عودته الي مصر قام بانشاء مدرسة للالسنيات وهي مدرسة خاصة بالترجمة وأنشأ جريدة وكانت هي الاولي في مصر وادخل تعليم النساء واصبح شخصية محورية في تاريخ التنوير ونهضة الفكر في مصر، وعلي خلاف ما كانت عليه شخصيات أخري كالشيخ محمد عبده الذين كان لهم اهتماما أكبر بالاصلاح الديني كان الشيخ رفاعة الطهطاوي مهتما بالاصلاح الثقافي والسياسي. تربطه علاقة بالسودان حيث عمل مديرا لمدرسة ببربروالتي نفي اليها بسبب المضايقات التي سببها للعائلة المالكة في مصر في ذلك الحين ولديه قصيدة مشهورة يُعرب فيها عن ضيقه من مشاهداته وحياته في المنفي في السودان. واحيانا ينتابني إحساس ان هناك رابطاً ما بين رفاعة الطهطاوي ورفاعة السودان التي ابتدر فيها التعليم في السودان الشيخ بابكر بدري الذي اعتقد انه عاش في مصر في فترة ما. ولكن هذا مجرد احساس ليس لدي اي اسانيد عليه. وكنتيجة لهذه التفاعلات التي انتظمت المجتمع المصري بسبب الحملة الفرنسية وظهور محمد علي باشا تهيأت الظروف المواتية لانطلاق العامل الثالث أوالفترة الثالثة لما يمكن ان نسميه عصر التنوير ووقوف مصر علي فترة توطد فيها الفكر الانفتاحي والتنوير والإستنارة الفكرية وظهور اعلام الفكر المعروفين وعلي رأسهم شخصيات كطه حسين الذي طرح المسألة الدينية بشكل مختلف فيه إعمال أكبر للفكر العقلاني وتطبيق لمناهج البحث الاوربية كمنهج الشك الديكارتي وشخصيات اخري كأحمد لطفي السيد والمعروف بأبو اللبرالية بمصر وعلي عبد الرزاق وله كتابه المعروف عن الخلافة الاسلامية ، وبدرجة أقل محمد حسين هيكل وهذا الاخير رغم إرتباطه بدرجة أقل بتلك الفترة وشخصياتها المعروفة التي ذكرناها ، الا ان اهميته بالنسبة للسودانيين الدراسين لارهاصات النهضة بالسودان تكمن في ارتباطه بشخصية سودانية أعتقد انها لها دور محوري في بزوق بدايات فكر النهضة والتنوير بالسودان وهو الأديب معاوية محمد نور.
وكان لهذا الحراك الذي شهدته مصر في تلك الفترة تأثيرا مباشرا علي السودان حيث كانت مصر هي المصدر الذي يتلقي منه المتعلمون في السودان الكتابات الصحفية والتعليم وغيرها من وسائط المعرفة بجانب الاتصال المباشر والتنقل بين البلدين. فهذا التأثير المباشر القادم من مصر الي جانب المناخ الذي خلقه الحضور البريطاني في السودان أو ما يمكن ان نسميه الوجه الآخر للاستعمار، خلق هذا ما يمكن ان نسميه بدايات أو إرهاصات عصر التنوير في السودان. كانت هذه بدايات وكانت ضعيفة بطبيعة الحال. غمور واهمال شخص كمعاوية محمد نور هو في حد ذاته يعتبر دليلا علي ضمور وضعف تلك البدايات. فمعاوية محمد نور كان علي درجة كبيرة من الاستنارة علي رغم من انه من عائلة امدرمانية عادية ، فقد كان له فهما نقديا وإستيعابا متقدما لتيارات الفكر والثقافة الاوربية وقد كان متقدما في فهمه لهذه التيارات حتي بالمقارنة مع رصفائه المصرين وكان علي علاقة باعلام الفكر والثقافة بمصر ودارت بينه وبين طه حسين والعقاد حوارات كان له في كثير من الاحيان الاسهام الأكبر. كان موسوعيا وأعتقد ان القصة كانت الجانب الاقل في كتابته لانه كان في إعتقادي مفكرا أكثر من كونه اديب والمحاولات الادبية قصد منها إقحام مناهج متقدمة كمنهج الشك الديكارتي والعقلانية أكثر من كونها كتابات ادبية محضة. ولكننا لا نجد ان معاوية محمد نور له المكانة والشهرة مقارنة برصفائه السياسين من أمثال محمد أحمد محجوب ، وذلك انعكاس لضعف الاساس الفكري والتنوري في المجتمع السوداني. وأري ان ضعف الاساس التنويري في المجتمع السوداني هو السبب الرئيس في ضعف القاعدة التنويرية التي يمكن ان تنمو وتنبني عليها الديمقراطية في السودان. وهذا هو السبب وراء ظاهرة عدم استمرار الديمقراطية إذ انها لم تحظ بالحظ في التطور التاريخي والتجربة التي انبنت عليها في أوربا. ولا يعني ذلك ان من الشروط الضرورية لنجاح التجربة ان تمر بنفس المراحل والتجارب التي مرّت بها في أوربا ليضمن لها النجاح. أري انه من الممكن معالجة الخاصية هذه بالوسائل التي سأعرضها في يلي من حديث.
الجماعات السياسية والعسكرية والتيارات التي تفكر دوما في الحلول الانقلابية وتجاوز وحرق المراحل ما كان لها ان تنمو وتحول تفكيرها وميولها وتوجهها السياسي نحو الانقلاب لو ان المجتمع نفسه فيه القدر الكافي من المصدات والردع بما يمنع التفكير الانقلابي. فلو كانت النخب السودانية وهنا الحديث ليس عن عامة الناس فحسب ولكن النخب نفسها ، لو ان الديمقراطية كان لديها القدر الكافي من التركيز والحضور في اذهان هذه النخب لما انفتح المجال للتفكير الانقلابي في الاساس. ومن الملاحظات التي يمكن ان يسجلها أي ضابط في الجيش السوداني أن الناس العاديين وجيرانهم واقاربهم يبدأوا في حسهم علي الانقلاب علي نظام الحكم بمجرد وصول حكومة ديمقراطية مدنية منتخبة للحكم بأشهر قليلة. والتعبير الدارجي الشائع هو " ياأخي ما تقلبوها" وهذا انعكاس لسطحية الفهم للديمقراطية وعدم استيعابها وتمّثلها كثقافة وكنظام للحكم واسلوب للحياة في المجتمع السوداني.
الضعف الآخر ناجم عن الدور الذي لعبناه في اليساربشكل عام. ففي الفترة التي تلت نيل الاستقلال كان الجو العام علي المستوي المحلي والأقليمي والعالمي هو ضد الاستعمار ومع حركات التحرر وكان التيار اليساري هو الطاغي علي بقية التيارات. حتي أن الكثير من الرموز الحزبية من الاحزاب التقليدية كانوا قد مروا بفترات من حيواتهم قد وقعوا فيها تحت تأثير الفكر الاشتراكي. وكان طبيعيا في عصر التحلل من قيود الاستعمار وأغلاله ان يكون العداء علي اشده مصوبا ضد الاستعمار وفي اتجاه ان يبني المجتمع علي اسس العدالة الاجتماعية التي كانت تنشدها الاشتراكية. ففي اطار الجو العام وسيادة الفكر القائم علي حرق المراحل والتقسيم الحاد للمجتمع لرجعيين وتقدميين ، كان طبيعياً أن ينظر الي الديمقراطية كنظام مرتبط بالبرجوازية. والديمقراطية رغم تعريفاتها الكثيرة تعني في نهاية الامر الحرية والقدرة وتصحيح الذات. ويعني ذلك اتاحة المجال للتنظيمات والمؤسسات والجماعات لممارسة الديمقراطية بحرية وإكتساب خاصية تنظيم وتصحيح الذات. فمدرسة أبو روف كانت علي سبيل المثال مدرسة متقدمة في اطروحاتها وكانت منفتحة علي الفكر الاشتراكي ولكن من منطلقات ديمقراطية وكان يمكن ان تنمو وتساهم في تطور الديمقراطية ، ولكن تلخيصها في انها مرتبطة بالفئات الحضرية البرجوازية خاصة من قبل اليسار الذي هيمن علي الفضاء الثقافي حينها ربما ساهم في اندثارها في نهاية الامر. الحزب الاتحادي الديمقراطي كان يمكن ان يتطور ليكون مرتكزا أو حزبا للبرالية السودانية ، ولكن ذلك لم يحدث بسبب فعلنا كيساريين ، فقد هيمنا علي الجو الثقافي ونبذنا الديمقراطية باعتبارها ممارسة برجوازية. فالتطلع حينها كان لبناء المجتمع علي اساس اشتراكي تعلو فيه قيمة العدالة الاجتماعية فينظر بطبيعة الحال الي الديمقراطية البرجوازية علي انها تشكل خطرا علي التطلعات الاشتراكية. فلم يكن الحزب الشيوعي او الشيوعيين هم وحدهم المتبنيون للتوجهات هذه بل كانت هناك تيارات اخري تكاد تنتظم كل الاحزاب حتي الاسلاميين تشتد في داخلهم مثل هذه الافكار. فهذا التيار العريض لعب دورا اساسيا في اضعاف الاساس الديمقراطي علي ضعفه الموروث. فحدث الانقلابان. الاول يكاد يكون تسليما وتسّلماً ولربما كان ذلك تعبيرا عن القدر المتوفر من الوعي الديمقراطي وقتها. أما الانقلاب الثاني فقد كان بفعل اليسار والتأثر بالتجربة الناصرية. فنظام مايو قام بعد توليه السلطة بادخال بعد جديد لازمة الوعي الديمقراطي مما فتح الطريق أمام الازمة الحقيقية فيما يلي.
نظام مايو كان النظام الديكتاتوري الحقيقي. وكان له تأثيراً بالغاً علي النخبة السياسية السودانية. وخلق بلبلة أعمق في أوساط المثقفين السودانيين الذين وقفوا بين مؤيد وغير معترض في احسن الظروف وذلك لأن النظام طرح مبادئ وشعارات كان ينشدها كثير من المثقفين علي مختلف اتجاهاتهم. إختلف نظام انقلاب مايو عن الاول في ان كان له برنامج سياسي وكان معني بادخال تغييرات راديكالية علي المجتمع علي عكس الانقلاب الاول الذي وُوجه برفض يكاد يكون عاماً من قبل النخبة والذي لم يكن له برنامج للتغيير علي اي حال. كان لنظام مايو أثراً كبيراً. ففي المجال الاقتصادي بدأت الازمة مبكرا الي ان تفاقمت الي الحد الذي وصلت اليه في اواخر السبعينات.
التجربة المايوية ابتداءا من اوائل السبعينات أدخلت عنصرا جديدا ساهم بشكل اساسي في أنهاء مسيرة تطور الوعي الديمقراطي ونسف كافة بدايات النهضة والتنوير في السودان وذلك بالتدخل لأول مرة في نظام التعليم بالبلاد. علماً بان التعليم يمثل في واقع الأمر المكسب الحقيقي ويجّسد كل ما وصل اليه السودان من الاستعمار وما بعد الاستقلال وكان التعليم هو بمثابة المصدر الاساسي للتنوير والاشعاع الفكري في المجتمع ومصدر الفكر الحر المنفتح والديمقراطية والعقلانية وغيرها من المجالات التي يمكن ان تأتي بالجديد المفيد للبلد. و تكمن ايضاً خطورة التعليم في انه يمثل الاداة التي من خلالها يصبح التفاعل بين الفضاءات الفكرية والسياسية ممكنا فعندما تصبح الفضاءات العامة فقيرة وغير قادرة علي التفاعل مع مراكز الفكر والاستنارة الخارجية فسينعكس ذلك حتما علي الفضاء التعليمي. تدخل النظام المايوي في المناهج ونظام التعليم واصبحت المدارس مجالاً للمهرجانات وأناشيد مايو وكان ذلك بداية المحاولات لاخضاع النظام التعليمي للسلطة وشكل ذلك بدايات للتخريب الممنهج والذي اوصله النظام الشمولي الذي أعقب ذلك الي نهاياته المأساوية.
تأثير الحركة الاسلامية السودانية كاد أن يكون محصورا في المجال الطلابي حتي السبعينات ، بينما كان لليسار إمتداداً أوسع في القطاعات الحديثة والمكونات المهنية وفي الفضاءات الثقافية والفنية. جاءت بداية التدخل في النظام التعليمي والتلاعب بالمناهج التعليمية والتدهور فى المستويات التعليمية نفسها مصحوبة بعوامل اخري شديدة الأثر منها الازمة الاقتصادية ، ونعلم انه كلما اشتدت وطأة وضنك الحياة المعيشية كلما إزدادت الميول الي التدين والاهتمام بالناحية الدينة كما هو متوقع في مجتمع تقليدي بطبيعة حاله. هناك عامل آخر وهو التأثر بما انتظم المحيط الاقليمي في تلك الفترة إشتداد في التيارات الاسلامية وإستفحال دورها. نضيف الي ذلك خروج عدد كبير من الاسلاميين السودانين الي السعودية والخليج العربي مما ساهم في دعم علاقاتهم الخارجية ورصيدهم الاقتصادي حيث تراكمت لديهم الثروة. هذه العوامل مجتمعة مضاف اليها ما تحدثنا عنه آنفا حول ضعف رصيد الوعي الديمقراطي لغياب الخلفية التاريخية ومحدودية تأثير حركة النهضة القادمة من مصر، أدت كل هذه العوامل مجتمعة الي تبّخر الرصيد الإستناري وفقدان الحضور الذهني والوعي الديمقراطي في مناطق تواجدها وسط القطاعات الحديثة داخل المجتمع وفي وسط النخب المتعلمة نفسها واكتساب هذا التدهور لمياكنيكية ذاتية. مما أدي في نهاية الامر الي ان تنتظم هذه القطاعات والتي كان يشار اليها كقطاعات حديثة حالة من التديّن الخام القائم علي عدم إعمال الذهن والاستناد كليا علي التفسير الحرفي للدين. وبحلول الثمانينات كانت الحركة الاسلامية هي الحزب الرئيسي وما حدث في دائرة الصحافة حينما اجتمعت كافة تنظيمات القوي السياسية لإسقاط الترابي وحتي المرشح الذي اتفق عليه ابدي في نهاية الامر مساندته للبرنامج الاسلامي.
هذه هي الازمة فما المخرج؟ لست من اليائيسين ومن رأيي ان هناك معالجات. وما سأطرحه بهذا الخصوص ربما يكون مثيراً للجدل وقد لا يجد قبول خاصة ان أطروحاتي تتم وسط وتنطلق من واقع معارضة لنظام الجبهة والمؤتمر في السودان. أري أن هناك ثلاثة مخارج للأزمة وهي اصلاح النظام التعليمي والمخرج الثاني هو إعتماد وتفعيل منظمات المدني كوسيلة لأحياء الممارسة الديمقراطية والمخرج الثالث هو التعامل مع القطاعات المستنيرة من الاسلاميين.
النظام التعليمي كما أشرنا فيما سبق تدهور بشكل مريع الي الحد الذي اصبح معه لا يلبي الاحتياجات الاعتيادية اليومية. وهناك ما يشير الي تململ حتي وسط الاسلاميين انفسهم مما آلت اليه المستويات التعليمية من فشل في تلبية إحتياجات سوق العمل والتوظيف. حتي وزير التربية الحالى كان في بداية الامر يتحدث عن النواحي الفنية في المجال ولكن في الفترة الاخيرة أبدي ضيقه مما آل اليه الوضع التعليمي وحتي كثير من الاسلاميين بدأ ينتابهم الشعور ان التعليم بحاله هذا لا يساعد أبناءهم في إقتحام سوق العمل وأيجاد الوظائف لهم. فمن رأيي أن هناك مجال للمعارضة للعمل في هذه الناحية ومحاولة دراسة الموضوع وطرحه عن طريق الوسائل المتاحة والتي قد تكون محدودة ولكن مطلوبة ويمكن تكثيف النشاط بشأنها. أعتقد ان الغرب ومنذ ادارة كلينتون أصبح لديه اهتمام اكبر بهذه النواحي ويمكن استقصاء هذه الامكانية رغم حساسية الامر. العلاقة مع الغرب اصبحت مجالا لإثارة العواطف والتجييش السياسي الديماجوجي في السودان تأثرا بالمنطقة العربية للربط الذي يحدث عادة بين الغرب والقضية الفلسطينية والنظام في السودان في محاولته لعزل نفسه واغلاقها من التأثيرات القادمة من الغرب لعب علي هذه الناحية واصبح الحديث السائد محصورا فيما يسموه بالاستكبار، ولكن من الممكن ادارة العلاقة مع الغرب بنضوج وذكاء ومن منطلق المصلحة الوطنية. هناك نماذج في أفريقيا في ليبيريا وسراليون وساحل العاج وجلها من الدول التي عانت من ويلات التفكك والحرب الاهلية ولكنها في الفترة الاخيرة استطاعت ان تدير علاقاتها بالغرب بذكاء وبالقدر الذي أتاح لها الاستفادة من تللك العلاقة وتوجيهها نحو حلحلة قضاياها المتعلقة بالحكم والامن والاقتصاد والحريات. وهناك الكثير من دول المنطقة العربية ممن تمكنوا من الاستفادة بشكل كبير من العلاقات مع الغرب ووجهوها لاغراضهم الوطنية. وهكذا يمكن استقصاء إمكانية الاستفادة من الغرب في المحاولة لاصلاح النظام التعليمي بالسودان. فهناك بصفة عامة مجالات وارضيات مشتركة في داخل السودان وخارجه للعمل نحو اصلاح النظام التعليمي بالبلاد.
المخرج الثاني هو منظمات المجتمع المدني هيئاته وجمعياته التي تدير مجالات مختلفة علي اسس في غالبها ديمقرطية حيث تتوفر فيها اسس المحاسبة الدورية وعادة تتوفر فيها مكاشفة وشفافيه أكبر من تلك التي توفرها الاحزاب ، وهي بذلك تكون مدارس أفضل لتعّلم الممارسة الديمقراطية مقارنة بالأحزاب نفسها. هذه المنظمات لديها ميزانيات وتكون خاضعة للمحاسبة الدورية من قبل أعضائها وفي الغالب هناك تداول في إدارتها بين أعضائها. فهناك إمكانية لان تستفيد المعارضة من هذه الخاصية بان تبعدها من التأثير السياسي وتدعم الممارسة الديمقراطية داخلها وان تكون المعايير الذاتية والخصائص المحددة هي الاساس للمارسة داخلها بدلاً من الاعتبارات السياسية. وبطبيعة الحال نسبة لتعدد منابر منظمات المجتع المدني فسيكون هناك حتما تلامساً بينها والنظام السياسي القائم ولكن يجب ان لا يكون ذلك مأخذا عليها وأعني بذلك ان المنظمة أو الجمعية التي تعمل في مجال التعليم علي سبيل المثال ستجد نفسها في بعض الاحيان عاملة الي جانب الادارة الحكومية في المجال التعليمي ، وهذه ليست بالضرورة خاصية سلبية ، بل يمكن الالتفاف نحوها وتسخيرها لمصلحة المشروع. وأنا مقدر جدا لان العمل في المعارضة علي هذه الاسس يعتبر شيئاً غريباً وجديدا لان الوسائل التقليدية لعملنا كمعارضة قائم علي المواجهة واما النصر أو لاشيء. فهذه مجالات للمعارضة السياسية علي اسس مختلفة وتبقي المعارضة ومحاولة اسقاط النظام بالوسائل التقليدية مجالاً مفتوحاً.
المخرج الثالث وهو لا شك الاكثر إثارة للجدل وهو التعامل مع قطاعات معينة من الاسلاميين. الاساس الذي يقوم عليه هذا الاقتراح هو اقرارنا بان التدهور الذي اصاب التعليم كان تدهورا كارثيا واصبحت المدارس والكم الهائل من الجامعات التي تم تأسيسها تخرج اجيال هي أبعد ما تكون عن مصادر الفكر الحر والاستنارة والعقلانية. الفئة الوحيدة التي اتيحت لها فرص التعليم بالمستوي الذي يتيح لها الوقوف علي الأفكار الحديثة المتعلقة بالحداثة والعقلانية والفكر المنفتح هي فئات أبناء الاسلاميين أنفسهم ، فابنائهم تلقوا التعليم في المدارس الخاصة وفي أروبا وأمريكا وتعلموا اللغات الاجنبية ولديهم امكانية الوصول الي مصادر الفكر والمعرفة والانترنت وهذه مفارقة لكون ابناء الاسلاميين هم اكثر الفئات تعرضا للتأثير التنويري والديمقراطية لانهم تلقّوا افضل انواع التعليم في الداخل والخارج ، مقارنة بمتلقي التعليم العام بالسودان الذين يجدون انفسهم خريجين لمدارس وجامعات دون ان يتمكنوا من اكتساب اي مهارات وقدرات في اللغات أو البحث أو امكانيات للوصول الي مصادر العلم والفكر الاستناري. وهو تعليم صالح لإخراج الدبابين والطلبان ومن هم علي استعداد نفسي لتفجير انفسهم لإيذاء الآخر المخالف في الرأي أكثر من كونه تعليما قادرا علي إخراج من هم علي قدر من التفتح والنظر النقدي والتفهم والمهنية وإعمال الذهن. فهناك قطاعات كبيرة وسط الاسلاميين علي قدر كبير من الانفتاح ولديهم استعداد للخوض في هذه المجالات. فأبناء الاسلاميين وكثير من الاسلاميين المنفتحين يتطلعون الي نماذج اسلامية أكثر إنفتاحاً كنموذج تركيا والنموذج الاسلامي في ماليزيا بدلاً من النماذج الإنغلاقية. وأعتقد ان النموذج السوداني يسبب كثير من الحرج لهذه الفئات وسط اهلهم وفي الخارج وهم يتطلعون الي النماذج المستنيرة ولكن المعارضة بشكلها التقليدي تقف حجر عثرة في انخراطهم ليس بالضرورة في العمل المباشر في المعارضة ضد النظام ولكن بالتأكيد بشكل يتيح الاستفادة من هذه الامكانية. وهناك مؤشرات الي وجود توجهات في المنطقة العربية لخلق نوع متقدم من التعليم كما هو الحال في قطر وحتي السعودية بانشاء الجامعة الجديدة التي يمكن ان تكون بمثابة ام اي تي المنطقة العربية.
هذه افكار ادري انها مثيرة للجدل ومن شأنها ان تجر للفرد الى بعض الاتهامات خاصة واننا نعمل في مجال المعارضة للنظام القائم بالسودان ، ولكن من رأيي انها تعمل علي معالجة الازمة من منابعها وتعمل علي تفكيك الاساس الموضوعي الذي يقوم عليه الاسلام السياسي كظاهرة فكرية وسياسية تتحول في نهاية الأمر الي احزاب وانظمة.
الاستاذ عبد العزيز الصاوي مفكر وناشط سياسي سوداني مقيم بلندن. وهو من مؤسسي حزب البعث العربي بالسوداني. تبدلت نظرته الان لقضايا البعث وتطور المجتمع السوداني. وهو يري نفسه الآن أكثر انفتاحا علي قضايا الشعوب السودانية وقضية الهوية السودانية. الأستاذ عبد العزيز يدين حزب البعث العراقي والذي كان يرتبط به حزبه في السودان ويري تناقضا فظاً في ان يدعو حزب البعث بالسودان الي الديموقراطية ويقدم الضحايا من أجلها ثم يصرف النظر عن الفظائع التي ساق اليها حزب العراقي الشعب العراقي بسبب الحروب والدمار والغياب التام لابسط حقوق الإنسان في العراق تحت النظام البعثي.
تخرج الاستاذ عبد العزيز الصاوي من جامعة الخرطوم 1964 ( أقتصاد ) وعمل في وزارتي الماليه والخارجيه وله عدد من المؤلفات نذكر منها:
- الثورة المهديه : مشروع رؤيه جديده ( بالاشتراك مع محمد علي جادين )
- ازمة المصير السوداني: مناقشات في التاريخ والمجتمع والسياسه ( مركز الدراسات السودانيه )
- حوارات الهويه والوحده الوطنيه ( مركز الدراسات السودانيه )
- مراجعات نقديه للحركة القومية ( دارالطليعه، بيروت )
في الفكر السياسي السوداني: ديموقراطيه بلا إستناره؟ ( مركز عبد الكريم ميرغني، تحت الطبع
قدم الاستاذ عبد العزير الصاوي هذه الندوة بعنوان: ازمة التطور السوداني : نظره مختلفه - في مدينة مانشستر البريطانية في 28 نوفمبر 2009 ضمن انشطة جمعية الثقافة السودانية بمانشستر
تلخيض وتقديم جعفر أبكر علي [email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.