تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    بالفيزياء والرياضيات والقياسات العقلية، الجيش السوداني أسطورة عسكرية    دبابيس ودالشريف    أسامة عبد الماجد: مُفضِّل في روسيا.. (10) ملاحظات    مناوي ل "المحقق": الفاشر ستكون مقبرة للدعم السريع وشرعنا في الجهود العسكرية لإزالة الحصار عنها    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    السودان يطلب عقد اجتماع عاجل لمجلس الأمن الدولي لمناقشة العدوان الإماراتي    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وزير العدل والأطباء .. بقلم: نبيل أديب عبدالله / المحامى
نشر في سودانيل يوم 07 - 02 - 2016

جاء في الأنباء أن السيد/ وزير العدل قد أصدر منشوراً بشأن الأخطاء الطبية، حسب ما جاء في صحيفة السوداني في عدد الخميس الموافق 04/02/2016م. وقد كثر الحديث عن هذا المنشور بالنسبة لأهمية الموضوع الذي يتناوله للرأي العام، و وهو ما جعله موضع تساؤل من الإعلاميين و من قبل الأشخاص العاديين. مسألة العلاج وهي مسألة بالإضافة لأهميتها لحق الحياة الدستوري، هي في حد ذاتها تشكل حقاً دستورياً جدير بالإلتفاف إليه، وتيسيره من جانب الدولة، وإحاطته بالضمانات القانونية التي تمنحه الفاعلية المطلوبة، خاصة وأنه حق يقتضي الحصول عليه، أن يتنازل من يتلقاه عن كثير من الحقوق بما في ذلك الحق في سلامة الجسم و الأعضاء. لذلك فقد عبر عن ذلك أحد أبطال فيلم (هاري بوتر) بقوله "الأطباء ؟ أتعني أولئك المخبولين الذين يقطعون أجساد الناس؟" ومن يقبل تقطيع أوصاله، يقبل ذلك لمنع ضرر أكبر و يتطلب أن يبذل الطبيب الذي أذن له بذلك التقطيع العناية اللازمة و الضرورية فيما يعمل حتى تتحقق النتيجة المرجوة.
أسارع فأقول أنني أكتب هذا المقال معتمداً علي ما ورد في صحيفة السوداني وهو ليس بالضرورة دقيق لأنه وضع تحت عنوان "تعديلات بقانون الإجراءات الجنائية حول الأخطاءالطبية" في حين أن متن الخبر لا يورد أي تعديل في القانون، بل عن منشور أصدره وزير العدل و لكني أرجو أن يكون ما جاء في متن الخبر صحيح .
إلزامية المنشور
أول ما يخطر علي البال في هذا الموضوع هو مدى إلزامية المنشور . مسألة المنشورات المتعلقة بالقوانين بدأت أيام الإستعمار بمنشورات درج علي إصدارها رئيس القضاء،ترشد القضاة إلي بعض القواعد الإجرائية في القوانين المدنية و الجنائية علي السواء،ولم يساور أحد آنذاك شك في شرعيتها لأن الحكم الإستعماري كان يقوم علي الغلبة،وليس علي تفويض السلطات من قبل الشعب . وقد كانت سلطتي القضاء والإدارة تختلطان بعضهما ببعض، وكان القضاء آنذاك يتولاه إداريون يعملون كمفتشي مراكز،و لم تكن لهم خبرة بالعمل القضائي، فكان السبب في تلك المنشورات هو أن ترشدهم لتطبيق الإجراءات علي النحو المقصود من التشريع. علي أن الإستقلال لم يغير في الأمر شيئاً، خاصة و أن دستور (ستنالي بيكر) الذي حكم الفترة الإنتقالية الأولى والنظام الديمقراطي الذي أعقب الإستقلال و عاد ليحكم فترتين إنتقاليتين لاحقتين بتغييرات طفيفة ل،م يكن يحفل كثيراً بالفصل بين السلطات تأثراً بالنظام الدستوري البريطانيالذي لم يلتفت لهذا الأمر إلا في عام 2005م حين أصدر قانون الإصلاحات الدستورية ليتماشى النظام البريطاني مع النظام الأوربي، وهو نفس العام الذي شهد صدور القانون الإنتقالي في السودان و الذي تبنى المبدأ الدستوري القاضي بالفصل بين السلطات.
وقد ثارت تساؤلات عديدة عن مدى دستورية المنشورات التي يصدرها رئيس القضاء،ومدى إلزاميتها للقضاة. وما يجعل هذه المنشورات موضع تساؤل هو الشك في أنها تتعارض مع إستقلال القضاء، فإستقلال القضاء يعني إستقلال القضاء كسلطة عن السلطات الأخرى في الدولة، ولكنه أيضا يعني إستقلال كل قاضي فيما يصدر من أحكام، و أوامر، والتي يجب أن يتوصل إليها بقناعته الشخصية، وفهمه الخاص للقانون،والذي لا يخضع فيه لرأي من هم أعلى منه في الدرجة، والذين لجب أن لا تكون لهم سلطةفي توجيه القاضي المختص إلا في حدود سلطتهم الإستئنافية، والتي لا تنشأ إلا عقبصدور القرار موضوع الإستئناف ولا تسبقه. ورغم أن القاضي يستعين بالسوابق القضائية و الفقه في تفسير المواد التي يطبقها، إلا أنه لا يجوز له أن يتبع فيما يتوصل إليه إلا لما يستقر في وجدانه هو، كقاض مكلف بإصدار قرار في المسألة المعروضة عليه.
بالنسبة للمنشورات الصادرة من وزير العدل فرغم أن العمل الذي تقوم به النيابات يشابه العمل القضائي، إلا أنه مختلف عنه، ومستقل عنه. فوكيل النيابة يتولى سلطة الإتهام التي يستمدها من وزير العدل الذي خصه القانون بسلطة الإتهام في المادة 6 فقرة 2 أ من قانون تنظيم وزارة العدل 83 يمنحه و يتبعونه بموجب المادة 133 من الدستور و بالتالي فإن إصدار منشور يوجه وكيل النيابة بإتباع إجراء معين يكون صحيحاً طالما أن التوجيه لا يخالف القانون .
ما هو المقصود من الأخطاء الطبية؟
موضوع المنشور هو الأخطاء الطبية أثناء مزاولة الأطباء للمهنة، والمعني بالطبع هو تلك الأخطاء التي توقع الأطباء تحت طائلة القانون الجنائي. لم يحمل الخبر تفسيراً للأخطاءالطبية، فلا ندري هل المقصود الأخطاء الطبية بمفهوم تقاليد المهنة و أعرافها، أم الأخطاء الطبية بالمعني الجنائي. فالأخطاء الطبية بالمعني المهني تشمل جرائم عمدية مثل الإجهاض المعاقب عليه بالمادة (135)، و القتل الرحيم وهو حين يساعد طبيب مريض يعاني آلام و لا أمل يرجي في شفائه في التخلص من حياته وهذه الحالة معاقب عليها بموجب المادة (131 2 ه). و الجريمتان المشار إليهما هما جريمتان عمديتان بمعني أن الطبيب يقصد الفعل الذي سبب الإجهاض أو الوفاة، و يقصد النتيجة الإجرامية، وبالتالي فالجريمة لم تقع بخطأ من الطبيب، فالخطأ بالنسبة للقانون الجنائي ينفي العمد. و لكن الفعل الذي قام به الطبيب يشكل خطأ بالنسب لتقاليد المهنة و أعرافها، في حين أن الخطأ الطبي الذي تتحدد به المسئولية الجنائية هو الإهمال الذي يرتكبه الطبيب أثناء علاج مريض كأن ينسي أداة في جوفه أو يهمل في تنظيف الجرح أو يعطيه دواء متفق علي أنه لا يعالج حالته أو يسوئها وغير ذلك من الأخطاء
في غير الأحوال التي تمارس فيها المهنة
رغم أن هنالك من الناحية النظرية خلاف بين الإثنين، إلا أنه من الناحية العملية فإن الجريمتين العمديتين يدخلان ضمن الجرائم التي يجوز إطلاق السراح فيها بالضمان. ولذلك فإن تفسير المنشور يجب أن يشمل الجريمتين أيضاً. وليس السبب في ذلك أي سبب متصل بالجريمة في حد ذاتها ولكن بسبب أن الإفراج عن الطبيب بالتعهد الشخصي أو الكفالة بالنسبة للجريمتين هو حق قانوني للطبيب المتهم حسبما سنشرح في موضع آخر من المقال. هنالك إشكال أخر فيما يتعلق بما رشح عن المنشور وهي جملة " وإستثناء الإجراءات والمخالفات والجرائم التي ترتكب من قبل الأطباء في غير الأحوال التي تمارس فيها المهنة " وقد يفهم من هذه الجملة أن معاملة الأطباء علي هذا النحو لا تعود لمكانة خاصة يحتلها الأطباء في المجتمع، ولا تمييزاً لهم عن من عداهم، ولكن بالنسبة لأنها أخطاء إرتكبت في حق أشخاص أثناء محاولة مساعدتهم، ولا أعتقد أن هذا ما يقصده المنشور. فالباعث مهما كان نبله لا صلة له بالجريمة ولا بالإجراءات المتخذة في التحري فيها. واقع الأمر أن الحاجة للمنشور تفرضه مسألتين الأولي متعلقة بالبينات المتطلبة للتحري في أن بعض الجرائم يتطلب تبين الإشتباه في وقوعها دراية خاصة وخبرة فنية. والثانية متعلقة بالحق في إطلاق السراح باللضمان.بالنسبة للمسألة الأولي فإن حالة الطبيب لا تختلف عن حالة المهندس مثلاً، فالإدعاء بوقوع وفاة بسبب الإهمال، لا يختلف عن الإدعاء بوقوع وفاة بسبب الإهمال الهندسي، ففي الحالتين يتطلب تكوين عقيدة حول وجود شبهة في وقوع جريمة معرفة فنية لا تتوفر لوكيل النيابة ولا للشرطة. وحتي لو توفرت تلك المعرفة الفنية فليس له أن يقرر في المسألة بما يعرفه هو. لأن الحقيقة القضائية، مختلفة عن الحقيقة في العالم الخارجي،فالقاضي لايحكم بعلمه الشخصي ولا بعلم وكيل النيابة، أو الشرطة، بل بما يتوفر أمامه من بينة مقبولة قانوناً. لذلك فإن مهمة وكيل النيابة هي جمع البينات المقبولة ووضعها أمام القاضي وهذة البينات تتطلب معرفة فنية يتوجب سماعها اولاً قبل القول بوجود إشتباه من عدمه وبدون ذلك لا يجوز فتح البلاغ. لذلك فإن التوجيه بإجراءتحري أولي ليس الغرض منه وضع الأطباء في طبقة أعلي من طبقة سائر المتهمين، بل هو ما يجب أن يتمتع به سائر المتهمين وهو أن تتكون لدي وكيل النيابة قناعة بوجود ما يدعو للإشتباه في وقوع جريمة وفي علاقة المشتبة به فيها. وهو ما يتوفر عادة نتيجة لأقوال الشاكي ولكنه لا يتوفر بالنسبة لإدعاء وقوع جريمة بسبب خطأ طبي، لأن معرفة ذلك حتي في هذة المرحلة الأولية يتطلب بينة فنية. ولما كان الإشتباه الجنائي في حد ذاته يؤثر سلبياً علي حرية وأمان الشخص المشتبة فيه فإن من الأولى أن لا يتم ذلك، إلا بعد الحصول علي بينة تضع أرضية معقولة للإشتباه في الشخص. إذا فالسبب في تعرض المنشور لحالة الطبيب هو أن تكون الجريمة يتطلب الكشف عن وقوعها معرفة فنية.
إشكالية الجرائم التي تستغل فيها المعرفة الطبية
بالنسبة للسبب الثاني وهو الإفراج بالضمان فإن هنالك مسألة تتعلق بالجريمة المنسوبة للمتهم والمنشور تواجهه صعوبة في حالة الطبيب الذي يستغل وضعه لإرتكاب جريمة عمدية علي درجة من الخطورة تجعل في إطلاق سراحه مخالفة للقانون. مثال ذلك حالة الطبيب الذي تكون له مصلحة في وفاة مريضه، لأنه قد أوصي له بمبلغ كبير من المال مثلاً أو لعلاقة عاطفية تربطه بزوجته أولأي سبب آخر فيقوم بأعطائه دواء يسبب وفاته. فهنا رغم أن الحالة هي حالة طبيب يمارس المهنة إلا أن الجريمة لا يجوز إطلاق السراح فيها بالتعهد الشخصي ولا بالضمان، وهذه المسألأة لا تزعجنيلأن مسألة إطلاق السراح بالضمان في واقع الأمر هي حق للمتهم وليس فقط للطبيب وفق القانون ووفق المعايير الدولية .
الجرائم التي لا يجوز الإفراج فيها بضمان
منع القانون الإفراج بالضمان فى الجرائم المعاقب عليها بالإعدام أو القطع حداً مقتفياً أثر القانون الإنجليزى فى القرن التاسع عشر و الذى لم يعد متسقاً مع الفقه الحديث الذى إستقر على أن حبس المتهم السابق للإدانة يجب أن يعامل بإعتباره إجراءاً إستثنائياً، يؤدى بالضرورة إلى إنتهاك حرية القبوض عليه الشخصية والإخلال بحقه في المحاكمة العادلة، لأن بقاء المقبوض عليه في الحراسة يمنعه من تحضير دفاعه، بحيث يلزم حصره فى أضيق الحدود. لذلك فقد عدلت القوانين الحديثة عن الإفتراض القانوني بأن المقبوض عليه بسبب إتهام يحتمل أن يحكم عليه بالإعدام يجب أن يبقى قيد الحجز لحين محاكمته ،وذلك في مقابل النظر لكل حالة على حدة، فلم يعد مجرد وجود ذلك الإتهام حاجزاً بين المقبوض عليه وبين الإفراج عنه بكفالة، وقد كان للقضاء الإنجليزى فضل الريادة فى ذلك فحتى قبل إلغاء عقوبة الإعدام ،سمح القضاء بإطلاق السراح بالضمان حتى في حالة المقبوض عليهم فى جريمة القتل العمد ، ومن أوائل القضايا التى أتخذت هذا المنحى قضية حكمت فى الثلاثينات من القرن الماضى، سمح فيها القاضي بالإفراج بالضمان عن إمرأة في ليدز متهمة بقتل ولدها الذى يعانى من عاهة عقلية والبالغ من العمر خمس سنوات لإعتقادها بأن السماء تطلب منها ذلك ،وذلك رغم أنه لم يكن هنالك إدعاء بأنها تعاني من مرض عقلي، وربما يكون السبب أن إحتمال الحكم عليها بالإعدام لم يكن وارداً في ذهن القاضي، وقد كثر إطلاق سراح المقبوض عليهم بجرائم القتل عقب صدور قانون القتل عام 1957م، وتظهر الإحصائية الجنائية في عام 1969م أنه من بين 287 متهم بالقتل في إنجلترا وويلز في ذلك العام تم الإفراج بالضمان عن 24 منهم .
الحق فى الإفراج بالضمان
مهد ذلك لقانون عام 1976م والذي جعلت المادة 4 منه الإفراج بالضمان حقاً للمقبوض عليهم ،وقد فسرت المحاكم الإنجليزية ذلك بوجود إفتراض لصالح الإفراج بالضمان ،وهذا يعني أن على الإتهام أن يثبت ضرورة الإبقاء على المقبوض عليه رهن الإحتجاز، و في حالة تساوي الإحتمالات يكون القرار لصالح الإفراج بالضمان ،كما ويعني أن الحق في الإفراج بالضمان لا يتوقف على طلبه فعلى القاضي أن يقرر في حق المقبوض عليه في الإفراج بالضمان حتى ولو لم يطلب منه ذلك، بل وحتى لو وافق على طلب الشرطة بتجديد حبسه ،لأن قبول المقبوض عليه للبقاء في الحراسة لا يلزم القاضي، والمعيار الوحيد هو ما إذا كان البقاء قيد الإحتجاز ضرورياً وفق القانون أم لا فإن لم يجده كذلك فإن عليه منح المقبوض عليه حقه ولو لم يطلبه .
وهذا لا يعنى أن حق المتهم فى الإفراج بالضمان هو حق مطلق فهو بالقطع ليس كذلك ،ولكن يعنى ذلك أن تحديد جرائم بعينها لا يجوز الإفراج فيها بالضمان لم يعد مقبولاً، وإن جاز للمحكمة وفق معايير معينة حرمان المقبوض عليهم بإرتكاب جرائم خطيرة من الإفراج بالضمان، إلا أنه في هذه الحالة على السلطات العامة أن تسرع في إجراءات التحري والمحاكمة بحيث لا تطول بدرجة تفتقد المعقولية أو تؤدي إلى توقيع عقاب على متهم لم تتم محاكمته بعد، وقد كنا تعرضنا لذلك تفصيلاً في الأسبوع الماضي وسقنا سوابق عديدة من محاكم حقوق الإنسان الإقليمية في أمريكا وأوربا وأفريقيا .
عدم جواز منع الإفراج بالضمان مسبقاً
عند تقديم مشوع قانون الإفراج لعام 98 فى إنجلترا كانت المادة 25 منه تمنع الإفراج بالضمان للمتهمين بجرائم القتل والإغتصاب متى ما كان لهم سوابق، وقد تم تحدى ذلك أمام لجنة حقوق الإنسان الأوروبية في دعوى كاباليرو ضد المملكة المتحدة، فقررت اللجنة أنه بغض النظر عن طبيعة الإتهام الذي يواجهه المقبوض عليه والعقوبة التي قد تترتب عليه، يجب أن يكون للمحكمة السلطة التقديرية في جميع الأحوال في أن تفحص كل الوقائع حتى تتوصل لقرار حول ما إذا كانت هنالك بالفعل حاجة حقيقية مبنية على المصلحة العامة تبرر عدم إحترام حق المقبوض عليه في الحرية، مع الأخذ في الإعتبار بإفتراض براءته . لذلك فإن رفض الإفراج عن المقبوض عليه فقط بسبب أنه معرض لإتهام معين يخرق حقه الدستوري في إحترام حقه في الحرية. وقد أقر المحامي العام الإنجليزى في أثناء نظر القانون أمام مجلس اللوردات ،بأنه مهما بلغت خطورة الجريمة فإن تقييد سلطة الشرطة والمحكمة في فحص حالات الإفراج بالضمان فيها لا يحقق العدالة . وقد أقرت حكومة المملكة المتحدة بعد ذلك لدى محكمة حقوق الإنسان الأوروبية بعدم صحة المادة، وبالتالي فقد تعدلت المادة لتعطي المحكمة سلطة النظر في الإفراج في كل الجرائم .
السماع الإختصامى و تجديد الحجز
إذا توصلنا لأن الإفراج بالضمان هو حق للمقبوض عليهم فإن ذلك يحتم أن يتبنى القانون إجراءات للتقرير فى تلك المسألة تحفظ ذلك الحق ،وهذا ما أغفله القانون السودانى تماما، فلم يحدد كيفية سماع البينات والدفوع بغرض التوصل لقرار حول الإفراج بضمان وهو ما نجم عنه خرق الحقوق الأساسية للمقبوض عليهم، والذين غالباً ما يتم تجديد حبسهم فى اليومية فى دقائق معدودة فى جلسة لا يحضرها المتهم ولا يخطر بها .
وقد إشترطت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية أن يسبق رفض الإفراج بالضمان سماعاً إختصامياً Adversarial ،ولكى يكون كذلك إشترطت أن تتوفر فيه عدة شروط أهمها المساواة في الأسلحة Equality of Arms ،والتي تعنى إتاحة فرصة متساوية للطرفين، وقد قررت المحكمة في دعوى نيكولوفا ضد بلغاريا أن إتاحة يومية التحري لمحامي الدفاع قبل يومين فقط من تاريخ الجلسة المحددة لسماع البينة حول الإفراج يخل بمبدأ المساواة في الفرص، لأن الإتهام لم يكشف عن المستندات التي يستند عليها في طلب رفض إطلاق السراح بالضمان، وقد قيل في دعوى R V. DPP, EXPARTE LEE الإنجليزية أنه يتوجب على وكلاء النيابة التحلي بالمسئولية التي تجعلهم واعين بالحاجة لأن يكشفوا للدفاع عن المعلومات والمستندات التي تساعده في دعواه بغرض إطلاق سراح المقبوض عليه بالضمان ،والتي تكون موجودة في السجلات. كم نحن بعيدين عن كل ذلك بالنسبة للفقه الحديث والذى يرى حتى القانون الإنجليزي قاصراً فى هذا الصدد و لا يوفر سماعاً إختصامياً في مسألة الإفراج بضمان، لأنه يجيز تقديم الطلبات وتدعيمها بشهادة بدون حلف اليمين، ولأنه لا يتيح مناقشة الشهود ة في كل الأحوال، كما و أن القضاء درج على إعتبار بينة الإتهام موثوق بها لأنها تؤخذ من السجلات الرسمية، في حين لا تحظى بينة الدفاع بهذه الثقة
حضور المقبوض عليه لإجراءات تجديد الحبس
وظهور المقبوض عليه بشخصه أو بواسطة ممثله القانوني عند التقرير في أمر تجديد الحبس هو ضمان مهم لا ينص عليه قانوننا و لا يكفى منشور رئيس القضاءالذى يلزم بذلك إذ أنه لا يُتبع في أغلب الدعاوي ،وقد منعت القوانين الحديثة كالمادة 128 (أ) من قانون 1980 الإنجليزية مثلاً تجديد الحبس غيابياً ،بمعنى ضرورة إتاحة الفرصة للمقبوض عليه أو محاميه في الظهور لدى طلب تجديد الحبس، والنظر في دفوعه وبيناته قبل إصدار الأمر، ورغم أن القانون في إنجلترا لم يكن قبل ذلك ينص على حق المقبوض عليه أن يحضر شخصياً أمام القاضي عند فحص الإفراج بالضمان إلا أن القضاة كانوا بشكل عام يتعاملون مع المسألة بإعتبار أنه من حق المقبوض عليه ذلك، ولذلك فإنه عندما يكون المقبوض عليه من النوع الذي قد يحدث فوضى في المحكمة فإن القضاة كانوا ينتقلون إليه في السجن لسماعه، كما كانوا يعلمون أن إتخاذ قرار بدون حضور المقبوض عليه شخصياً- ما لم يكن ذلك برضاه - يشكل سبباً لإلغاء القرار الصادر في الأمر .
وفقاً لقانون 1998 في إنجلترا، فإن المقبوض عليه يعتبر حاضراً الإجراءات إذ كان في السجن، وتم توصيله بالفيديو بقاعة المحكمة التي تتم فيها الإجراءات ،بحيث يمكنه أن يرى ويسمع ما يدور في المحكمة، ويمكن أيضاً لمن في المحكمة أن يروه ويسمعوه .
وقد ذهبت محكمة حقوق الإنسان الأوروبية إلى أنه ليس ضرورياً حضور المقبوض عليه شخصياً في السماع حول الإفراج بضمان طالما أنه ممثل بمحامي وبشرط أن يكون ذلك بإرادة المقبوض عليه وإن كانت قد حادت عن ذلك في دعوى سانسير ريسى ضد سويسرا حين دفع مقدم الطلب أنه مُنع من الحضور شخصياً، وأن ذلك قد حرمه من مراقبة أداء محاميه وتقديم طلبات شفاهية للمحكمة إذا دعت الحاجة لذلك، لم تر المحكمة في عدم حضور المدعى الجلسات الإفراج بالضمان في غيبة أي بينة عن معلومات المدعى القانونية ما أضر بقضية الدفاع ،وإن كانت أقرت المدعى على أن عدم إتاحة الفرصة له للرد كتابة على مذكرة وزارة الخارجية السويسرية يخل بمبدأ الأسلحة المتساوية ،و رأي المحكمة فى حضور المتهم مخالف لرأي نفس المحكمة في دعوى جروزينيس ضد ليتوانيا ،فقد ذكرت أن وجود المقبوض عليه شخصياً كان مهم لمساعدة محاميه في السماع بمده بالمعلومات اللازمة .لما كانتالمعايير المتعلقة بالإفراج بالضمان وتطبيقاتها فى قانون الإجراءات الجنائية مخالفة للدستور ولإلتزامات السودان الدولية فليس هنالك ما يدفعني لرفض ما جاء في المنشور.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.