الدعم السريع يعلن السيطرة على النهود    وزير التربية والتعليم بالشمالية يقدم التهنئة للطالبة اسراء اول الشهادة السودانية بمنطقة تنقاسي    سقطت مدينة النهود .. استباحتها مليشيات وعصابات التمرد    عقار: بعض العاملين مع الوزراء في بورتسودان اشتروا شقق في القاهرة وتركيا    عقوبة في نواكشوط… وصفعات في الداخل!    الهلال يواجه اسنيم في لقاء مؤجل    تكوين روابط محبي ومشجعي هلال كوستي بالخارج    عثمان ميرغني يكتب: هل رئيس الوزراء "كوز"؟    كم تبلغ ثروة لامين جمال؟    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء الشاشة نورهان نجيب تحتفل بزفافها على أنغام الفنان عثمان بشة وتدخل في وصلة رقص مؤثرة مع والدها    سلسلة تقارير .. جامعة ابن سينا .. حينما يتحول التعليم إلى سلعة للسمسرة    حين يُجيد العازف التطبيل... ينكسر اللحن    شاهد بالفيديو.. في مشهد نال إعجاب الجمهور والمتابعون.. شباب سعوديون يقفون لحظة رفع العلم السوداني بإحدى الفعاليات    أبوعركي البخيت الفَنان الذي يَحتفظ بشبابه في (حنجرته)    من رئاسة المحلية.. الناطق الرسمي باسم قوات الدعم السريع يعلن تحرير النهود (فيديو)    شاهد بالصور والفيديو.. بوصلة رقص مثيرة.. الفنانة هدى عربي تشعل حفل غنائي بالدوحة    تتسلل إلى الكبد.. "الملاريا الحبشية" ترعب السودانيين    إعلان نتيجة الشهادة السودانية الدفعة المؤجلة 2023 بنسبة نجاح عامة 69%    والد لامين يامال: لم تشاهدوا 10% من قدراته    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    ارتفاع التضخم في السودان    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في شأن" كتلة" حزيران: أو: هكذا اغتيل شيخ العلوم: للدكتور محمد عثمان الجعلي .. بقلم: أ.د. محمد عبدالله الريح
نشر في سودانيل يوم 18 - 02 - 2016


صبيحة الخامس من حزيران من عام 1967م حدث ما يلي:
في قهوة تكساس بسوق مدينة الخرطوم بحري السودانية تجمع البشر الذين تركوا أعمالهم.. اجتمع الناس من كل شاكلة ولون وقد توسطهم" فلفل القعدات" عبدالباقي" شيخ العلوم" ( أطلق عليه الاسم من باب التهكم سر تجار المدينة ولكنه كان به سعيدا..) كان ترزياً سيئاً لجهة الانضباط في المواعيد يقولون إذا اردت تفصيل جلباب لابنك ذي العشر سنين فالواجب أن تحتاط للأمر ولكسل شيخ العلوم.. عندما يريد الله وتسمح ظروفه سيكون ابنك في العشرين.. ما علينا كان الرجل سياسيا أميا خاويا ضيق الصدر كثير اللجاجة لجهلاء السوق.. كثير الاحترام والتبجيل للصفوة وحديثها المنمق، دخل عالم الخياطة لتدبير رزق العيال، كان شديد الاهتمام بالسياسة لا سيما الدولية منها.. شيخ العلوم كان كثير الاستماع للراديو.. انطباعي الي أبعد الحدود كثير الاستخدام للمعايير السودانية البحتة عند تقييمه لأحوال الدنيا..
كان يقول للجالسين حول ماكينة خياطتة" ماركة سنجر" العتيقة:" أسمع يازول حرم الرجالة انتهت مع بولقانين" الرئيس السوفيتي في منتصف الخمسينيات".. قالوا أداهم الإنذار ومسك ساعتو يعاين ليها وأيدو علي الصاروخ.. مامرت دقيقة إلا وناسك جوهر يسووا في الحي وووب.. ولاد ال(.....) وعزة الله في ملكو" كان هذا قسمه المفضل" الرجالة عندو وتقيف.. الزول تقول جدو عبدالله ود سعد".
صبيحة ذلك اليوم حمل شيخ العلوم المذياع.. لا لم يحمله وإنمااحتضنه بقوة.. كان المذياع يلهث لينقل لملايين العرب أحداث الساعة.. بين الفينة والأخرى يحدثهم عن آخر الإحصائيات لعدد طائرات العدو التي أسقطت.. عند كل إحصائية كان شرف" الكونج" يهلل ويكبر.. حسن" الكربيشين" استغل انشغال البشر بهول قيامة ذلك اليوم ليجلس في القهوة التي منع من ارتيادها زمناً طويلاً.. صاحب المقهى كان قد هدده بأنه إذا راه سيلقى به في السجن.. كان يتعوذ إذا رآه.. الكربشين كان بطبعه منحرفاً بذيئاً.. كانت جمهرة أهل السوق من البائعين والشارين تتحاشى الحديث معه دع عنك مضايقته أو التحرش به.. وجوده ذلك اليوم بالمقهى أزعج الحضور الذين تخوفوا منه بصفة عامة ومن لسانه بصفة أكثر تحديداً.. كان يظهر بعض الاحترام والتوقير المصطنع لشيخ العلوم.. الوحيد القادر على مواجته هو شرف الكونج.
الكربيشين ضرباً موجعاً وكاد أن يحدث به عاهة.. عندما حاول التوم الجرسون إبعاده قال له شيخ العلوم:" يا أخوانا اليوم دا يوم عيد العرب خلوا الراجل يفرح مع الناس".. لم يشأ التوم أن يحرج شيخ العلوم بطرده ولكنه قال في غير رضا:" عشان خاطرك أنت بس.. لكن ماتقول لي خلوا الراجل.. الراجل وينو؟ نعلك قاصد كربيشين السجم؟".. لم يرد الكربيشين ولكنه ظل يصيح ملصقاً كل كلمة نابية تعلمها طيلة ثلاثين عاماً في السوق بالإسرائيلين.. لم تكن في جلبابه البالي زرارة واحدة ولكن قلة حيلته لم تمنعه أن يتوعد العدو، لا سيما نسائه، بالويل والثبور وعظائم الأمور وبأشياء أخرى!!.. عندما أكثر من استخدام نابئ القول وجارحه في حق الإسرائيليين كان ظنه أن الجميع يودونه لو يستخدم المزيد من قاموسه ذاك لسبهم.. ولن علي غير ما توقع بدأ الحضور يتململون.. فجأة صاح فيه شرف الكونج:" وبعدين معاك يافاتيه أنت؟ أنت الليلة حكايتكشنو؟ لقيتها جبانة هايصة وزايطة وداير تشبع ردحى... الله يخيبك ويخيب ذاتك"... ساد الصمت المكان تحسباً لردة فعل الكربيشين الذي نظر الي الكونج شذراً وطافت بذهنه نتائج صدامه السابق معه وقال:" صحى والله العرق دساس... ما عارفك يهودي.. جاري وعارفك زي جوع بطني.. ومالك محموق من نبذي لليهود؟ يكون الوالد منهم يا خوي؟"... قال الكونج:" أسمع يا كربيشين وحاة أب غرة الفوق مسيدو( أب غرة بضم الغين هي كنية الشيخ العارف الواصل ود بدر وكانت هذه حليفته المفضلة) كلمة تاني زيادة أديك علقة زي بتاعة يومداك"... صاح فيهم شيخ العلوم:" كفاية يا ناس يا بجم.. الرجال يحاربوا وإنتو في الفارغة والمقدودة.. خلاص غور الاتنين.. داهية تاخدكم ".. قال الكربيشين:" هي كدى.. والله أكان ما عشان خاطرك انت يا شيخ العلوم أنا الزي شرف الكونج دا كنت وريتو المكشن بلا بصل.. بس( بكسر الباء)".. لم يرد شرف عليه وإنما استخدم أحد أصابعة ليومئ بحركة بذيئة.
عندما وصل عدد الطائرات التي أسقطت حسب إحصائية أحمد سعيد الي المائة اختلف الناس.. سأل عبدالله العربي شيخ العلوم عن عدد الطائرات التى تملكها إسرائيل، نهره شيخ العلوم بحسم:" ما تخلينا نتابع يا خينا.. أنتو الجرايد ما متابعنها ولا شنو؟ الواحد فيكم ما بعرف حاجة في الدنيا غير جكسا وماجد وفول كيسو وعرقي بخيتة بت الصعيد".. انفعل العربي ورد بعنف وعصبية:" يا راجل أوزن كلامك.. مالك ومال فول كيسو ثم تانيا دخلك شنو أشرب عرقي بت الصعيد ولا بت السافل.. مشتري لي أنت؟.. أما عجيبة والله وبعدين أنت اليوم داك ما قلت لي بي عضمة لسانك الفلقة دا عليك الله يا عبدالله إن لقيت" مقطوعة الطارى" حقتك عندها شيتن نضيف وبكري أتناول لي نصية" بضم النون أي نصف زجاجة" معاك والحساب ولد؟.. وقتين لحست النصية ولهفت كوارعي كلها وعملت حميل علي قريشاتي أنا سألتك؟ جاي أسع تتفاصح قدام الناس: بنت الصعيد وبت الجن الأحمر" عم الوجوم وساد صمت مريب المكان.. الكربيشين قال للعربي بخبث:" عاد وحاة أبوي كضبت في قصة شراب شيخ العلوم.. الراجل تايب ليهو عشرة سنين يا خوي".. ارتاح شيخ العلوم من دفاع الكربيشين ووجه حديثه للعربي بتهكم:" أنا بتاع عرقي يا جاهل.. عزة الله في ملكو الواحد فينا لما كان مبتلى كان ابتلاء جد ما خمج.. ابتلاء كبارات.. شى كورفوزير.. شى بيل دراي.. شى أبو جمل.. مش أي كلام.. قال عرقي قال.. زي الكلوب وزي جيم ايتش" شيخ العلوم يقصد الجي أم تش: اختصار صالة غردون للموسيقى بالانجليزية".. فجأة توقف شيخ العلوم ونظر للجالسين بازدراء وتعال.. تنهد وقال كمن يحدث نفسه:" يا شيخ العلوم تاعب رقبتك مالك.. مين يقرأ ومين يسمع في الوحوش ديل.. قال الجيم أتش.. أنتو لما جيتو الخرطوم دي ياعرب كانوا بربطوكم كل تلاتة مع بعض عشان ما تضيعوا ولما تشوفو العربية بتجروا منها زي الشفتوا ليكم أسد وكنتوابتتحصنوا من الموتر وركوبو بحسن ود حسونه وود الكباشي.. روح يا عربي شوف ليك غراب جزو.. عالم فقر يجيب الجلا".. كان سليمان" أبدرق" قد ترك مجلس شيخ العلوم عندما كان العدد قد وصل حسب احصائية صوت العرب إلى سبعين فاقبل مهرولاً متسائلا اها وصلنا كم كم يا اخوانا".. قال شيخ العلوم:" قفلنا مية لكن قطعاً الليلة الناس بتصلى المغرب في بيت المقدس بإذن واحد صمد".
بعد صلاة العشاء أقبل علي" الدعاية كذلك لحذاقته وفذلكته الزائدة) علي مجلس شيخ العلوم الذي لم يتركه منذ الصباح وقال لاحدهم بصوت خفيض ((يا خوي اظننا مصقوعين)) كان بين شيخ العلوم والدعايه اكثر مما صنع الحداد ..الدعايه نال شيئاً من التعليم كما ان درايته باسماء نجوم السنما العالميه اكسبته القدره علي توليف وتفليق اسماء اجنبية يستخدمها في السياسة مما يعطي حديثه تميزاا كبيرا لدى الدهماء..كانت لديه الجراءه ليقول لهم (انه لولا عبقرية ريتشاد ويد مارك الحربيه لانهزمت جيوش الحلفاء)..واذا تصادف ان كان بالمجلس احد الملمين باخبار السينما وقال له : لكن ريتشارد مارك دا ممثل )..فأن الدعايه يرد عليه بصلف وحسم )اسم علي اسم يا جاهل ))..كانت بين شيخ العلوم والدعايه منافسه حادة في انتزاع اهتمام مرتادي السوق والقهوه ..شرف الكونج كان يحب ان يراهما مشتبكين ..قال للدعايه ))وينك يا استاذ ؟الليله شيخ العلوم ما خلي حاجه انجليزيه ما حكاها لينا ))..
توجس شيخ العلوم خيفة وتشاغل بضبط مؤشر الراديو- واصل شرف الكونج حديثة قائلاً:" وكمان حكى لينا عن الجيتش" اجي أم تش".. قال الدعاية مخاطبا شيخ العلوم" لقيت الحرفاء( جمع حريف وهو الشخص الحاذق) مافي ... اظنك اتفسحت في الكيشة( الكيشة بتشديد الياء جمع كيشة وهو نقيض الحريف)... قال له شيخ العلوم:" والله في الدنيا دي كلها كيشة اكتر منك ما لاقاني".. قال الدعاية:" خلينا في المهم شنو قصة الجيتش دي؟".. تفادى شيخ العلوم قائلا:" اليوم ما يوم جي أتش اليوم يوم الرجال بانت.. الرجال قرضوا الصهاينة وأنت جاي تقول لينا مصقوعين".. قال الدعاية: طبعاً مصقوعين.. انفعل شيخ العلوم فصاح فيه هائجاً:" مصقوعين كيف يعني؟.. الصاقعة التهد بيتكم.. البنسمع فيهو من صباح الرحمن دا كلام إذاعة ولا كلام كلتوم المشاطة؟".. لم يأبه الدعاية وواصل حديثه بصوت أعلى وأكثر جراءة: أسمع يا خوي البي بي سي وانت حا تعرف.. قال العربي:" لكن يا اخوانا الببسي دا بسمعوا ولابشربوا انصرف الناس عن شيخ العلوم وانضموا لحلقة الدعاية.. غضب شيخ العلوم وحمل مذياعه وانصرف.. في صبيحة اليوم التالي شاهد الناس شيخ العلوم وهو يبكي بصوت مرتفع.. عندما لم يرد تحية الدعاية قال الكونج:" العوض علي الله في جلابية الشافع".. لقد علمت القهوة ومن ثم المدينة والبلاد والعالم أجمع أن" الصقر قد وقع".
عند منتصف نهار اليوم السادس من حزيران كانت كل المقاعد بمقهى تكساس ما تزال خالية من البشر.. التوم الجرسون انكفأ علي كرسي في احد الاركان.. عقب صلاة الظهر أقبل شرف الكونج وهو يلهث يتصبب منه العرق وصاح في التوم:" وين يا حاج صالح ( صاحب القهوة)؟".. قال له التوم:" الليلة ما جاي قال تعبان شوية.. وأردف قائلاً ومالك عرقان كدا إنشاء الله مافي عوجة؟".. قال شرف: عمك شيخ العلوم وقع قدام محله وسمعنا قالوا حصل ليه شلل.. ختفوهو علي المستشفي وقالوا الحالة خطر وربك يستر".. صاح التوم:" ياالكبااشي تلحقنا وتنجدنا.. طيب كدى اقيف انتظرني شوية خليني أقفل وامشى معاك الاستبالة".. علي عجل أغلق المحل واسرعا باتجاه المستشفي.. عند بوابة المستشفي شاهداً الكربيشين يتلوى علي الأرض وهو يبكي ويصيح:" الليلة يا خوي ويا غطاي".. عندما شاهد الكونج قادماً نهض من الأرض وجرى تجاهه.. احتضنه بقوة وأخذا في البكاء بصوت عال.. عبدالله العربي" تحزم" بعمامته وكان يبكي بحرقة شديدة وينادي:" مين لينا غيرك يا سيد الفضل والجود".. في ممر المستشفي وعند الغرفة التى سجي فيها جثمان شيخ العلوم احتشد أهل السوق وجيران الفقيد.. جماعة منهم كانوا يمسكون بالدعاية وهو يبكي كالطفل. في سرادق العزاء اجتمع أهل بحري: غنيهم وفقيرهم.. عالمهم وجاهلهم.. أهل الإخبات و" المطموسين".. حمائم المساجد وصقور" الأنادي" مشجعو التذكار والوحدة.. الأمير والتحرير.. الاتحاد والكوكب.. العامل والكفاح.. التعاون و" طسم".. كوبر والثريا.. جاء أصحاب" قعدات" البلدية و" الكمبوني".. جاء مرتادو الضرائح في عصريات الجمع.. كان هناك نصر الدين السيد وبابكر عباس.. الخلفاء: فضل الله الحسن ومحمد الحسن كانكيج وود طمبل ومحجوب محمد سعيد.. كان هناك عبدالقادر حاج السيد والرشيد ونصر الدين ابو شنب.. كان هناك شيخ اللازم وكبس والقرود..عبد العزيز داؤود والنور الجاك واسماعيل عبدالمعين وخضر بشير وحبيب الحسن واحمد ضربة.. كان هناك احمد العوض" صاحب التسالي" ومنعم عينو فوق، وعبدالرحمن الضرس ومحجوب ود أبكالوق.. كان هناك عثمان الحاج والجاك عجب وود النجل وأحمد دقدق والنذير الفكي ودولي.. كان هناك الأطرش ويس قلو والدقوري وبشير العوير.. كان هناك يوسف حسين وعباس علي وسعودي دراج.. كان هناك أب جيبين وأبو قمصان وعمر الحلبي وطلب عز الدين.. كان هناك محكوك وقصودة..عبدالعظيم حركة وأبو فارس وحسن وردي.. كان هناك حسن دبلوك وزرقان وحسن الطيب وجلال عبدالخير.. في طرف قصي من الصيوان جلس علي سعيد وصلاح دفع الله وعباس بسبس.. من الجانب المقابل جلس عبدالرحيم حاج عمر وعبدالله آدم والفاضل دراج.. كان هناك يحيي الشباب وود ابسوالف وجندي وحسن نجم.. كان هناك أولاد عبدالشهيد ورمسيس ورزق الله وأستاذ سعد الله.. كانوا رغم مسيحيتهم يرفعون أيديهم وكانهم يقرأون الفاتحة.. في ركن من السرادق قال حاج محمد زين لمولانا عوض الله صالح:" شيخ العلوم الله يرحمه الله كان عبداً مؤمناً وصديق.. طبعاً اليوم تم ما في شك لكن عليك الله الزمن دا في زول بصدق ليهو كلام إذاعة ولا كلام جرايد؟.. العالم دا كلو بى رأسمالو الكضب.. تلقى ود الريف الكان بلعلع قبال يومين دا أسع في أمانة الله متعشي وشرب شاهيهو البلبن.. ويمكن كمان يكون حلالو بي باسطة ول شي.. الله يرحمك يا شيخ العلوم قلبو كان رهيف وتعبان.. الصدمة كانت شديدة.. الله يرحمو ويغفر ليهو ويحسن اليهو.. غايتو نحن تاني السوق لينا ما ياهو السوق والسياسة ما ياها السياسة ووالله طعم الدنيا ذاتها ماش يتغير".
في ليلية" رفع الفراش" كان الدعاية في طريقه لبيت العزاء حين قابله محمد عبدالرحمن" كركبة" وقال له:" عبدالناصر استقال.. لم يعره الدعاية اهتمامه.. ظن انه لم يسمعه.. أسرع الخطي ولما لحق به قال له: قلت ليك عبد الناصر استقال.. صمت الدعاية طويلاً ثم قال دون كثير اكتراث:" عليك الله" خب" شوية علشان نلحق" الكشف" لأنو الجماعة برفعوا بعد المغرب طوالي".

(2)
نظرات في اغتيال شيخ العلوم: للدكتور محمد عبدالله الريّح
أجد متعة لا توصف عندما أقرأ نصا للاخ الأديب المجود الدكتور محمد عثمان الجعلي ولعل القراء ما زالوا يذكرون رائعته في جيل علي المك أو رحيل النوار خلسة والتي أتحف بها قراء جريدة الخرطوم والصحافة. وقد اطلعت عليها في نصها الكمل ولا أذكر أنني قد قرأت شيئاً مماثلاً منذ زمن بعيد.
لقد استطاع الدكتور الجعلي أن يقدم نصاً متكاملاً عميق الدلالات في رائعته" في شأن كتلة حزيران أو هكذا اغتيل شيخ العلوم". لقد تصدى الكتاب لمحنة حزيران أو نكسة حزيران1967م وكيف كانت أصداؤها وسط مجموعة من البشر يمثلون شريحة من شرائح المجتمع السوداني تماثل تلك الشرائح في كل البلدان العربية والتي تتشكل رؤيتها السياسية بناء على لغة الخطاب الإعلامي الذي ينهمر صباح ومساء من الراديو ومن البيانات الرسمية.
والفضاء الذي يتحرك في داخله النص هو في قهوة" تكساس: بالخرطوم بحري في صبيحة الخامس من يونيو( حزيران) 1967م والبلاغات الرسمية أو الخبرية تتوالي علي الإذاعة بصوت احمد سعيد وهو يورد عدد الطائرات الإسرائيلية التي يزعم أنها قد أسقطت فيشعل ذلك الحماس في تلك المجموعة من البشر الذين يتزعمهم" فلفل القعدات. عبدالقادر شيخ العلوم" كما يقول الكاتب الذي يصوره بأنه" كان ترزياً سيئاً لجهة الانضباط في المواعيد.. وسياسياً اميا هاويا ضيق الصدر كثير اللجاجة لجهلاء السوق.. كان كثير الاستماع للراديو وانطباعيا الي أبعد الحدود كثير الاستخدام للمعايير السودانية البحتة عن تقويمه لأحوال الدنيا".
وتصبح اللغة هي الوسيط الذي يربط أشخاص تلك المجموعة..فعندما يقول شيخ العلوم:
" اسمع يازول.. حرم الرجالة انتهت مع بولقانين( الرئيسي السوفيتي في منتصف الخمسينيات) لما الإنجليز والفرنسيين عملوا العدوان الثلاثي أداهم إنذار خمسة دقايق.. قالوا أداهم الإنذار ومسك ساعتو يعاين ليها وايدوا علي الصاروخ.. ما مرت دقيقة إلا وناسك جوهو يسووا في الحي ووب.. الزول تقول جدو عبدالله ود سعد".
وفي تلك المجموعات مثل هذا القول الذي يصدر من رجل هو" فلفل القعدات" كما يقول الكاتب يشكل لها تلك المعرفة اللاشعورية أو حسب المصطلع اللاشعور المعرفي الذي يحدد نظرة الشخص العادي الي الأحداث وهي تتشكل من حوله فتكون بالتالي رؤيته الى العالم والكون ويتحدد عنده مفهوم العدل المطلق والظلم المطلق والانتصار المطلق والهزيمة المطلقة وعندما تتطابق الهزيمة المطلقة. كما حدث في حزيران. مع الظلم المطلق.. من تلك البنية القاسية تتحدد ملامح العجز المطلق.. وأنه ليس بالإمكان عمل شئ.. ويصبح الإحباط فريضة علي صعيد الوعي القومي ولهذا يتكون ذالك الاطار المرجعي الواحد الذي يجمع شيخ العلوم وشرف الكونج والكربيشين وعلي الدعايه وعبد الله العسيلاتي والتوم الجرسون وحاج صالح صاحب المقهي وغيرهم ومن ثم يتكون ذلك الفكر الجماعي الذي يعلو ويهبط في مستوي انفعالاته وفقا لتطورات الاحداث ولهذا عندما تكسرت نكسه حزيران الي حزم متفرقه من المعطيات بقي زمانه يطارد المختزن في الذاكره الجماعيه العربيه ويطالب بالحد الادني من العمل المشترك لازاله اثار العدوان
والدكتور الجعلي يستحضر اشخاصه في بناء روائي محكم يدخل صراعهم محققا نوعا من الجدليه الروائيه العميقه الاغوار ويرسم شخصيه الكربيشين ببراعه فائقه فالكربيشين هونوع من الاقمشه الشعبيه الناعمه فهناك الدموريه والدبلان والكرب والساكوبيس ويعد الكربيشين ارقاها وانعمها وتلك النعومه التي لها دلالاتها علي شخصيه الكربيشين واشباهه
فالكربيشين يمثل ذالك الجزء المتراخي من المجتمع الذي تحكمه فوضىاخلاقيه محدده المعالم وهويعيش علي حافه القبول الاجتماعي كامر واقع يتم التعامل معه علي هذا الاساس وطول اللسان وفاحش القول الذي يتصف به يمثل عنده وعند شاكلته رد الفعل الحتمي لمواجهه عدوان المجتمع الذي يظهر عند بعض الافراد امثال شرف الكونج
ان جزئيات التناغم والتضاد التي يرسمها الكاتب داخل حوار الشخصيات يظهر ذالك التوتر الذي يدل علي حيوية تلك المجموعة البشريه وحتميةتعايشها المستمر لان ذالك التوتر هو الذي يجذبها الي بعضها والذي يختفي كليه عندما يسفط احد افراد المجموعه كما سقط شيخ العلوم من هزيمةحيزران
وماساه سقوط شيخ العلوم تمثل في الواقع سقوط امة كاملة ... لان الهزيمةجاءت بعد ارتفاع شاهق ((اسقاط مائه طائره في الخطاب الاعلامي))وعبدالقادر شيخ العلوم يصرخ ((قطعا الليله الناس بتصلي المغرب في بيت المقدس )) والاحساس بالهزيمة لايبقي علي السطح الا ريثما يغوص الي الاعماق ويبقي مادة ترسبيه من رسوبيات الاخفاق الجماعي الذي يطالعنا من وقت لاخر في شكل شعار ازالة اثار العدوان.
والهزيمة كالدواء المر الذي تتجرعه الشعوب مرغمة كما قال آية الله الخميني وهو يوافق علي وقف إطلاق النار مع العراق إيذايا بانتهاء الحرب العراقية. الإيرانية:" إنني أقبل وقف إطلاق النار وكانني أتجرع سماً" ولهذا عندما أقبل علي الدعاية بعد صلاة العشاء وقال لأحدهم بصوت خفيض" يا خوي أظننا مصقوعين" صاح الفنان علي الشريف في فيلم العصفور ليوسف شاهين وهو يستمع الي عبدالناصر يعلن استقالته: " يا دي المصيبة يا أولاد.. إحنا اتهزمنا".
ويكى الدكتور ناصر السيد في صالة سنت جورج بجامعة أدنبرا عندما كنا هناك النكسة وهو يستمع لسقوط الحلم العربي الذي لم يزدهر إلا سويعات.. وسقط الفنان صلاح جاهين في موجة من الاكتئاب قضت عليه.. وكذلك سقط عبدالقادر شيخ العلوم، فالهزيمة كانت أكبر من احتماله والكاتب يرتفع بالقارئ الي ما قبل القمة الإبداعية وهويذكر أسماء الذين جاءوا للعزاء وعليها " قدح" كل منهم.. فهذا يكمل الصورة ويضع لها اللمسات قبل الاخيرة ولكن القمة الإبداعية تأتي عندما قال محمد عبدالرحمن كركبة لعلي الدعاية:
عبدالناصر استقال...
فرد الدعاية قائلاً:
عليك الله خب شوية علشان نلحق الكشف لأنو الجماعة برفعوا بعد المغرب طوالي.
وللأخ الدكتور محمد عثمان الجعلي تحياتي فهذه خواطر سريعة لا تفي بحق النص الذي قدمه فمعذرة.

عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.