السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



بلد الأراضي المنخفضة .. بقلم: شوقى محى الدين أبوالريش
نشر في سودانيل يوم 25 - 04 - 2016

الأطفال يحبون السفر بل يعشقونه أكثر من الكبار، لكن السفر عندهم هو مجرد الجري في ردهات المطار، ركوب الطائرة، ربط الحزام، التلفاز، النزول في الفندق ثم شراء الألعاب والعودة. أما بالنسبة للكبار فالسفر في حد ذاته قطعة من نار جهنم لكن فوائده عديدة نختصرها في قول الإمام الشافعي، رحمه الله، فيه تفريج همٍّ واكتساب معيشة وعلم وآداب وصحبة ماجد.
ذكرت لكم هذه المقدمة بمناسبة تقدم العمر فأصبحنا الآن نسافر مرافقين لأولادنا وبناتنا ومعهم أحفادنا الصغار. فكما عودناهم على السفر في صغرهم لتسهيلات كانت لدينا آنذاك جاء الآن دورهم ليسافروا بصغارهم في إجازاتهم المدرسية ونحن معهم أينما ذهبوا نلوك في جاه الملوك.
الأسبوع الماضي كانت إجازة نصف العام الدراسي وكانت وجهتهم هذه المرة هولندا، تلك البلدة الساحرة التي يتبين لك سحرها وجمالها بمجرد أن تدخل بك الطائرة الأجواء الهولندية، فطبيعتها غير طبيعة البلدان الأوربية الأخرى التي تجذب نظرك من أعلى المباني الشاهقة أما هولندا فترى تحتك المسطحات الخضراء على مد البصر والمياه الجارية والأبقار السمينة ترعى دون قيد.
وقبل أن أحكى لكم تجربتنا الثرة في هذه البلدة ربما يكون من المفيد أن أعطى بعض القراء نبذة مختصرة عن هولندا، فهي تقع على بحر الشمال عند مصبات نهر الراين وبها عدد من الأنهار والبحيرات والقنوات، مساحتها صغيرة لا تتجاوز 42 ألف كم مربع وسكانها حوالى17 مليون نسمة ويتحدثون اللغة الهولندية، أكثر من 80% من السكان هولنديون أصلاً والبقية هاجروا إليها من أوربا وإندونيسيا وتركيا والمغرب وسورينام. استقلت هولندا من إسبانيا في يوليو عام 1581 وتأسست كمملكة في مارس عام 1815، ونظام الحكم فيها الآن ملكية دستورية برلمانية مركزية. أما السلطة التشريعية فهي مكونة من برلمان مجلس الشيوخ ومجلس النواب. وتقع حوالي نصف مساحة هولندا تحت مستوى سطح البحر في منطقة يسكنها حوالي 21% من إجمالي السكان بينما يقع نصف أراضيها الآخر في أقل من متر واحد فوق مستوى سطح البحر ولذلك تسمى هولندا بالأراضى المنخفضة وهي ما تعنيه (Nederland) بالهولندية. اقتصادياً هي أكبر بلد مصدر للمنتجات الغذائية والزراعية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية وتعتبر عاشر دولة لديها أعلى نسبة لدخل الفرد في العالم حيث يبلغ متوسط دخل الفرد فيها 41 ألف دولار سنوياً. وفى عام 2011 تم تصنيفها بأنها الدولة الأكثر سعادة بحسب البيانات التي نشرتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وهي تعتبر أول دولة رأسمالية في العالم، وتُعد بورصة امستردام أقدم بورصة في العالم. وكانت مدينة أمستردام أغنى مدينة تجارية في أوائل العصر الحديث. أما مناخها فهو محيطي مع صيف معتدل وشتاء بارد وأقل برودة في المناطق الساحلية ولا توجد جبال يمكنها أن تقلل من سرعة الرياح. وتشتهر هولندا بزهرة " التيوليب" وتعتبر المنتج الرئيس لهذه الزهرة في العالم فهي تنتج حوالي 3 مليون بصلة للتصدير. وهولندا بلدة سياحية يزورها سنوياً حوالي 11 مليون سائح أجنبي يقصدون المعالم التاريخية والعمرانية والمناظر الطبيعية وأماكن الترفيه والقنوات المائية والمتاحف وأعمال كبار الرسامين الهولنديين، وأهم مدنها أمستردام وروتردام ولاهاي وعملتها الآن هي اليورو الذي حل محل الجيلدر الهولندي. وأمستردام هي عاصمة هولندا وأكبر مدنها وميناء روتردام هو أهم وأكبر ميناء في أوربا ومدينة لاهاي هي مقر حكومة هولندا والمنظمات العالمية كمحكمة العدل الدولية. ومطارها "سخيبول" يعد من أهم المطارات الأوربية حيث يستخدمه نحو 50 مليون مسافر سنوياً. وفي غمرة الحديث عن هولندا ومعالمها ينبغي ألا ننسى تفوق هولندا في كرة القدم بفريقها البرتقالي فقد انجبت الملاعب الهولندية بعضاً من أبرز اللاعبين في فريق الطواحين، الذي لعب في نهائي كأس العالم ثلاث مرات، وأكثرهم عبقرية وموهبة وامتاعاً لجمهور المستديرة وعشاقها في مختلف أرجاء العالم عبر تاريخ كرة القدم ومنهم على سبيل المثال لا الحصر، يوهان كرويف (الذي رحل عن دنيانا مؤخراً) ودينيس بيركامب ورود خوليت وفرانك ريكارد وماركو فان باستن وشنايدر وروبين وفان نيستلروي وفان بيرسي.
في الفقرات التالية سوف أطوف بكم، مثل ما طفنا نحن، حول أهم المعالم في هولندا فربما يكون في ذلك فائدة لفئتين من القراء الكرام، الفئة الأولى من هم يريدون معلومات عامة عن هولندا لسبب أو لآخر والفئة الثانية من هم يخططون أو يفكرون في زيارة هولندا فربما يكون في ذلك دليلاً سياحياً أو تشجيعاً لهم أو الاثنين معاً.
أولاً: تخطيط المدينة..أمستردام هي من أغرب المدن وأجملها تخطيطاً وعمراناً، ففي كل شوارعها، دون إستثناء، شقت قنوات للمياه وكل العمارات السكنية والمكاتب التجارية على الجانبين تطل على القناة وهناك قوارب وبصات نهرية تبحر في القناة للمواصلات أو النزهة وأيضاً هناك جسور فوق القنوات لتسهيل عملية التنقل وهي تشبه مدينة البندقية الإيطالية. وتقول الإحصائيات أن أمستردام وحدها بها أكثر من 100 كيلومتر من القنوات شقت منذ القرن السابع عشر و90 جزيرة وعدد 1500 جسر. هذه القنوات كانت نتيجة للتخطيط السليم لهذه المدينة لانخفاض أراضيها وقلة مساحتها فهي تستعمل كوسيلة سهلة للمواصلات والري وإزالة المياه وكانت قديماً تستعمل كحماية للمدينة من الغزاة. وبما أن هذه القنوات تمثل أمستردام القديمة فهي تمثل قيمة ثقافية وتاريخية للهولنديين كما يزورها السواح الأجانب بكثرة خاصة في فصل الصيف. وأنا أستمتع برحلة بحرية في إحدى هذه القنوات من أمام الفندق تذكرت شارع الخور وخور المنطقة الصناعية في الخرطوم الذي أعتقد أنه قد شُق لتجميع الزيت الراجع من العربات لاستعماله في محاربة توالد البعوض والناموس في المياه الراكدة والمستنقعات! كم كنت وما زلت أتمنى منذ عشرات السنين أن تفكر الحكومة أو رجال المنطقة الصناعية أنفسهم دفن وإزالة هذا الخور الضار كليا والاستفادة من المساحة لتوسعة شارع الخور الهام وإعادة رصفه فهو أجدى للناس وأنفع لهم.
ثالياً: المتاحف.. في مدينة أمستردام العديد من المتاحف الرائعة. معظمها في ميدان المتاحف بوسط أمستردام ويعتبر أكبر متحف في أمستردام هو متحف الدولة أو المتحف الوطني ويسمى "ريكسموزيوم" ويعد أحد أكبر المتاحف في أوربا وهو مخصص للفنون والتاريخ الهولندي وأفتتح عام 1885 كما يوجد هناك متحف "فان كوخ" المشهور وهو يحتوي على أكبر مجموعة في العالم من لوحات وأعمال الرسام الهولندي العالمي "فينست فان كوخ" ويتكون المتحف من ثلاثة طوابق ويعرض فيه أكثر من 900 عمل فني كلها تشتهر بالجمال وصدق المشاعر والألوان البارزة. ومن أشهر لوحاته "ليلة مرصَّعة بالنجوم" و"غرفة نوم" و "آكلو البطاطا". ويقال إنه لم يبع من لوحاته الكثيرة إلا لوحة واحدة رسمها في عام 1890 وبيعت في معرض لي إكس في بروكسل بمبلغ 148 مليون دولار عام 1990. وقبل وفاته أصيب "فان كوخ" باضطرابات عقلية وفي احدى نوباته العقلية كان قد قطع جزءاً من أذنه اليسرى كما هو معروف في واحدة من الروايات المتعددة عن سبب قطع الأذن. ورسم فان كوخ لوحة النجوم من وحى المنظر الذي تحته خارج غرفته في المصحة وكتب فيها لشقيقه ثيو "الموت مثل رحلة إلى النجوم، أن تموت بسلام كأن تذهب إلى هناك سيراً على الأقدام". ويقال إنه توفى منتحراً في يوليو عام 1890. وهنالك متاحف لغيره من الرسامين الهولنديين المشهورين عالمياً مثل الرسام "جان فان آيك" صاحب لوحة "العذراء" المشهورة والرسام "بوهان فيرمير" صاحب لوحة "موناليزا الشمال"، ومتحف الرسام رامبرانت صاحب لوحة "درس التشريح مع الدكتور تولب". وهذه المتاحف قريبة من بعضها وجديرة بالزيارة.
ثالثاً: زهرة التوليب..هي نوع من أنواع الزهور التي يتفرع منها ما يصل إلى 90 نوعاً تختلف عن بعضها البعض في صفاتها كالطول واللون.. فمنها الأبيض والأحمر والبنفسجي والأسود والبرتقالي.. وهي أزهار معمرة تصل فترة حياتها إلى سنتين وتزرع في فصل الصيف ويتم قطفها في فصل الربيع، ولها قدرة على تحمل البرد الشديد في فصل الشتاء، وهي زهرة تعبر عن الرومانسية والجمال والحب. وأصل هذه الزهرة تركي زرعها العثمانيون أول مرة وسميت بهذا الاسم الذي أتى أصلاً من كلمة "طالبان" لأن شكل بصلة الزهرة هذه بطبقاتها تشبه عمامة الطالبان وقد قرأت ذلك مكتوباً في وصف الزهرة وتاريخها في المتحف. تعتبر هولندا من أكثر الدول زراعة وتصديراً لزهرة التوليب كما تعتبر زهرة التوليب من أهم مصادر الدخل في هولندا حيث تصدر ما قيمته 685 مليون يورو في العام إلى الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا والصين وبريطانيا وفرنسا واليابان. وتُفتح مزرعة زهرة التوليب أمام السواح فترة 6 أسابيع فقط في السنة أي في الموسم الذى تتفتح فيه الأزهار في منتصف شهر مارس حتى نهاية شهر مايو. وتقع معظم الحقول في شمال هولندا وزيارتها مجاناً ما عدا حديقة "كيوكينهوف" القريبة من أمستردام فلها رسوم خاصة وهي من أكثر الأماكن التي يؤمها السواح الأجانب في فصل الربيع. وقد كان لنا فيها أوقات جميلة مع الزهور والورد وفرق الموسيقى الجميلة.
رابعاً: الطواحين الهوائية..عندما كنا في المرحلة الأولية في السلم التعليمي في زمنٍ ما، درسنا في علم الجغرافيا عن هولندا وأهم ما فيها كانت عن الطواحين الهوائية التي رسخت في أذهاننا منذ ذلك الوقت دون أن نراها أو نعرف كيفية عملها لإنتاج الطاقة. والان وبعد مضى نصف قرن من الزمان رأيت تلك الطواحين الهوائية بِأُمِّ عَيْنَيَّ واندهشت عندما رأيت وعلمت ببساطتها وكيف تعمل. ترى تلك الطواحين على مد البصر وتوجد في هولندا أكثر من ألف طاحونة هواء يتمركز أغلبها في قرية "كندريخ" ويعود بناؤها للعام 1740. وهذه الطواحين الهوائية هي عبارة عن آلة بسيطة تعمل عن طريق قوة الرياح حيث صممت لتحويل الطاقة من طاقة حركية إلى طاقة كهربائية عن طريق شفرات وصندوق للتروس لتدور حسب سرعة الرياح ونظراً لاعتمادها على الهواء فإنها تتواجد دائماً في الأماكن الساحلية وتستعمل قوتها وطاقتها لضخ المياه وطحن الحبوب واستخراج الزيت وقطع الأخشاب وصناعة الورق وطحن بعض مواد البناء ومواد الطلاء إلخ.. لكنها أيضاً أصبحت معلماً حضارياً وتاريخياً بارزاً على مستوى العالم، يحرصون على المحافظة عليها حتى بمنع إزالتها وتصديرها إلى خارج هولندا، كما أنها أصبحت قبلة للسواح الأجانب. وحسب ما لاحظت عن قُرب فالطواحين الهوائية هي نفس فكرة الساقية والرحى التي كانت قديماً تطحن الغلال عندنا في البلد. فكما الأبقار تحرك التروس الخشبية في الساقية فالرياح هي التي تحرك تروس الطواحين الهوائية الحديدية وتلك التروس بدورها تحرك الرحى الإسمنتية الثقيلة التي بدورها تطحن وتقطع وهكذا. ولو طورنا الساقية عندنا قليلاً لأصبحت مصدراً للطاقة الكهربائية في الشمالية ولما احتجنا لسد مروي ولا "الجمرة الخبيثة".
خامساً: الدراجات..كان مبلغ علمي أن مدينة عطبرة هي أكبر مدينة كانت تستعمل فيها الدراجات الهوائية كوسيلة للمواصلات. وما كنت أعلم أن مدينة أمستردام هي بلد الدراجات الهوائية. فعدد الدراجات في هولندا يقدر بأكثر من 50 مليون دراجة تستعمل للمواصلات بينما عدد سكان هولندا 17 مليون نسمة أي بمعدل 3 دراجات لكل فرد. فهي الوسيلة الأكثر انتشارا في المواصلات حيث يستخدم 5 مليون شخص الدراجة يومياً. ويقال حتى رئيس الوزراء الحالي "مارك روته" يذهب إلى مقر عمله والمؤسسات السياسية بدراجته. ووقع الهولنديون في غرام الدراجة منذ ثمانينات القرن التاسع عشر ومنذ ذلك الوقت خصصوا لها مسارات تمتد اليوم حوالي 35 ألف كيلومتر. ويرجع سبب استعمال الدراجات لزحمة السير وعدم وجود مواقف كافية للسيارات وسلامة البيئة من التلوث والطبيعة الجغرافية المنبسطة والكثافة السكانية العالية.. غير أن راكبي الدراجات في هولندا بدأوا يعانون أيضاً من مشاكل المواقف كما لم تعد الطرقات تتسع لسائقي الدراجات الذين يسلكونها يومياً والبالغ عددهم 5 مليون فرداً كما أشرنا إليه من قبل. ولذلك أعلنت أمستردام من جهتها خطة استثمار بقيمة 120 مليون يورو لاستحداث 38 ألف موقف جديد ومسالك إضافية مخصصة للدراجات. وعندما رأيت ذلك العدد المهول من الدراجات بمختلف أشكالها واستعمالاتها في الطرق والمواقف المخصصة لها في أمستردام كالميادين ومحطات القطار ومحطات البصات جال بخاطري السودان وبالتحديد عاصمة الحديد والنار مدينة عطبرة.. وأسأل نفسي لماذا ترك سكان عطبرة استعمال الدراجات كوسيلة للمواصلات؟ حضارية وصديقة للبيئة ورياضية ورخيصة، هل كانت الدراجات مرتبطة بحركة السكة حديد وعمالها؟ أم صار ركوب الدراجة عيباً؟ أم صار سعرها ليس في المتناول؟ أم حلت الرقشة مكانها؟ أم ماذا يا ترى؟
سادساً:.. الطرق وحركة السير.. لصغر مساحة هولندا تجد الطرق فيها ضيقة إلا أنهم تغلبوا على هذه المشكلة بعدة وسائل منها بناء طريق الترام في منتصف طريق السيارات وبالتالي ترى الترام يسير جنباً إلى جنب مع السيارات ويحكم سيرهما نفس إشارات المرور ثم أن أمستردام تقل فيها السيارات وأغلبها صغيرة الحجم حيث أن رسوم الترخيص والضرائب يحددان بوزن السيارة فكلما خفّ وزنه قل ثمنه. وهناك أيضاً قنوات المياه في كل الشوارع بها قوارب وبصات نهرية للتنقل كما أن عدد الدراجات الهوائية والنارية كثيرة بل أكثر من عدد السيارات أضعافاً مضاعفة وهناك دراجات هوائية مجهزة يقودها سائق لنقل الركاب من مكان إلى مكان حتى إلى المطار. ولذلك تجد حركة السير منتظمة وليس هناك سرعة أو تهور في القيادة بطبيعة الهولنديين الهادئة الصبورة كما أن هناك عقوبات رادعة وغرامات مادية كبيرة لكل من تسول له نفسه مخالفة قواعد السير والمرور. ولمكافحة التلوث وانبعاثات الكربون وعدم الاعتماد على البترول والغاز تعتزم هولندا حظر بيع السيارات العاملة بالوقود اعتباراً من عام 2025 ولذلك نجد زيادة في استعمال السيارات الكهربائية أو ذات بطاريات الهيدروجين. ولتشجيع هذا الاتجاه هناك أماكن كثيرة مخصصة لشحن بطاريات السيارات بسهولة و بالمجان، فقط تقف بسيارتك في الشارع كما أنك تشحن بطارية هاتفك الجوال. وهذا يجعلنا نشفق على المزيد من تدهور سعر برميل البترول في الأسواق العالمية مستقبلاً والتي بدورها تؤثر على المشاريع واقتصاديات كثير من الدول وتؤدى إلى المزيد من البطالة في كل القطاعات وبالتالي يجب أن نعكس القول "فوائد قومٍ عند قومٍ مصائب".
سابعاً: سياحة المخدرات.. هذا نشاط اقتصادي غريب من نوعه فهو يقوم على جذب سياحي يرتكز على استهلاك المخدرات من حشيش وماريجوانا في مواقع تقنن استهلاكها وبيعها من قِبل الدولة. فإذا حللت ضيفاً على مدينة هولندية فلا تفكر في أن تستدرجك قدماك لدخول "كوفى شوب" أو مقهى فهي الأماكن التي يبيعون ويتناولون فيها المخدرات فيأتيها الشباب والمراهقون من الدول الأوربية المجاورة مثل ألمانيا وبلجيكا وبريطانيا في عطلات نهاية الأسبوع للتمتع بسياحة المخدرات وهي التي لا يحرم تعاطيها. وتسمح السلطات الهولندية للمقاهي ببيع المخدرات مثل الحشيش والماريجوانا بدعوى أن هذا النوع من المخدرات لا يؤثر على صحة من يتعاطاها مثل تعاطى النوع الثقيل كالهيروين والأفيون المحرمة تماماً. أياً كانت أسباب السلطات الهولندية المُعلنة فكلها ضارة لكن يبدو أن هناك أسباباً أخرى أكثر قوةً. يقولون أمستردام مغناطيس السواح في هذا الجانب الترفيهي فهو عالم جديد يدخل إليه من يتوق المحظور ليروا العجب العجاب.
ثامناً: المساجد..رغم حياة اللهو هذه في المقاهي وحي الأضواء الحمراء فهناك الجانب الآخر من هولندا التي تضم أكثر من 500 مسجد للمغاربة والأتراك والباكستانيين وعدد كبير من المعاهد الإسلامية لتعليم اللغة العربية والقرآن الكريم. ويعود تاريخ الإسلام فيها إلى القرن السابع عشر عندما شهدت هولندا هجرات متفرقة للمسلمين من الهند الشرقية التي كانت مستعمرة لهولندا. وفى فترة النمو الاقتصادي بين عامي 1960 و1973 اضطرت الحكومة لتوظيف أعداد كبيرة من العمال المهاجرين خاصة من تركيا والمغرب. وتشير احصائيات حديثة إلى استضافة هولندا لأكثر من مليون وثمانمائة ألف مسلم أي أكثر من 10% من سكان هولندا منهم أكثر من 70% مغاربة وأتراك. وزاد عدد المسلمين بشكل ملحوظ خلال السنوات الأخيرة بسبب المرونة التي يتميز بها القانون الهولندي بالإضافة إلى الاستمرار في تطبيق الدستور الهولندي الذي يسمح بحرية الأديان لكل المواطنين ويمنع أي تمييز على أساس الدين واللون والعرق والقومية. ولذلك هاجر شيخ اللامين إلى هولندا ليستقر في بلد الحريات الدينية ليواصل دعوته هناك "فلا كرامة لنبي في وطنه" كما أن "زامر الحي لا يطرب".
تاسعاً: الأجبان.. عندما تكون في هولندا تجد الفرصة لزيارة مصانع الجبن التي تقام في المزارع المخصصة للأبقار والخراف والماعز وهي مصانع بسيطة تستعمل فيها القيزانات التي يخلط فيها اللبن مع مواد حافظة أخرى والهولنديون يصنعون مئات من الأنواع الشهية من الجُبن فمنها الشيدر والموزاريلا والجُودة والأمريكي والسويسري والبارميزان والجبنة الزرقاء والكريمى إلخ.. وكلها بها عناصر غذائية مفيدة للجسم غنية بالبروتينات والدهون والأملاح والكالسيوم والفسفور والكبريت والحديد. ويسمح لك في المصنع بتذوق كل أنواع الجبن قبل الشراء وتعتبر منتجات الألبان من الزبدة والأجبان والحليب من الصناعات والصادرات الرئيسة في هولندا. وأنا هنا في مصنع الأجبان تذكرت في بلدي كنا قديماً نصنع جبنة يتيمة طاعمة تسمى "جبنة الدويم" تأتينا من مدينة الدويم في صفائح زرقاء اللون وبعد سنين طويلة من اليتم والوحدة جاملتها الجبنة المضفرة فتنافستا لكن المستغرب له أن المنافسة رفعت الأسعار وساءت النوعية الشىء الذى لايحصل إلا في بلدنا الحبيب وأصبحنا نأكل ملحاً مخلوطاً بقليل من اللبن بأضعاف الثمن ! لماذا ذلك ؟ والله لا أعلم !
عاشراً: مدينة لاهاى..وبالهولندية تسمى "دنهاغ"، تقع في غرب هولندا وهى أكبر مدينة هولندية بعد أمستردام ورغم أنها لا تحتل العاصمة الرسمية إلا أنها مقر الملك وولى عهده ورئاسة الحكومة والوزارات والبرلمان والمحكمة العليا ومجلس الدولة وجميع البعثات الدبلوماسية الأجنبية وهى تعتبر أيضاً عاصمة تجارية كما تعتبر لاهاى مركزاً دولياً لمؤسسات صنع سياسة العدل والسلام في العالم حيث يوجد فيها قصر السلام الذى يضم مقرات عدد من المنظمات الدولية مثل محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية وفى لاهاى يوجد أيضاً مقر المحكمة الدائمة للتحكيم واليوروبول ومنظمة حظر الأسلحة الكيميائية وأكاديمية لاهاى للقانون الدولي ومنظمة العدل الأوربية والكثير من المنظمات. وهي مدينة جميلة فيها الكثير من الحدائق والشوارع الهادئة المليئة بالأشجار الكبيرة وبيوتها الفخمة وتعتبر هي أكبر متنزه على شاطئ البحر في هولندا ومن المعالم الرئىسية فيها منتزه "مدورادام" وحي الرسامين وسوق "باسارمالام " وبركة الحرم البرلمانى. وكان من الطبيعي أن أزور كل المنظمات الدولية هناك بما فيها المحكمة الجنائية الدولية التي تعرفون، فتذكرت فيها "أوكامبو" الذي أتم دورته و رحل و"البشير" الذي وعد بالرحيل عام 2020 كما يقول!
إحدى عشر: "ساحة دام".. هو ميدان يقع في وسط مدينة أمستردام شيد عام 1270 ويتوسطه النصب التذكارى الوطني وفيه عدة مباني هامة مما يجعله أهم ميادين العاصمة الهولندية ولا يبعد عن المحطة المركزية للقطارات. ما يميزه هو أنه في وسط ساحته تجد كمية من الحمام الولوف الذي يجلس فوق رؤوس السواح والأطفال وأياديهم بكل اطمئنان مثل ساحة "الطرف الأغر" في مدينة لندن. وهذا الميدان يعج بالمطاعم والمقاهي ومحلات الأكل السريع والشرب والبطاطس الطازة المحمرة ولذلك تجد فيها عدد من السواح الأجانب يتجولون ويأكلون في المطاعم السريعة وكذلك في المطاعم العالمية التي ترضى كل الأذواق والجنسيات. وفى هذا الميدان يوجد متحف "مدام توسو للشمع" وهو مشابه لمتحف "مدام توسو للشمع" بالعاصمة البريطانية لندن. ومقابل هذا المتحف هناك القصر الملكي الذي يرجع تاريخ تشييده لعام 1648 ويعتبر هذا القصر تحفة أثرية وقديماً كان مقراً للحاكم "لويس بونابرت" شقيق "نابليون بونابرت". والغريب في الأمر( وما غريب) أن هذه القصور مفتوحة أمام الجمهور والسواح في كل الأوقات وليس بها حراس يمنعون الدخول للزيارة والتقاط الصور.. حينها تذكرت قصورنا البائسة الممنوع الاقتراب منها أو التصوير، التي نخاف منها ولا نصل حتى على مقربة من أسوارها وإلا لأردوك قتيلاً كالطيرة ! وهكذا الأوامر للحراس.
ثانى عشر: متحف "نيمو" للأطفال..أطفال اليوم هم صناع المستقبل.. ولذلك يهتم الهولنديون بتنمية عقول الأطفال والاهتمام بهم منذ صغرهم. وأقيم متحف نيمو الوطني للعلوم والتكنولوجيا في هولندا خصيصا لذلك. هذا المتحف هو أحد أعمال المهندس الإيطالي المشهور "رينزو بيانو" الذي فاز بتصميم المتحف عام 1992 ليصبح بشكله الجذاب على شكل باخرة في البحر ولونه الأخضر المعبر عن الطبيعة مصدر جذب علمي وسياحي في ميناء أمستردام، وهذا المتحف مخصص لتنمية عقول الأطفال وتهيئتها للابداع والابتكار ويتكون المتحف من خمسة طوابق.. الطابق الأول خصص لتفاعلات الحمض النووي وعلم الوراثة" دى إن إيه".. والطابق الثاني خصص لعروض متخصصة في علم الفيزياء والكهرباء ومجسمات على شكل دوائر كهربائية.. والطابق الثالث مخصص لتجارب التفاعلات الكيميائية.. والطابق الرابع تجرى فيه التجارب المعتمدة على العقل والذاكرة وفيه قاعة كبيرة على شكل عقل بشرى تحصل من خلاله على جميع الألعاب المقوية للذاكرة لدى الأطفال. وفى هذا الجزء هناك مكان مخصص لمعلومات الجنس للأطفال. أما الطابق الخامس فهو مخصص للمقاصف وصالات الألعاب للأطفال في إطلالة جميلة على البحر والمدينة. لقد أحب أطفالنا هذا المتحف وقضوا فيه أكثر من ساعتين من اللعب المفيد وما استكفوا بذلك. وعند دخولنا رأيت في واجهة هذا المتحف العلمي مجسماً كبيراً في شكل ساقية نوبية تدور والقواديس تغرف وتصب المياه في الحوض . وضع مجسم الساقية في هذا المكان بالذات يؤكد لزائري هذا المعرض أن أصل توليد الطاقة ومن ثمَّ الصناعات بدأت من فكرة تروس ساقيتنا وهى "لسه مدورة" كما قال الشاعر الفحل "عمر الدوش" وتغنى بها الفنان الكبير "حمد الريح".
فعندما تكون في هولندا لا تنسى أن تتذوق الأجبان الشهية بمختلف أنواع الخبز الهولندى، ولا البطاطس الطازة المحمرة، ولا تنسى بذور زهرة التوليب، ولا زيارة متحف فان كوخ، ولا جولات بالدراجات الهوائية، ولا تنسى دخول الطواحين الهوائية وشراب الشوكولاتة الحارة المنعشة. فقط شيء واحد أوصيك أن تنساه ولا تقربه بالمرة.. ألا وهو الكوفى شوب وإلا فسوف تخرج من هولندا كما دخلت.
وأختم بأن حفيدي كريم الذي لم يبلغ السابعة من عمره سألني في آخر يوم من رحلتنا لهولندا هل يمكن لي أن أشتغل هنا وأقيم فيها إلى الأبد ؟ فأجبته بنعم يمكنك ذلك... لكن للأسف حينها كانت حقيبة ملابسه داخل التاكسي الذي سوف يأخذهم إلى المطار فبكى من عند مدخل الفندق حتى وصل مطار الدوحة.. فأي بلد هذه التي تغري حتى الأطفال!
شوقى محى الدين أبوالريش
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.