عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. أرسلت إلينا في الواتساب صديقتنا العزيزة أم مجاهد(ندي محمد جمعة حميدة) صوراً قديمة لغلاف كتاب مطالعة الصف الثاني إبتدائي قديماً، ولكتاب الأدب والنصوص للصف الثالث مرحلة وسطي سابقاً ولكتاب العلوم للصف الثاني كذلك، كما أرسلت صورةً لقصيدة قطّتي سميرة التي كان قد درسها جيلُنا في الصّف الثاني أولية.. أثارت فيّ هذه الصوَر ذكرياتٍ عزيزة وشجناً دافقاً وبخاصة قصيدة قطتي سميرة..يا سلام علي ذكريات الزمن الجميل والضحك القديم.. فقطتي سميرة هذه بالذات هي القصيدة التي وضعتني علي أعتاب الجُرأة والخطابة ومواجهة الجمهور وفي وقتٍ مبكّر..لا أنسي أبداً أنها أولي القصائد علي الإطلاق التي درّسنا إياها أستاذُنا العظيم الجليل أحمد جُمعة حميدة في مدرسة الحاجز الأولية التي إفتتحها هو كأول مديرٍ لها.. كانت تلك المدرسة قد بدأت بفصلٍ واحد في هيئة كُرنك مبني من القش.. وكان معه أستاذ آخر إسمه مُقدّم..كُنا صغاراً جداً وكان أستاذُنا أحمد جمعة حميدة مهيباً جداً..كان يحمل في يده دوماً (بسطونة) لا تفارقه أبداً.. وكان يُسمّيها (أُم شنيباً نار)..نعم هكذا..وأنا ما أزال أتذكّر ذلك جيداً.. وكان لا يُعملُها إلاّ في الظهور..بحيث لا تستطيع يداك القصيرتان المسحَ (والحَكَّ) علي مكان لسعِها أبداً مهما فعلت.. وكانت أكثر ما تداعب ظهرَ أخينا وحبيبنا المشاغب حسين الدّقيل..وأشهدُ أنها لم تلامِس ظهري أبداً..و الحمدُ لله..(طبعاً لأني كنت شاطر وكدة) درّسنا أستاذنا أحمد جمعة هذه القصيدة..وحفظناها..و كثيراً ما كُنا نحفظ القصائد في الحصة ذاتها..ثم قال: من يأتِ إلي مقدّمة الفصل هنا ويُلقي لنا هذه القصيدة مع حركات الإلقاء والتشبيه والتمثيل؟!..ولم يرفع أحدٌ يده..طبعاً خوفاً ورهبةً من أستاذنا العزيز..والأدهي أنه قال أيضاً: يخرج الشخص إلي هُنا ويأخذ (أم شنيباً نار) هذه ويمثّل بها حركة ذيل قطتي سميرة عندما تقول القصيدة(بشعرِها الجميلِ وذيلِها الطويلِ)!!! من يا تُري يجرؤ علي التمثيل بتلك البسطونة؟! طبعا لا أحد..ثم كرّر الطلب إثنتين وثلاث ورباع.. ولم يقُم أحد..فتوكلتُ علي الحيّ القيوم ورفعتُ يدي..فرحّبَ بي أستاذنا أشدّ الترحيب وأثني عليّ أشدّ الثناء..ثم ناداني إلي مقدّمة الفصل وأثني عليّ مجدداً ثم ناولَني (أم شنيباً نار).. كان موقفاً مهيباً بالفعل.. وكانت القصيدة تُقرأ برواية أخري مختلفة قليلاً عما هو منشورٌ ههنا..تقول القصيدة والتي ما أزالُ أحفظها: كان لي قطةٌ صغيرة سمّيتُها سميرة تنامُ في الليلِ معي وتلعبُ بأصابعي.. بشعرِها الجميلِ وذيلِها الطويلِ لأنني أُحبّها ولا أُريدُ ضربها.. إرتجفتُ في البداية ولكني سريعاً ثبتُ وقرأت.. وألقيتُ القصيدة كأحسن ما تيسّر الإلقاء الممكن (تقريباً) مع التمثيل والتحكّم في طبقاتِ الصوت (ما أمكن) وإستخدام أم شنيباً نار (ما أمكن كذلك)..فصفّق لي أستاذنا أحمد تصفيقاً حاراً وصفّق لي معه الفصل ب (براوة حارة جداً).. وأثني عليّ وربت علي كتفي ثم قال كلاماً كثيرا معناهو إنكم (خليكم زي بشير دا).. وكانت فرحتي عظيمةً جداً بهذا الإطراء وزهوي وسط زملائي كان بلا حدود.. وبدأتُ من تلك اللحظة لا أتهيّب القراءة والكلام وسط وأمام الناس..وصرتُ أدقّش فيهم يمنةً ويسرة وأخطئ وأصيب ولا أخشي أحداً..لا بل وعندما أقيمت إحتفالات الإستقلال بعد حين..وكان الناس في ذلك الزمان الجميل بحتفلون بالأستقلال..تخيّلوا.. وكنتُ عندئذٍ بالصف الثالث أولية..ويا لجُرأتي.. جهّزتُ كلمةً لإلقائها في الحفل الخطابي المقام بالمناسبة.. ولم تكن كلمتي موضوعةً في جدول الخطابات.. لأني لم أكلّم بها أحداً إلا لحظة إلقاء الخُطب.. وكان يقدّمُ للحفل أستاذنا الجليل كمبو إسمعيل كمبو.. وكان أستاذُنا أحمد جمعة قد نُقل العام السابق وجاء بدلاً منه مديراً أستاذنا أحمد أبوهم موسي.. تقدمتُ نحو لجنة الإحتفال ومددتُ كلمتي مكتوبةً للأستاذ كمبو..وكان ضمن اللجنة عمي الراحل الجليل الأستاذ علي حسن الأمين.. يقفُ بسَمْتِه الفارع وهيئته المهيبة.. وأتذكّرُ تماماً أنه كان يلبسُ بنطالاً أسوداً وقميصاً أبيضاً بأكمام قصيرة.. (ربما أنه كان وقتها مديراً لمدرسة أم سعدة الأولية)..أعلن الأستاذ كمبو فوراً -وبذكاء- أن الكلمة التالية هي كلمة تلاميذ مدرسة الحاجز الأولية يلقيها عليكم (التلميذ) بشير إدريس.. هكذا تماماً..وكان الخطباء يلقون كلماتهم من علي كَنَبةٍ عالية وُضعت خصيصاً لهذا الغرض.. تقدّمتُ نحو الكنبة وكانت عاليةً جداً بالنسبة لي..ولم أستطع الصعود عليها..فأخذني عمي الحبيب الأستاذ علي حسن ورفعني عالياً بذراعيه القويتين الطويلتين حتي رأيتُ كل الناس من حولي..وكانوا خلقاً كثيراً..ثم وضعني علي الكنبة..لعلّ عمي علي-رحمه الله- كان برَفعته العالية تلك لي يريد أن يهنّئني.. أو كان يريد أن يفتخر بي..أو كان يريد أن يُجيزَني كما يُجاز الأطفال برفعهم في الهواء عالياً..أو أنه كان يريد أن يجعلني فوق رؤوسِ كلِّ الناس..أو لعله كان يريد أن يفعل كلَّ ذلك لي في آنٍ واحد وقد فعل..رحِمه الله الرجل الطويل الرفيع الشامخ الجليل.. ألقيتُ كلمتي كما كان يفعل كلُّ الخطباء..إرتجفتُ في البداية كذلك ولكني آخيراً ثبتُّ..ومثّلتُ بيديَّ وأنا أخاطبُ الناس-تماماً كما فعلتُ مع قصيدة قطتي سميرة - وأذكرُ أنني قلتُ للناس يومها إننا يجب ان نتّحد !!!..لأنّ في الإتحاد قوة!!..وصفّق الناس..وأذكر أنني ذكرتُ الإستعمار والإستقلال والحرية كثيراً.. وكانت تلك هي النغمة السائدة تلك الأيام..وصفّق ليَ الناس..وأُلاحظ أن السودانيين ما يزالون يتحدثون عن هذه الأشياء منذئذٍ وحتي الآن!!.. أتممتُ إلقاء كلمتي وصفّق الناسُ لي كثيراً وأثنوا عليّ كثيراً.. وفرحتُ كثيراً ..وزهوتُ بنفسيَ الضعيفة كثيراً..ومنذ هاتين الحادثتين ظللتُ لا أتهيّب الكلام إلي الناس..وظللتُ أدقّشُ فيهم كلما تيسّر التدقيش -كما قلت- إلي يوم الناس هذا .. وظللت أحبّ الأدب والكتابة كذلك.. كلّ هذا كان بفضلِ الله..ثم بفضلِ تشجيع وثناء وتزكية أستاذي الجليل أحمد جمعة حميدة لي في قصيدة قطتي سميرة في السنة الثانية أولية.. علمتُ مع هذه الصّور و الذكريات ومن صديقتِنا أم مجاهد ذاتِها أن عمّها وأستاذنا الجليل أحمد جمعة حميدة قد إنتقل إلي الدار الآخرة منذ ثلاث سنوات فقط ولم يتيسّر لي أن أرَهُ أبداً منذ نُقل من مدرسة الحاجز الأولية قبل أربعين عاماً تقريباً.. رحِمه الله رحمةً واسعة وأنزل علي قبره شآبيب المغفرة والرضوان..