لا أدري لماذا علقت بذاكرتي قصيدة سكنت في جمجمة رأسي لأكثر من ربع قرن.. أعادتني تلك القصيدة الى أيام الدراسة.. أيام الزمن الجميل.. فالأيام كانت في منتصف الستينيات.. وأنا يافع.. تلميذ بمدرسة المسلمية الأميرية الوسطى .. والجمعية الأدبية التي تعقد أمسية الاثنين ومرتين في الشهر.. ومشرف الجميعة أستاذنا المهيب المرحوم بابكر حسنين.. والمشرف على فصلنا (أبو الفصل).. كان يوم الجمعية نحسب له لأنه إجازة من المذاكرة الليلية.. كانت المذاكرة إجبارية من بعد صلاة المغرب الى الساعة الثامنة.. ومن بعدها العَشاء في السُفرة.. وعند العاشرة جرس النوم حيث تسكن حركة الداخليات.. ويمنع منعاً باتاً المذاكرة بعد العاشرة ليخلد الجسد للراحة.. كانت للداخلية لائحة تنظيمية تطبق بحذافيرها.. لائحة تنظيمية تربوية على أساتذة (أشداء..) ينفذونها بانضباط أقرب الى الانضباط العسكري.. فالداخليات كان عليها أساتذة يحملون اسم (ضباط) الداخلية.. لهم سكن خاص مع الداخليات.. فيوم الجمعية فسحة وراحة من الدراسة الاكاديمية.. ولكنها دراسة أخرى.. كنت متطلعاً لأن أكون واحداً من الذين يقفون على منبر الجمعية.. مخاطباً زملائي التلاميذ ليصفقوا لي أو ألقي قصيدة.. كما يلقي طلاب الصفوف المتقدمة.. وبين دواخلي ترقد أبيات.. من معلقة الأعشى.. أحفظ أبيات منها.. وأعرف بعض من معانيها.. حفظتها وأنا بالسنة الرابعة الأولية بمدرسة العيكورة.. حفظتها عندما كان الاخوة المرحوم ضابط الشرطة المرحوم كامل عثمان والبروفيسور سيف الدين جعفر.. وكانا وقتها طالبان في مدرسة حنتوب الثانوية.. فكانت معلقة الأعشى مقررة عليهم لإمتحان الشهادة السودانية.. فلفتتني أبياتها شواي مُشل.. شلول.. شلشل.. سُل هذه (السلسلة) جعلتني أحفظها.. وأنا يافع.. فهذه الأبيات التي حفظتها الذاكرة في زمان لا شيء يعكرها.. حيث كانت ملكة الحفظ قوية.. فلا قنوات ولا ضجيج.. المهم تحققت رغبتي حين أعطاني ابن عمتي مولانا القاضي طه إبراهيم الذي كان يومها طالباً بحنتوب قصيدة الشاعر الشهيد هاشم الرفاعي.. أحد أبرز قيادات الاخوان المسلمين بمصر.. التي نظمها قبل أن يساق الى مغصلة الإعدام.. والتي تحمل عنوان (رسالة في ليلة التنفيذ) والتي يقول فيها: ابتاه ماذا قد يخط بناني والحبل والجلاد منتظران.. هذا خطابي اليك من زنزانة صخرية الجدران.. ويهزني ألمي فأنشد راحتي في بضع آيات القرآن).. الى أن يقول: (والصمت يقطع رنين سلاسل عبثت بهن أصابع السجان ..من كوة بالباب يرقب صيده.. ويعود في أمن الى الدوران).. ذهبت الى أستاذي وقدمت له القصيدة مكتوبة بخط واضح بقلم حبر (تروبن) فقراءها.. فالتفت إليّ وقال لي (إنت عارف إذا ألقيت القصيدة دي حتدخل السجن لأنها ممنوعة.. فقلت له وبحزن (خلاص أخليها يا أستاذ).. لكنه و(بنهرة) قوية من صوتة الجهور قال لي (لا يا جبان تقراها).. فأحسست بفرح داخلي يملأ جوانحي فصار يدعوني في الفسحة.. ليراجع معي قراءتها.. عملية تدريب للدخول لمنبر الجمعية.. الى أن كان اليوم الذي ملأني زهواً.. يوم أن وقفت القي القصيدة بزهو وافتخار.. والجميع يصفق وهم لا يدرون أن الأولى بالتصفيق.. هو أستاذي بابكر حسنين.. المربي العظيم الذي زرع في دواخلنا الشجاعة الأدبية وحب الشعر.. فالمسألة لم تنتهِ عند الجمعية الأدبية.. بل أن الأستاذ بابكر عليه الرحمة والمغفرة أدخل القصيدة الى دفاترنا كمادة شعرية تضاف الى (المحفوظات) متجاوزاً منهج المحفوظات.. بل ذهب الى أن اختار لنا قصائد أُخر خارج المنهج.. حفظناها عن ظهر قلب.. وما زالت هذه القصائد محفوظة في ذاكرتي.. مثل الجندول للشاعر المصري علي محمود طه المهندس.. «أين من عيني هاتيك المجالِ يا عروس البحر ويا حلم الخيال».. وكذلك قصيدة وطن النجوم للشاعر إيليا أبو ماضي.. وقصيدة للشاعر أبو طراف النميري.. وهنا صوت يناديني للراحل ادريس جماع.. كل هذه الدرر حفظناها عن ظهر قلب وعمرنا لم يتجاوز الاحد عشر عاماً.. فشتان ما بين زماننا وهذا الزمان.. وتمر الأيام والسنون.. وأعوام من عمري تمضي لأكتشف إجابة السؤال الذي لم أسال عنه أستاذي الراحل.. فلم أسأل أستاذي لماذا أُسجن بسبب قصيدة الشاعر هشام الرفاعي.. فاكتشفت أن هذه القصيدة.. قيل إن الطيار الصادق محمد الحسن الذي أعدمته حكومة عبود وفي المحاولة الانقلابية الشهيرة انقلاب علي حامد قد بعث بهذه القصيدة الى أسرته الصغيرة بودمدني.. فالطيار الصادق محمد الحسن.. من أبناء المناقل وقد تم إعدامه مع زملائه علي حامد ويعقوب كبيدة وعبد البديع علي كرار من قرية الدناقلة شرق مدني وعبد الحميد عبد الماجد شقيق الشاعر كامل عبد الماجد (الجزيرة).. ويلحظ أن هذه العملية الانقلابية أعدم فيها ثلاثة من أبناء الجزيرة. فقصيدة هاشم الرفاعي كانت مدخلاً لي للتعلق بالأدب ولا سيما الشعر.. فأنا مدمن بقراءة الشعر دارجه وفصيحه.. فهذا الإدمان كان وراءه أستاذي الراحل بابكر حسنين.. وأساتذة من بعده.. إلتقيتهم في المرحلة الثانوية.. كانوا أدباء وفطاحلة في الشعر.. الشاعر المجيد بشير سر الختم ومحمد عبد الله الفرزدق.. وأستاذ النقد الادبي علي الخليفة (الكاملين).. ومحمد عثمان الريح.. وأستاذ النحو سيد أحمد مصطفى والأستاذ العلامة الذي درسنا (الفية ابن مالك الأستاذ عبد الرحمن الأمين (المسعودية).. فجزاهم الله عنّا كل خير وتبقى رسالة في ليلة التنفيذ.. تشع في الذاكرة تحملني الى زمان الوصل في المسلمية الوسطى.. أو مدني أو منتديات الأدب يوم أن كان للشعر أسواق و(زبائن).. فالشعر من نفس الرحمن مقتبس.. والشاعر الفذ بين الناس رحمن..