محدودية الانتشار وضعف التأليف والبنية و غياب أساليب التطوير يتعذر كثير من الفنانين و المهتمين بأمر الموسيقى السودانية بأسباب لاتمت للواقع بصلة عن محدودية انتشار الموسيقى والغناء السوداني وانحصاره في الحدود الاقليمية فقط وعدم اجتيازه الحدود أو عدم كسره حاجز الاستماع الدولي وطرق ابواب المجتمعات والمحافل العربية، على رأس تلك الأسباب استخدام السلم الخماسي، وهو عذر مشابه لما يتمسك به اهل الدراما عن محدودية انتشار الدراما السودانية (على قلتها) وارجاعه الى استخدام اللغة العامية السودانية التي تعتبر هي اقرب للعربية من أي لهجة عربية اخرى، والرد على هؤلاء هو انتشار الدراما المصرية رغم استخدامها للعامية المصرية الموغلة في المحلية. ولسنا هنا في هذه العجالة بصدد اجراء بحث عن الموسيقى السودانية ومجهودات التأليف ومستويات التذوق العام وانتشارها داخل وخارج الوطن وما الى ذلك ، ولكن قصدنا مجرد اثارة هذه المسألة وتسليط الأضواء عليها حتى يتسنى لذوي الاختصاص والنقاد في هذا المجال التصدي للأمر واستقصاء جميع الجوانب التي تؤثر على ذلك الأمر. اذن السبب ليس هو السلم الخماسي وإلا لكانت الموسيقى الصينية حبيسة الحدود الصينية داخل سور الصين العظيم، ولكان (المامبو السوداني) ليس بدرجة الانتشار والشيوع الذي عرف به. وعليه يجب على المعنيين بالأمر البحث عن سبب آخر مقبول لمحدودية انتشار الموسيقى والغناء السوداني غير عذر السلم الموسيقى. والسؤال هو لماذا انتشر (المامبو السوداني) وبعض أغاني الراحل سيد خليفة التي وجدت حظها من الانتشار والذيوع خارج الحدود شأنها شأن العديد من اغاني بعض المطربين السودانيين التي انتشرت في اثيوبيا والصومال وبعض الدول المجاورة. وهناك امثلة اخرى على انتشار موسيقانا واذكر هنا على سبيل المثال انه ابان فترة عملي في جزيرة مالطا وفي ذات يوم عندما كنت في احدى دور السينما وأثناء فترة الاستراحة استمعت الى معزوفة موسيقية تضمنت ولدهشتي موسيقى سودانية بحتة هي لحن اغنية الراحل المبدع الفنان احمد المصطفى الشهيرة (الوسيم) التي كانت مطيتنا ونحن صغار لتعلم العزف على (الصفارة) لسهولتها وعذوبتها. وبعد نهاية عرض الفيلم عمدت مباشرة الى غرفة التشغيل وسألت عن المسئول الذي اوضح لي أن هذه موسيقى جيتار اسبانية تعزفها احدى الفرق الاسبانية المشهورة، وحدثته عن مثار سؤالى وأن هذه الموسيقى سودانية مائة في المائة وأنها لأحد فنانينا المشهورين المبدعين، فإن كان هناك اقتباس أو غير ذلك فحتما الأسبان هم المقتبسون، وقد علقت على هذه الواقعة في حينها على صفحات جريدة (الصحافة) السودانية، وبالطبع لاتزال الوسيم هي احدى الدرر الموسيقية السودانية التي تعتز وتفخر بها الموسيقى السودانية. بالطبع هناك محاولات وجهود فردية تمثلت في تسليط الضوء على التراث والهوية الموسيقية السودانية قام بها بعض الفنانين كخطوة لتعزيز وفهم وانتشار الموسيقى السودانية ولكنها كانت ذات اثر محدود للغاية لم يتعد نطاق ضيق لبعض المجتمعات او المهتمين بالتراث الموسيقي السوداني. هذه مجرد خواطر داعبت وجداني وأنا اشاهد أحد البرامج العامة التي تبث من القناة الفضااية السودانية ( التلفزيون القومي) ولكن بشعار موسيقي مأخوذ من موسيقى عالمية، واذا الستعرضنا معظم شعارات البرامج المقدمة في القنوات الفضائية والاذاعات السودانية التي زاد عددها والحمد لله، نجد أن نسبة كبيرة منها اجنبية على خلاف ما كان سائدا من قبل حيث اشجتنا الموسيقى السودانية التي كانت اساس وركيزة معظم شعارات البرامج من بينها موسيقى وشعار البرنامج الجماهيري واسع الانتشار الذي يبث من اذاعة (هنا امدرمان) مايطلبه المستمعون وبرنامج ربوع السودان وغيره من البرامج الناجحة في ذلك الوقت، هذا كان واقعنا الموسيقى رغم قلة عدد الموسيقيين الذين اثروا الساحة الموسيقية بمقطوعاتهم ومعزوفاتهم الموسيقية الراقية التي نافست الموسيقى العالمية وشهد لهم جمهور المستمعين والمتذوقين ، وعلى سبيل المثال نذكر الفنان الراحل برعي محمد دفع الله ومكي سيد احمد واسماعيل عبد المعين وابراهيم الكاشف وأحمد مرجان وغيرهم. وأود أن أنوه في هذه السانحة لظاهرة غريبة غير مبشرة بخير في ظل الظروف الحالية التي من المفروض أن تكون فيها الموسيقى السودانية في وضع أفضل من ذي قبل، وهي ظاهرة استخدام موسيقى اجنبية مصاحبة لدخول سيرة العروسين لصالة الفرح (العرس) أي الزفة وتحديدا هي موسيقى مصرية معروفة، رغم ان الموسيقى السودانية غنية بمثل هذا النوع من اللونية المعروفة والمصاحبة في مثل تلك المناسبات. وفي تصوري هذا تجني على تراثنا وموروثاتنا وعاداتنا وتقاليدنا يدل على افلاس وجهل أولئك القائمين على أمر تنظيم تلك الحفلات بالتراث السوداني الأصيل المبدع الذي بلغ شأوا بعيدا وغني عن التعريف في هذا المجال. وهذا يذكرني بمقولة منسوبة لأحد الفنانين (الشباب) المقلدون الذين يقلدون بأسلوب (حبشي بحت) يقول فيها أنه (سيحبش الأغنية السودانية)، رغم أن اخواننا في اثيوبيا عيال على فننا السوداني و(يموتون) في روائع الفن السوداني خاصة أغاني الفنان المبدع وردي والراحل سيد خليفة وهم على خطاهم سائرون، عفوا لهذا الاستطراد. موسيقى القوات المسلحة هذا فضلا عن دور فرقة موسيقى القوات المسلحة البارز في نشر وذيوع موسيقى المارشات العسكرية والتي عزفت الحان الأغاني السودانية في المناسبات والأفراح واسهامات المبدعين فيها من عازفين وموسيقيين في رفع مستوى الاداء الموسيقى الاوركسترالي والفردي على نطاق واسع في ذلك الوقت الذي كانت فيه رصيفاتها الاخرى التابعة للشرطة في مدن السودان المختلفة تحمل نفس اللواء وترفع الاهداف ذاتها الرامية الى تطوير الموسيقى والألحان السودانية وكذا فرق الجاز المدرسية التي كانت تنتهج نفس الأسلوب. لقد خرجت موسيقى القوات المسلحة ورصيفاتها في الشرطة ثلة لا يستهان بها من الموسيقيين والمبدعين من العازفين المعروفين في الوسط الفني . الموهبة هي الركيزة الأساسية في تلك الأجواء التي كانت فيها المواهب الفذة تمسك بدفة قيادة سفينة الفن والموسيقى السودانية، كانت البلاد خلوا من أي مؤسسة أو كيان اكاديمي موسيقي. وبالرغم من ذلك شهدت البلاد نهضة موسيقية وغنائية أفرزت العديد من الأفراد الأفذاذ والمواهب والنوابغ في مجال الشعر والغناء والتأليف الموسيقي الذي بلغ ذروته حيث أفرز ذلك الكم الهائل من التراث والانتاج الفني. والآن والبلاد تعج بالمؤسسات التعليمية الموسيقية وخريجي المؤسسات الموسيقى العالمية ولكن لا نلمس لهم ذلك الأثر الذي ينبغي ان يكون، بل ان معظم من في الساحة يمسك بعصا التقليد منحرطا في دوامة التخلف والذين توهموا أنهم يمسكون بعصا التغيير والتطوير طاشت افكارهم وتشتت وحادت عن الجادة ظنا منهم أن التجديد والتطوير يعني ادخال آلات غربية وانماط غريبة على الهوية الموسيقية السودانية دون مراعاة لأهمية الموهبة. وقام بعض دعاة التجديد من الشبان الموسيقيين بعملية توهموا أنها (توزيع) للموسيقى والتراث لكنها كانت في واقع الأمر عملية (تضييع) ومسخ للتراث الموسيقي ونزع ديباجة هويته والصاق ديباجة (الغربنة) على تلك الالحان التي عهدنا فيها التطريب والايقاع المرح الجزل السريع الذي يعبر حقيقة عن واقعنا وايقاع حياتنا السريع الطروب، نزعوا الثوب المميز لموسيقانا وألبسوها بل جردوها من كل صفاتها ومقوماتها الدالة عليها، فأصبحت بعيدة عن التطريب قريبة الى (التغريب)، لاتمت الى واقعنا ووجداننا بصلة. وغني عن القول أن المعاهد والجامعات لاتخرج مبدعين أو أفذاذا دون أن يكونوا في حقيقة الأمر ممسكين بناصية الموهبة ويحملون بذرة النبوغ، فالكاشف وأقرانه والرعيل الأول من المبدعين كانوا قمما في التأليف والتوزيع الموسيقي يوم كانت البلاد بمعزل عن الدراسة الأكاديمية الموسيقية وخلوا من أي جهة تعليمية عامة تختص بالموسيقى والآلات الخاصة بها ودراسة علم الأصوات. وكان ان ازدهرت الموسيقى السودانية في عهدهم على اجتهادات فردية ومجهودات شخصية بحتة كانت ترتكز اساسا على بذرة الموهبة والابداع الفطري المتجذر في اعماق تلك الفئة من الموسيقيين والشعراء والفنانين الأفذاذ. الاهتمام بالتراث خلاصة القول نحن نتساءل الى متى نقدم الموسيقى الاجنبية في شعارات برامجنا، أين الموسيقى السودانية والتراث وأين الموسيقي السوداني الملهم ؟ أين المواهب السودانية التي سمعنا عنها كثيرا؟ ارجو ان يجدوا حظهم في أجهزة الاعلام، كما نأمل من القائمين على هذه الأجهزة ومعدي ومنتجي البرامج أن يسعوا ما أمكن الى الاهتمام بالموسيقى والتراث السوداني والعمل على اختيار الموسيقى السودانية ضمن شعارات البرامج التي تقدم عبر شاشات الفضائيات والاذاعات السودانية ونخص التلفزيون والاذاعة القومية. وأستطيع أن أؤكد ان مكتيتي الاذاعة والتلفزيون تعجان بالعديد من أشرطة المقطوعات الموسيقية لكثير من المبدعين والموسيقيين السودانيين أمثال برعي دفع الله ومكي سيد أحمد وبشير عباس واسماعيل عبد المعين وغيرهم من الموسيقيين الذين أثروا هذا الجانب وقاموا بتأليف المقطوعات الموسيقية المشهورة، وقامت بمساندتهم فرقة موسيقية تتألف من العديد من العازفين العصاميين المبدعين الذين اثبتوا وجودهم وأثروا الساحة الفنية بعزفهم الاوركسترالي المتفوق والمتفرد بمستوى رفيع مبدع كان محل اعجاب كبار الموسيقيين العالميين المهتمين بالموسيقى السودانية أو الذين زاروا البلاد، فأين نحن من هؤلاء؟؟؟؟