الأمر لا يتعلق بالإسلاميين أو الشيوعيين أو غيرهم    الخارجية: رئيس الوزراء يعود للبلاد بعد تجاوز وعكة صحية خلال زيارته للسعودية    الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي يستقبل رئيس وزراء السودان في الرياض    شاهد بالفيديو.. فنانة سودانية تنفجر غضباً من تحسس النساء لرأسها أثناء إحيائها حفل غنائي: (دي باروكة دا ما شعري)    طلب للحزب الشيوعي على طاولة رئيس اللجنة الأمنية بأمدرمان    الخلافات تشتعل بين مدرب الهلال ومساعده عقب خسارة "سيكافا".. الروماني يتهم خالد بخيت بتسريب ما يجري في المعسكر للإعلام ويصرح: (إما أنا أو بخيت)    تعاون مصري سوداني في مجال الكهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. بأزياء مثيرة.. تيكتوكر سودانية تخرج وترد على سخرية بعض الفتيات: (أنا ما بتاجر بأعضائي عشان أكل وأشرب وتستاهلن الشتات عبرة وعظة)    البرهان: لن نضع السلاح حتى نفك حصار الفاشر وزالنجي وبابنوسة    ترامب : بوتين خذلني.. وسننهي حرب غزة    شاهد بالصورة والفيديو.. حصلت على أموال طائلة من النقطة.. الفنانة فهيمة عبد الله تغني و"صراف آلي" من المال تحتها على الأرض وساخرون: (مغارز لطليقها)    شاهد بالفيديو.. شيخ الأمين: (في دعامي بدلعو؟ لهذا السبب استقبلت الدعامة.. أملك منزل في لندن ورغم ذلك فضلت البقاء في أصعب أوقات الحرب.. كنت تحت حراسة الاستخبارات وخرجت من السودان بطائرة عسكرية)    نادي دبيرة جنوب يعزز صفوفه إستعداداً لدوري حلفا    يوفنتوس يجبر دورتموند على التعادل    أول دولة تهدد بالانسحاب من كأس العالم 2026 في حال مشاركة إسرائيل    900 دولار في الساعة... الوظيفة التي قلبت موازين الرواتب حول العالم!    "نهاية مأساوية" لطفل خسر أموال والده في لعبة على الإنترنت    د.ابراهيم الصديق على يكتب: معارك كردفان..    رئيس اتحاد بربر يشيد بلجنة التسجيلات ويتفقد الاستاد    عثمان ميرغني يكتب: المفردات «الملتبسة» في السودان    إحباط محاولة تهريب وقود ومواد تموينية إلى مناطق سيطرة الدعم السريع    محمد صلاح يكتب التاريخ ب"6 دقائق" ويسجل سابقة لفرق إنجلترا    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل خاص حضره جمهور غفير من الشباب.. فتاة سودانية تدخل في وصلة رقص مثيرة بمؤخرتها وتغمر الفنانة بأموال النقطة وساخرون: (شكلها مشت للدكتور المصري)    السعودية وباكستان توقعان اتفاقية دفاع مشترك    المالية تؤكد دعم توطين العلاج داخل البلاد    غادر المستشفى بعد أن تعافي رئيس الوزراء من وعكة صحية في الرياض    تحالف خطير.. كييف تُسَلِّح الدعم السريع وتسير نحو الاعتراف بتأسيس!    دوري الأبطال.. مبابي يقود ريال مدريد لفوز صعب على مارسيليا    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا ود القضارف يسخر من الشاب السوداني الذي زعم أنه المهدي المنتظر: (اسمك يدل على أنك بتاع مرور والمهدي ما نازح في مصر وما عامل "آي لاينر" زيك)    الجزيرة: ضبط أدوية مهربة وغير مسجلة بالمناقل    ماذا لو اندفع الغزيون نحو سيناء؟.. مصر تكشف سيناريوهات التعامل    ريال مدريد يواجه مرسيليا في بداية مشواره بدوري أبطال أوروبا    ماذا تريد حكومة الأمل من السعودية؟    الشرطة تضع حداً لعصابة النشل والخطف بصينية جسر الحلفايا    شاهد بالصور.. زواج فتاة "سودانية" من شاب "بنغالي" يشعل مواقع التواصل وإحدى المتابعات تكشف تفاصيل هامة عن العريس: (اخصائي مهن طبية ويملك جنسية إحدى الدول الأوروبية والعروس سليلة أعرق الأسر)    إنت ليه بتشرب سجاير؟! والله يا عمو بدخن مجاملة لأصحابي ديل!    وزير الداخلية يترأس إجتماع لجنة ضبط الأمن وفرض هيبة الدولة ولاية الخرطوم    في أزمنة الحرب.. "زولو" فنان يلتزم بالغناء للسلام والمحبة    إيد على إيد تجدع من النيل    حسين خوجلي يكتب: الأمة العربية بين وزن الفارس ووزن الفأر..!    ضياء الدين بلال يكتب: (معليش.. اكتشاف متأخر)!    في الجزيرة نزرع أسفنا    من هم قادة حماس الذين استهدفتهم إسرائيل في الدوحة؟    مباحث شرطة القضارف تسترد مصوغات ذهبية مسروقة تقدر قيمتها ب (69) مليون جنيه    في عملية نوعية.. مقتل قائد الأمن العسكري و 6 ضباط آخرين وعشرات الجنود    الخرطوم: سعر جنوني لجالون الوقود    السجن المؤبّد لمتهم تعاون مع الميليشيا في تجاريًا    وصية النبي عند خسوف القمر.. اتبع سنة سيدنا المصطفى    عثمان ميرغني يكتب: "اللعب مع الكبار"..    جنازة الخوف    حكاية من جامع الحارة    حسين خوجلي يكتب: حكاية من جامع الحارة    تخصيص مستشفى الأطفال أمدرمان كمركز عزل لعلاج حمى الضنك    مشكلة التساهل مع عمليات النهب المسلح في الخرطوم "نهب وليس 9 طويلة"    وسط حراسة مشددة.. التحقيق مع الإعلامية سارة خليفة بتهمة غسيل الأموال    نفسية وعصبية.. تعرف على أبرز أسباب صرير الأسنان عند النوم    بعد خطوة مثيرة لمركز طبي.."زلفو" يصدر بيانًا تحذيريًا لمرضى الكلى    الصحة: وفاة 3 أطفال بمستشفى البان جديد بعد تلقيهم جرعة تطعيم    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الحوار الوطني السوداني: مخاطبة جذور الأزمات أم استمالة واحتواء المعارضين .. بقلم: نصرالدين عبدالباري*
نشر في سودانيل يوم 22 - 12 - 2016

تمت كتابة النسخة الأصلية من هذا المقال باللغة الإنكليزية بتكليف من المؤسسة الدولية للديمقراطية والعون الانتخابي (International IDEA) ونُشرت بموقعها (ConstitutionNet)، الذي يدعم بُناة الدساتير ويتابع التطورات الدُستورية في العالم.
مقدمة
أصبح السودان، الذي كان مداراً فعلياً بواسطة بريطانيا، رسمياً دولةً مستقلةً في العام 1956 نتيجة لممارسة حق تقرير المصير من مصر، التي كانت وقتئذٍ شريكاً صورياً في الحكم الثنائي الذي تقاسمته—بلا صلاحيات حقيقية—مع بريطانيا. ولم يحدد إعلان الاستقلال الصادر بالتاسع عشر من ديسمبر/كانون الأول 1955 أيَّة مبادئ تتأسس عليها الأمة التي نالت استقلالها حديثاً، كما أنه لم يحدد أيَّ نظام للحوكمة في الدولة التي تمتاز بتنوع هائل. ذلك أن تركيز النُخَب كان كله حينئذٍ منصباً حول نيل الاستقلال من الحكم الثنائي دون خطة لمرحلة ما بعد التحرر من الحكم الأجنبي. وبُعيد الاستقلال، ورثت زمرة من الأغلبية المسلمة والعربية السلطة التي استخدمتها للدفع بسياسات استيعابية كانت الغاية من ورائها هي بناء أمة متجانسة من شعوب متباينة، الأمر الذي أضر كثيراً بوضعية ومركز المجموعات السكانية في جنوب السودان، على وجه الخصوص، وأطراف السودان الأخرى، على وجه العموم.
وظل تاريخ السودان بسبب انعدام الفكر والرؤية، مشوباً بالحروب الأهلية والنزاعات والانقلابات العسكرية وتدمير المناطق الطرفية التي قاومت التسلط والسياسات المركزية الإقصائية، التي أدت بشكل خاص إلى انفصال الجنوب في يوليو/تموز من العام 2011. وفي ظل هذه الظروف المتقلبة، المتداعية، وتخبط النُخَب السياسية التي تعاقبت على الحكم، لم يكن غريباً أن السودان حُكم بسبعة دساتير، فضلاً عن العديد من المراسيم والأوامر الجمهورية. ولذلك فإن تاريخ السودان بعد الاستقلال هو في الحقيقة والواقع تاريخ تدور أحداثه حول البحث عن دُستور "دائم،" بمحاولة أيّ نظام سياسي جديد تبنِّي دُستور جديد لم يُكتب لأيٍّ منها البقاء طويلاً. ويحكم السودان في الوقت الحالي الدُستور الانتقالي للعام 2005، الذي تم تبنيه في أعقاب التوصل إلى اتفاقِ سلامٍ مع متمردي جنوب السودان السابقين.
إن هذا التاريخ المضطرب والصراعات المسلحة الجارية يحتِّمان على السودانيين الانخراط في حوار وطني وعملية بناء دُستوري لتحديد المبادئ التأسيسية للدولة وأسس حكمها، لاسيما فيما يتعلق بالعلاقة بين المناطق المهمشة، الممزقة بالحروب (كدارفور وجبال النوبة والنيل الأزرق) والشعوب السودانية المضيمة (كالبجا والنوبة والفونج)، من ناحية، والمركز، من ناحية أخرى. فالحوار الوطني كفكرة هو من حيث المبدأ أمر ضروري لإيقاف الحروب والشروع من بعد ذلك في بناء الوطن وإشاعة التسامح بين عناصره المتخاصمة.
مواجهة بتحديات داخلية اقتصادية وأمنية وضغوط دولية مستمرة، ابتدرت الحكومة السودانية الحوار الوطني، الذي أدى، بعد قرابة الثلاث سنين، إلى ميلاد وثيقة تقع في 78 صفحة، وذلك في أكتوبر/تشرين الأول من العام 2016. لقد كان الحوار من حيث المبدأ خطوة مصيرية حُظيت بسند المجتمع الدولي، سيما الإتحاد الأفريقي، أكثر القوى الإقليمية الفاعلة في السودان أهمية. وقد شارك في الحوار 74 حزباً سياسياً و34 جماعة مسلحة. لكن منظمات المعارضة السياسية والجماعات الإثنية المسلحة الرئيسية قاطعت العملية مطالبة بعقد الحوار خارج السودان تحت رعاية الإتحاد الأفريقي، بعد اتخاذ التدابير الضرورية لبناء الثقة، بما في ذلك إنهاء الصراعات المسلحة وإلغاء القيود المفروضة على الحقوق والحريات الأساسية. هذا فضلاً عن أن تحمُّس السواد الأعظم من السودانيين للحوار كان، ولأسباب وجيهة، ضعيفاً، وكذلك كانت توقعاتهم.
خلال عملية الحوار، تبنَّت لجان مواضيعية بالإجماع التوصيات التي سوف تتم دسترتها في مقبلات الأشهر. وقد مُنح المشاركون فرصاً للتعبير عن رؤاهم وتبيين مواقفهم وذلك بعد نقاش عام حول قضايا محددة داخل هذه اللجان. فالمسائل التي كانت محلاً لإجماع المتحاورين تم تلخيصها، كما تم تلخيص القضايا التي كانت بحاجة لتحاور أسهب. وحيثما لم يؤدِ التحاور الأسهب إلى توافق في الرؤى، حُق لرئيس اللجنة إحالة المسائل المتنازع حولها إلى سكرتارية الحوار طلباً للتوفيق. كما كان يُحق لرؤساء اللجان دعوة خبراء أو متخصصين لإلقاء محاضرات حول القضايا المعيَّنة المتنازع حولها. وقد قامت لجنة التوفيق بالفصل في المسائل التي استحال الإجماع حولها. هكذا لم تكن عملية الحوار مفتوحة لعامة الناس. وكان غياب المشاركة الشعبية مسئولاً لحد كبير عن تشويه القضايا والنقاش حولها وعدم اهتمام عامة الناس بالحوار.
خطأ تشخيص المشكلات الأساسية أم مناورة سياسية متعمدة؟
انبنى الحوار الوطنى في السودان على افتراض خاطئ بيِّن وهو أن الحقائق السياسية والاجتماعية في السودان في العام 2014 هي ذاتها كما كانت قبل عقود مضتْ، حيث كانت الأحزاب السياسية وحديثاً الجماعات والحركات المسلحة هي الممثل الشرعي للسواد الأعظم من الشعب السوداني وتطلعاته. لكن الحق هو أن هذه الأحزاب والحركات لا تُحظى بسند الدوائر الانتخابية والأقاليم التي تزعم أنها تمثلها، ولا هي—أيْ الأحزاب والحركات—بأفعالها وفي غالب الأحيان بسياساتها تقدم حلولاً لمشكلات البلاد العسيرة، المزمنة. وفي واقع الأمر، ساهمت المنظمات التقليدية الرئيسية—سواء أكانت قاطعت الحوار أو شاركت فيه—بشكل أو بآخر في صنع الكثير من هذه المشكلات أو تعميقها. كما أن المجتمع السوداني شهد في العقود المنصرمة تشققات متصاعدة، فصارت القبلية والجهوية أو المناطقية أمراً محورياً في ممارسة السياسة في البلاد التي تتكون من شعوب كانت تعيش قبل إنشاء السودان الحديث مستقلةً في ممالك وسلطنات ومشيخات متناثرة في الأرض التي تسمى السودان اليوم. وقد برزت هذه التباينات الأساسية، التي أُخفيت مؤقتاً في غمرة الابتهاج بالقومية والوحدة في أعقاب الاستقلال، مرة أخرى وظلت تتصاعد باستمرار. ولذلك فإن الحوار الصادق والحقيقي ينبغي أن يشمل أقاليم وإثنيات وقبائل السودان، وليس فقط المنظمات السياسية الرئيسية، والحركات المسلحة، والشخصيات "القومية،" والحكومة، بغض النظر عن مدى عسر وأمد مثل هذا الحوار. وكان ينبغي أن يسبق الحوار الوطني، حوارات على مستوى الأقاليم، إذ أن هذه الحوارات الإقليمية لو أنها أُجريت، لأتاحت لمناطق السودان ومجموعاته الإثنية المختلفة سانحات عظيمة للتفاوض والاتفاق حول أجندتها ومطالبها وممثليها استعداداً للحوار الوطني الأكبر، وذلك بسبب وجود خلافات في المناطق أو الأقاليم يتوجب مخاطبتها وحسمها قبل الشروع في الحوار القومي الأشمل.
إن الحوار في تقديرات الحكومة السودانية وحساباتها لم يكن القصد منه التوصل لتحوُّل شامل يضع السودان على درب الديقراطية والحرية. وكان من أكبر آثار عدم استعداد الحكومة لتحوُّل حقيقي هو أن عملية الحوار تحوَّلت إلى عملية لاحتواء المعارضة—عملية تُستمال وتُحتوى بها المنظمات السياسية الواهنة المشارِكة، بغض النظر عن التوصيات، دون أن تشهد البلاد تغييراً جوهرياً. وبالنظر إلى أن الأحزاب والحركات التي شاركت في الحوار كانت في الحقيقة إما أحزاب وحركات منشقة، أو أحزاب وحركات لا وجود لها خارج قاعات الحوار، أو أحزاب وحركات لا خلافات حقيقية لها مع العصبة الحاكمة، تحوَّل الحوار إلى مونولونج (حوار أحادي). والتعديلات الدُستورية المقترحة، المتطرق إليها لاحقاً في هذا المقال، تؤكد السمة الاحتوائية هذه لعملية الحوار.
من البدهي أن الحوار الوطني يستلزم توفر مناخ ملائم. لقد تم الحوار الوطني السوداني دون خلق البيئة الملائمة، لا قبل الحوار ولا بعد تبني التوصيات. فمن بين تدابير أخرى كثيرة، كان ينبغي إلغاء القوانين المقيدة للحريات وحقوق الإنسان قبل الشروع في الحوار، كما أن السلطات الواسعة لجهاز الأمن والمخابرات في التفتيش والحجز والاعتقال دون أمر—وهي سلطات تستخدم لإرعاب نشطاء المعارضة وحقوق الإنسان—كان يتوجب تقليصها لحد كبير. إن مثل هذه التدابير التي تبْني الثقة ربما شجَّعت المقاطعين على الانضمام إلى الحوار. لقد كانت هذه التدابير ضرورية، لا ليتمكن المشاركون من التفكير والتحدث بحرية فحسب، وإنما كذلك لتمكين الإعلام، ومنظمات المجتمع المدني، والمواطنين الأفراد من التعبير عن آرائهم والاحتجاج دون خشية انتقام جهاز الأمن والمخابرات، الذي أصبح في الواقع إمبراطورية تفعل ما تشاء، بما في ذلك اغتيال الطلاب والمتظاهرين غير المسلحين. فأثناء الحوار وبعد تسليم المخرجات إلى رئيس الجمهورية، ظل سجناء سياسيون قيد الاحتجاز، كما أنه تم القبض على أفراد خرجوا محتجين من أجل حقوق ثابتة أو معترضين على سياسات مبتدعة مضرة.
التعديلات الدُستورية المقترحة: التراجع عن مظاهر الاعتراف والحريات؟
أدى الحوار الوطنى إلى تبنِّي وثيقة المخرجات التي سُميت "توصيات الحوار الوطني" في أكتوبر/تشرين الأول، التي يقتضي تنفيذها إجراء تعديلات دُستورية. ولم تخاطب هذه الوثيقة قضايا جوهرية كثيرة، على الرغم من اقتراحها تبنِّي الفدرالية والالتزام بمبادئ الفدرالية المالية، وهي نظام ضروري نظراً لتنوع السودان ومطالبات الحكم الذاتي المتواترة. فمسائل مثل حل جهاز الأمن والمخابرات والمليشيات الموالية له، والعلاقة بين المناطق التي تخوض حروباً ضد الحكومة والمركز، واستعادة نظام الأقاليم الذي كان سائداً عند الاستقلال، والذي سوف يسمح على سبيل المثال لدارفور بأن تكون إقليماً واحداً، لم تتم مخاطبتها أو معالجتها. فنظام الولايات الحالي ابتدعته الحكومة لتقوية إثنيات بعينها تحسب الحكومة أنها موالية لها، كما هو الحال فيما يتعلق ببعض المجموعات العربية في جنوب دارفور. وفي حالات أخرى، قوَّض هذا النظام القوة السياسية لبعض الإثنيات الكبيرة التي تُعد غير موالية للحكومة بتحوليها إلى إقليات في الولايات المنشأة حديثاً. ولعَّل المثال البيِّن على ذلك هو عِرقية الفور (أكبر عرقيات دارفور)، والتي كان دعمها أمراً فاصلاً في تحديد حاكم إقليم دارفور حينما كان موحداً. وعلى وجه العموم، فإن نظام الولايات الحالي أضعف الأطراف، لأنه لم يعد بمقدورها التحدث أو العمل ككتل موحدة في مواجهة الحكومة المركزية.
علاوة على الامتناع عن مخاطبة هذه المسائل الجوهرية والإسراف في تناول أخرى غير ذات أهمية، يلحظ المرءُ أن بعض التوصيات متناقضة أو غامضة حول قضايا ذات أهمية كبيرة. والمثال الجلي على ذلك هو التوصية المتعلقة بمسألة اللغة في السودان وعلاقتها بالدولة. إذ أوصت لجنة السلام والوحدة بأن "اللغة العربية هي اللغة الرسمية في جمهورية السودان، وتسمح الدولة بتطوير اللغات المحلية والعالمية الأخرى." بينما أوصت لجنة الهُوية بتطوير اللغات القومية، وتشجيع كتابتها وإدخالها إلى المدارس الأساسية ومناهج التعليم وتأسيس مركز للغات القومية. والتوصيات لا تحدد هذه اللغات القومية، والتي يبدو أنه تُرك أمر تحديدها إلى قانون اللغات القومية، الذي أوصت وثيقة المخرجات بتبنيه، بجانب قانون للهُوية.
إن تبني لغة قومية أو رسمية أو دسترة أو تقنين الهُويات مشكلة من المشكلات المزمنة للدولة السودانية. ففي المجتمعات المتنوعة، ينبغي أن تنأى الدولة بنفسها عن تبني لغة قومية أو رسمية أو دسترة هُوية واحدة بحيث تُقصى الهُويات الأخرى. وإذا كان لابد للدولة من القيام بذلك، فيتوجب عليها تبني جميع اللغات الرئيسية في الدولة. إن التوصية بتبني لغة واحدة لغةً قومية، إذا دُسترت، سوف ينتج عنها تكرار خطأ من الأخطاء الكارثية فيما يتعلق بهُوية السودان. إن تجارب شعوب أخرى مثل جنوب أفريقيا وإثيوبيا وماليزيا تبيِّن أن تبني جميع اللغات الرئيسية لغات قومية أو رسمية ولغات للتدريس هو أمر مفيد سياسياً وتعليمياً وفي التقديم الفعَّال للخدمات الحكومية. وفي هذا الصدد، فقد حَوَى دُستور العام 2005 الانتقالي أحكاماً أفضل فيما يتعلق باللغة، وعدم قيام وثيقة المخرجات بإعادة التنصيص على الأقل على تلك الأحكام هو في الحقيقة نكسة مؤسفة، ذلك أن السودان ما زال محتفظاً بتنوعه اللُغوي والثقافي حتى بعد انفصال الجنوب. إن الدُستور الانتقالي يعترف بكل اللغات الأصلية السودانية لغات قومية يجب احترامها وتطويرها وتعزيزها، كما يسمح للحكومات الولائية والمحلية بتبني أي لغةٍ لغةَ عملٍ رسمية، بجانب اللغة العربية والإنكليزية.
وفيما يتعلق بالديمقراطية وحرية التعبير، يمكن الإشارة إلى توصيتين إثنتين تبيِّنان بجلاء أن الحوار الوطني لم يكن المقصود به إحداث تحوُّل في السودان وأنه كان، في الحقيقة، منلوجاً ليس إلا. أولاً، وثيقة المخرجات توصي بأن يتم تعيين مدراء الجامعات بواسطة رئيس الجمهورية. وقد كان مديرو الجامعات إلى بداية التسعينيات من القرن الماضي يتم انتخابهم بواسطة الجامعات لضمان الحرية الأكاديمية واستقلالية مؤسسات التعليم العالي. هذه التوصية تعني بوضوح استمرارية الوضع الراهن. ثانياً، هنالك توصية بأن عقوبة السجن التي توقع على الصحفيين يتوجب تبديلها بالإيقاف عن الكتابة لمدة يحددها القانون. والأخيرة هي عقوبة يوقعها جهاز الأمن والمخابرات على الصحفيين الذين يكتبون عن قضايا لا ترغب فيها الحكومة. هذه التوصية سوف تؤدي إلى دسترة ممارسة غير مشروعة تتعارض وحرية التعبير.
التعديلات الدُستورية المؤقتة
من المتوقع أن يتم دمج توصيات وثيقة المخرجات في الدُستور "الدائم" للسودان. ومن المنتظر أن تقوم اللجنة التنسيقية العليا، برئاسة رئيس الجمهورية، بترتيب الأولويات والتوافق السياسي لتنفيذ التوصيات بالتشاور مع القوى السياسية المعنية. كما تقضي التوصيات بتكوين حكومة توافق وطني على المستوى المركزي ومستوي الولايات، تشارك فيها أطراف الحوار الوطني والأطراف الأخرى التي سوف تلتحق لتنفيذ المخرجات. ومن المتوقع تشكيل حكومة الوفاق الوطني بعد ثلاثة أشهر من إعتماد التوصيات (أي في يناير/كانون الثاني 2017)، وتستمر تلك الحكومة لأربع سنوات، تُجرى بعدها انتخابات لاختيار حكومة جديدة.
لتنفيذ جزء من مخرجات الحوار، وفي محاولة لتكوين ما يشبه حكومة شاملة، قامت رئاسة الجمهورية في السادس والعشرين من أكتوبر/تشرين الأول باقتراح ثلاثة تعديلات دُستورية رئيسية على دُستور 2005 لتعبيد الطريق لحكومة الوفاق الوطني. فأما التعديل الأول فيتعلق بإنشاء منصب رئيس الوزراء، والذي سوف يتم تعيينه ومجلس الوزراء، بحسب المقترح، بواسطة رئيس الجمهورية. من الناحية العملية، هذا يعني أن رئيس الوزراء خاضعٌ لرئيس الجمهورية. أما التعديل الثاني، فيتعلق بزيادة مقاعد البرلمان لاستيعاب أعضاء بالتعيين. وبالقاء نظرة على تفاصيل منصب رئيس الوزراء وزيادة مقاعد البرلمان، يتأكد للمرء أن عملية الحوار الوطني لم تكن سوى عملية احتوائية، سوف تخلق مواقع وظيفية لمن شاركوا فيها دونما إحداث تغييرات جوهرية.
أما التعديل الثالث المقترح، وهو إيجابي ومهم، فسوف يفصل منصب النائب العام عن وزارة العدل، وذلك بُغية زيادة استقلالية الأول. وعلى الرغم من أهمية هذا التعديل، إلا أن الفصل بين المنصبين لم يكن أبداً أمراً مثيراً للجدل، إذ ما برح الخبراء القانونيون السودانيون يحاججون بضرورة الفصل بين المنصبين. بعبارة أخرى، فإن التعديلات الثلاثة المقترحة لا علاقة لها في الأساس بمخاطبة المشكلات الجوهرية للبلاد، التي تسبِّب حروباً مدمرة في الأطراف وتقوِّض الانتقال نحو الديمقراطية. وفي هذا الصدد، فقد أقر تاج الدين بانقا، عضو الأمانة العامة للحوار الوطني، بأن ثمانية تعديلات مقترحة، جميعها متعلقة بالحريات والحقوق، قد تم إسقاطها.
ملاحظات ختامية
إن السودان، الذي يتكون من أمم وشعوب متباينة، دولة أنشأتها قوى استعمارية وإمبراطورية. وكانت للأمم والشعوب التي يتكون منها السودانيون اليوم مملكاتها وسلطناتها ومشيخاتها القائمة على تقاليدها القبلية والإثنية الراسخة. وقد كان فشل الذين ظلوا يحكمون السودان في تأسيس نظام للحوكمة يضمن العدالة، والتمثيل وبالتالي الديمقراطية، والسلام، والاستقرار للسودان سبباً رئيسياً وراء فشل السودان كدولة. وكان من الممكن أن يكون الحوار الوطني فرصة عظيمة لوضع السودان في المسار الصحيح، لكن الظروف والمقاصد التي أُبتدرت وأُديرت به والأطراف المشاركة فيه حوَّلته إلى عملية زائفة وغير مجدية. والتوصيات التي ظهرت في وثيقة المخرجات تؤكد ذلك.
إن التعديلات الدُستورية المقترحة، والكثير من تلك التي سوف تُجرى عقب تكوين الحكومة الجديدة، ليست سوى حزمة إجراءات لاحتواء المنظمات السياسية التي شاركت في الحوار الوطني. إن الحوار الوطني الحقيقي ينبغي أن يكون بين أقاليم وإثنيات السودان للاتفاق قبل كل شيء على المبادئ التأسيسية لدولة سودانية جديدة تتمتع فيها أقاليم السودان بدرجة عالية من الحكم الذاتي وتمثيل منصف في الحكومة القومية. وليس هنالك من شكٍ أن مثل هذا الحوار يقتضي تقليص سلطات جهاز الأمن والمخابرات على نحو كبير. هذا فضلاً عن أنه يتوجب الاتفاق على هيئة مستقلة بحق، يرأسها ويديرها أشخاصٌ أكفاء من كل مناطق السودان، لتسيير عملية الحوار.
* مستشار مستقل وطالب لنيل درجة الدكتوراة بكلية القانون بجامعة جورجتاون.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.