الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إقصاء الزعيم!    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



حكاية اللّوري .. بقلم: الصادق عبد الله عبد الله
نشر في سودانيل يوم 15 - 05 - 2015

كنت قد كتبت عن الجمل الذي كان سيد الموقف في النقل، إلى أن دخلت السكة الحديد فأزاحته عن الخطوط الطويلة، إذا كانت تلك هي طرق القوافل إلى البحر الاحمر، أو درب الاربعين أو غيرها من وإلى مناطق الانتاج. ثم ظهر اللوري الذي أبعد الجمل حتى من المشاوير القصيرة الأخرى إلى الاسواق والمزارع. وأبعد عنه كثير من راكبيه لاداء مهام رسمية او شعبية. فأول فئة انتقلت من ظهر الجمل إلى متون الشاحنات هم موظفي الحكومة الذين انتقلوا إلى الكومر والشاحنات الاخرى من ورثة الكومر. فاللمحات التالية تبحر بنا القادم الجديد (اللّوري) من الذاكرة الحية وبعض رحيق القراءة.
ما كنت أحسب أن تأخذ حكاية اللوري كل هذه الصفحات. غير أنها فعلت. وعلى يقين أن قراء كثيرون سيضيفون من تجاربهم ومن حكاياتهم مع اللوري ما لم تستدعيه ذاكرتي، وما لم يدر بخلدي. لكن إن طالت عليك القراءة، قارئي العزيز فيمكنك أن تقرأها من الآخر، فمثلها ربما يكون مثل فنجان القهوة والسكر يبقى فيه بعد إرتشافها. كم كان الصغار يحتفون بسكر الفنجان.
أغنية معلومة ومشهورة على ألحان وايقاع فرقة عقد الجلاد مع اللّوري، كما هي مع كاتب هذا العمل تقول: عليك الله يا اللوري.. عليك الرسول بوري. بابور ماشي بي ديشو .. بابور ماشي بي ديشو .. بابور حربي بي ديشو بابور ماشى طوالي.لقد ظهر في البدء البابور ناقل الجنود. ولا بد أن هناك علاقة وجدانية لشاعر الكلمات، ووجدانياتفي الثقافة والأدب نشأت بين اللوري وعموم أهل السودان. حتى أنّ اللوحة التي تعبّر عن السودان في مبنى الاتحاد الافريقي بالعاصمة الاثيوبية أديس أبابا هي لوحةيظهر فيها لوري أوستن تعرض للوحل ومجموعة من الناس تجره. لا بد أنها من قبيل حكاية اللوري قبل إنشاء الطرق، عندما كانت تكثر الأوحال فتتوقف اللّواري، ولا زالت في المناطق خارج طريق الاسفلت. فيقولون بكرة يجي الخريق واللّواري بتقيف.
لم يكن اللوري معروفاً في السودان حتى انقضت الحرب العالمية الأولى.. حيث سطر الشيخ بابكر بدري: أنه زار رفاعة فريق من ضباط الجيش الذي حارب بالميدان الغربي بفرنسا. جاء ضباط محمولين على لوريات (سيارات ناقلات جنود)، وكانت تلك أول مرة نرى فيها هذه الشاحنات (اللوريات). كان لنا أنا والشيخ عبدالله أبوسن، شرف وداعهم إنابة عن أهل رفاعة إلى قرية ود السيد. وقد كنّا قد أرسلنا حمارينا قبل التحرك، ومن هناك أتينا على حمارينا، بعد أن رافقنا الضباط على شاحناتهم. كان ذلك في العام 1918م..
تقول بعض البيانات المتناثرة في شبكة المعلومات،أنه بدأ انتشار الشاحنة (بابور الجاز) في العالم بعد أن استخدمت في الحرب العالمية الأولى لنقل الجنود في المعارك ، ثم حققت انتشارها في الحرب العالمية الثانية، خاصة في افريقيا (بابور ماشي بي جيشو .. بابور ماشي بي جيشو..) سميت في السودان في البدء ب(بابور جاز)، ولا تزال كلمة بابور تعني سيارة في الصومال. فالماكينة الأولى قبل الديزل كانت ماكينة البخار (فابورأو vapour). وقد سميت المركب التي تسير بقوة البخار بالباخرة، كما أخذت اسم بابور البحر. وكلمة لوري Lorry ، كلمة انجليزية تعني الشاحنة التي تستخدم ماكينة (الديزل). عندما ظهر اللوري سمي في السودان ب(بابور جاز)، ثم نحتت الكلمة إلى أوبرجاز. وكانت أغنية للسيرة تقول كلماتها: دوّر بينا البلد دا.. احرق الجزلين يا الأوبرجاز.. دوّر بي.. دوّر بي.. كما أخذت نفس الشاحنة اسم الترمبيل منحوتة من الكلمة الانجليزية أوتو موبايل Auto Mobile وتعني ذاتية الدفع. ولا بد أن الاسم الاخير جاء من حقيقة أن العربات كانت تجرها القاطرات أو حتى الاحصنة. وعندما ظهرت السيارة التي لها ماكينة منفصلة، سميت (أتوموبايل)، اي ذات الدفع الذاتي. وكذلك ظهرت مفردة موتور، والتي تعني المحرك. وبعض ما ينطبق على اللّوري هنا ينطق على السيارات الأخرى التي استخدمت لأغراض أخرى، إن كانت نقل ركاب أو نقل سوائل أو غيرها.
وعندما افتتحت شركة الفيات الايطالية فرعها في السودان في الثلاثينيات، كان من حظها أن يتخذ رجل أعمال وشاعر ومطرب رحلة على متن الشاحنة الفيات لتنتج أغنية يالسايق الفيات، قم بي وخد سندة بالدرب التحت تجاه ربوع سنجة.. وكلمة فيات FIATهي اختصار للجملة (Fabbrica Italiana Automobili Torino)، والتي تعني مصنع السيارات الايطالية بمدينة تورينو، التي افتتحت أول مصنع لها في العام 1899م.
غير أن هزيمة إيطاليا في الحرب العالمية الثانية أفقدها السوق السودانية لصالح المؤسسة البريطانية، هذا رغم أن الشاحنات الفيات ظلت تجوب مرتفعات الهضبة الاثيوبية ولا تزال الاجيال اللاحقة منها. ليفتح المجال في السودان واسعاً للصناعات البريطانية، لتنتشر بعدها السيارات من ماركة (BMC)البريطانية. وتعني British Motor Corporation . وقد كانت هناك أغنية من أغاني البنات تقول: السيرة بال بي ام سيه.. جر الجاز .. يا أبو الهادي سرح ليه. ربما ابو الهادي في هذا المقطع يعني الإمام عبدالرحمن الذي يكنى ب(ابوالصديق). ثم تعددت الماركات البريطانية، بدخول اسم موريس واوستن، وبدفورد.
وبدخول السيارات للسوق السودانية، فتحت شركات تسويق الشاحنات وكالاتها، ونشأت الورش لتجميع الشاحنات الواردة في صناديقها، وورش أخرى لصناعة الصناديق، ومخازن ومحال تجارية لبيع قطع الغيار ولبيع الإطارات والبطاريات، ثم ورش للصيانة في الخرطوم وفي المدن الكبرى، في كوستي وفي سنار وبالطبع بورتسودان وفي ام درمان. كانت صناديق السيارات مكتوب عليه اسم ختر، صانع صناديق السيارت. كما ظهر السماني الطيب في سنار وابوستة في الأبيض ونشأت مناطق صناعية في كل المدن تعنى بالقطاع.
وعلى ذكر صناديق اللواري، فقد تبنت ورش صناعة صناديق اللواري هيكل معلوم لصندوق الشاحنة يتكون بدءاً من صندوق من صاج الحديد تقام عليه ثلاثة اقواس من الزوايا المتينة. الأولى منها خلف غمرة القيادة وتملأ بالصاج لتكون ما يعرف (بالتندة)، والقوس الأخير هو ما يثبت عليه القضبان وباب الصندوق الخلفي وباب الشبك الخلفي، ويعرف بالمرايا. وقوس ثالث على بعد نحو متر أو أكثر قليلاً من المرايا يسمى بالزاوية ، يمثل دعامة داخلية للصندوق إلى جنبه دعامات أخرى تثبيت عليها القضبان الافقية. ثم تمدد خمسة قضبان أفقية متينة كل منها على نحو عشرين سنتمتر من الآخر. وتثبت القضبان بالبرشام. وهناك نوع آخر من الصناديق، عرف بالتخشيبة يتمثل في صندوق معظم مكوناته الخشب، ولا توجد فيه اثنين من الأقواس المذكورة في الصندوق الحديدى. عرفت صناديق التحشيبة أكثر في لوراي السفنجة. وفوق صناعة صناديق اللواري تخصصت بعض الورش في تعديل اللواري لتصير بصات لنقل الركاب. مشهورة ورشة كباشي علي ورجب مرسال بالمنطقة الصناعية الخرطوم.
وقد اضيف لجسم اللوري وصندوقه أدوات عديدة من الملحقات والاكسسوارات، منها السبت (التاج) الذي يصنع فوق غمرة القيادة وتوضع عليه صناديق الزوداة والتي تحفظ فيها مواد ومعدات صناعة الطعام.. وكثيراً ما يجلس مساعد اللوري أثناء سير اللوري بين صندوقي الزوادة.. كذلك هناك صندوق لأدوات الصيانة من مفكات ومفاتيح ورزدية وكمّاشة، وصندوق لحفظ الماء لغرض الوضوء والطبخ ومكان توضع فيه صفائح الوقود. وقد كان كثيراً من سائقي اللواري يعلق قربة لماء الشرب على أحد جانبي اللوري. ثم هناك مكان لحفظ رافعة العربة (العفريتة)، وكذلك قضيب المنفلة المعوج، الذي يحتقظ به لغرض بدء تشغيل ماكينة اللّوري. لذلك الغرض لابد أن يتمتع المساعد بالقوة و المنعة. كذلك يتم تثبيت معول (كوريق) أو اثنين على جنبتي اللوري أو في الخلف في باب الشبك. لاغراض المعالجة في حالة الوحل. كما يحتفظ في اللوري ببرميل لحفظ الوقود الإضافي، وكتلة من الخشب لتثبيت اللوري لكيلا يتحدرج في حالة التوقف في مكان غير مستوي. كما يحتفظ في اللوري بحبل سلبة لأغراط شد وثاق المنقولات، ولمآرب اخرى. هذا بجانب الاحتفاظ بعجل (إطار) إضافي لغرض التغيير في حالة حدوث عطب. هذا ويكتب في بعض أجزاء اللوري كلمات تشمل الدعاء، والتوسل أو الشعر أو الحكمة أو أسماء الأغاني ، مثل : سترك يارب، بسم الله مجراها ومرساها، هجام فريق ام زين، خريف الرّازة، ضنين الوعد، سليم الذوق .. الوسيم.. وغير ذلك.
ولقد شهدت الستينيات دخول موديلات متقدمة من اللواري. وتحولت مقدمة اللواري من اللون الاسود إلى ألوان ناصعة تسر الناظرين. ولقد بدأت صناعة السيارات منتجاتها باللون الأسود، بما في ذلك عربات الصوالين ، وظل اللون الاسود في السيارات الملكية والرئاسية.
لا بد أن لسياسات الحكومة الانتقالية في عهد سر الختم الخليفة أثر في ذلك. فقد تحولت مقدمة البي ام سي الأسود، والذي سمى بالداوودي (لا أدري من اين جاءت التسمية) إلى اللون الأبيض، وظهرت في مقدمة الشاحنة الانجليزية كلمة موريس بدلاً من الحروف الثلاثة BMC. ثم رويداً دخل اسم أوستن في ذات الشاحنة.. وقد شهدت بعض التعديلات في المقدمة منها الفوانيس المزدوجة والزينة الامامية، ثم الإشارة (الحلمات). ولقد وجدت الشاحنة الأوستن دعماً معنوياً عندما ظهرت أغنية الطيب عبدالله (أنت يالأبيض ضميرك.. في كلامك وابتسامك أحلى من زهر الربيع)، وهي من أعمال الحلنقي .. فسميت تلك الشاحنة بأبيض ضميرك. هناك أغنية عن السيرة بأبيض ضميرك لا أذكر منها شيء..
إلى جانب اللوري الاوستن، ظهر اللوري البدفورد والذي عرف بالسفنجة. ولقد كانت الموديلات القديمة منه سوداء المقدمة أيضاً، إلا أنه جاء باللون الاخضر بمشتقاته، لكن غلب عليه اللون الأزرق. وربما جاء اسم السفنجة من أنه كانت تأتي اللواري بدون صندوق، فقط يوضع عليها إطار من الخشب يجعل شكلها العام ما يشبه الحذاء الذي يعرف بالسفنجة. كذلك عرف اللوري السفنجة بصندوق الخشب (صندوق تخشيبة). هذا كما ظهرت في السودان وفي أوقات مختلفة أنواع من اللواري، منها التويوتا والنيسان والزوزو والمرسيدس. ومنه المرسيدس اب قرن و المريدس قدوم جرادة. والتيمس الفورد والتيمس قدوم قصير. وقد توزعت اللواري على رقعة السودان كان اللوري الأوستن سيد الموقف في سهل الجزيرة، والسفنجة في شمال البطانة ونهر النيل والشمالية، والتيمس بنوعيه في كردفان ودارفور. حتى إذا ما دخلت الشاحنات اليابانية من فصائل النيسان والتويوتا ماركة الهينو وأجيالها اللاحقة من الكي وايKY والزيد وايZY أخذت الميدان كتنلوجيا بديلة ذات كفاءة للعمل في الرمال وفي الأجواء الحارة. وقد زادت سعات اللواري من أقل من خمسة طن إلى عشرات الأطنان.وقد ظهرت شاحنة الرينو الفرنسية مع شركة دارفور للنقل والترحيل، وبالطبع ظهرت اماء وأحجام من شاحنات اخرى مع تععد المهام و التصميمات.
وقد نمت بالمقابل وظائف مرتبطة بالقطاع بدءاً من مهندسين وفنيين وسائقين ومساعدين..كما نشأت لغات وأداب حول هذا القطاع. فكلمات مثل داير أخت شنبر تعني أريد أن أتناول الطعام، قمت بنمرة خمسة، أي أسرعت، كاسر ملف، وغير ذلك. وبجانب نقل السلع والبضائع ، نقلت اللواري الناس، افراحهم واتراحهم. يقول الموثوقون لتاريخ الاغنية بأن أغاني التمتم نقلها مع مساعدي اللواري. بل وأن أغاني عريقة ذكرت اللواري أو توسلت باللواري لنقل التحية والتبريكات للغائب البعيد أو الوصول للحبيب البعيد. اللوري حل بي دلاّني في الودي... ركبوا اللّواري وقبلوا.. رسلي لي عفوك ينجيني من جور الزمان. وقبلها كانت أغنية الكابلي: يا ناس القوز علينا ظلم .. ياللّوري تشيل منو.. غير شباب نوري تشيل منو؟
بقي أن اللوري خلال القرن الماضي، منذ ظهوره، حمل على متنه أنماط وأخلاط من المنقولات. كانت المحاصيل بأنواعها هي المنقول الأوّل، إلى جانب الناس انفسهم الذين تخلوا طواعية عن ركوب الجمال والدواب والسير رجالاً. وقد كان الناس يفضلون لركوبهم اللوري الذي يحمل على متنه حمولة من جوالات الذرة. وقد كان وكلاء الشحن (الكمسنجية) يتقنون فن الشحن إلى السيخة الرابعة، وترك المساحة المتبقية لحمولة اللّوري من الناس.. كما كانت حمولات اللواري من القطن بطريقة معهودة ، وكذلك الفحم والحطب والسعف والبروش، كانت تزاد اسياخ اللّورى ببعض القضبان الخشبية وتسمى شحنة تكويشة، بمعنى أنها أعلى من المعدل. كذلك ينقل اللوري من المدينة والميناء من البضائع المصنعة وعلى رأسها السكر والشاي وغير ذلك. أما اللوري الذي يكبر ويشيخ فيوظف لنقل المنقولات المحلية، مثل الرمل والتراب، وعلف المواشي (القصب) من المزارع، كذلك لنقل الناس للأسواق القريبة، حتى إذا أصابه عطل في العجل أو في غيره، تجد الناس يتركونه ويواصلون سيرهم اقاريب (على اقدامهم)، ليترك المساعد حارساً له.
وكم كان الناس يصيبهم غبار الطريق وقتما كانت الطرق غير معبدة. وقد جاء ذكر العلال في قصيدة العبادي في أغنية الفيات (فارق الطريق ..وإتيمم الحلال.. زفنه الكلاب ما نالن إلا علال) وفي أغنية محمد جبارة (ناعم ترابا على هديماتم رقد) ليس الغبار وحده، ألا أنّ ركوب اللواري كان تحت الشمس المحرقة ، كا قال أحدهم (ركوب اللورى فوق شمسا تصر العين)، وكذلك المطر. كان يصيبهم الصداع والغثيان، خاصة لدى النساء، بسبب استنشاق رائحة الجازوضربة الشمس والاهتزاز في طريق الدقداق. واذكر أن الناس كان يخرجون للطريق ليؤشروا للواري بالتوقف، ذلك برفع عمامة أو رفع الأيادي. وقد يكون بينهم مريض جالس، أو مصطحبين حملاً أو عنزاً. أو بعض تلاميذ المدارس الراجعون لمدراسهم بعد عطلة نهاية الاسبوع. وقد كان في كل لوري مقاعد أمامية، وقد كانت قيمة أجرة مقعد أمامي أعلى من قيمة النقل في الصندوق الخلفي.
بقي أن اللوري في منطقة شمالي سنجة قد ظهر بقوة في منتصف الستينيات، ثم السبيعينات. حيث امتلك عمنا محمد حمزة لوري بي إم سي. وأوسع ظهور لذلك البي أم سي كان في الانتخابات، حيث تم التعاقد معه لنقل الناخبين. خلف ذلك البي أم سي لوري ابيض ضميرك، كذلك ظهر اللّوري أبيض ضميرك في أم شوكة لدى أعمامنا عبدالخالق محجوب، التاي حسن واخوانه ، ابراهيم وموسى مضوي. كان لوري أولاد مضوي مكتوب عليه بخط الرقعة (يا بدر وسلمان). كما كان فضل سائق لوري محمد حمزة يكتب في اللّوري كلمة المسالم ، ثم يتم بيع اللوري الأول وعليه كلمة المسالم ، فيكتب فضل المسالم 2، ثم ينتقل لثالث فيكتب عليه المسالم 3، ثم ينتقل مرة أخري ليكتب (المسالم ربك عالم). أظن فضل بعد ربك عالم تلك قد تقاعد للمعاش.
كما تحول بعض أهلنا لامتلاك اللوري. كان أولّ ظهور للأبيض ضميرك في عام تسعة وستين لعبيد محمد فضل، وقد انتقل عبيد رحمه الله من امتلاك بص كومر محلي إلى اللوري ثم تلته مجموعة منها في مطلع السبيعينات. وقد كتبتُ (أبولو) حيث كانت رحلة أبولو إحدى عشر الناجحة.. غير أن كتابتي كانت من الورق ، فلم تثبت. ثم توالت اللوري كان أولها لوري جمعية زينوبة. وقد شهد مطلع السبيعينات مواسم ناجحة لانتاج الذرة وكذلك البطيخ من الجروف. وقد تعددت اللوري بعدها، فكان حسن عبدالنبي، ثم أحمد هدية ، وتعددت الشراكات. وعلى إثر امتلاك اللواري ظهرت مهنة السائق والمساعد وسط الشباب، وقد كان عبيد محمد فضل سائق وصاحب ورشة صيانة. ثم آدم محمد عبدالله (قُدْيَر)، عمر أحمد دوكة، أحمد عجيل، إلى جانب اصحاب اللواري أنفسهم مهدي عجيل، حسين احمد هدية وآخرين. ثم تلاهم الجيل اللاحق والذي ظهروا في البدء في وظيفة المساعد. وقد كان من سائقي القرى المجاورة المشهورين وبعضهم كان صاحب لوري بنفسه: كان في دريبو ضوينا حمّاد، دريبو عبدالهادي، عوض مسبل والضو (حبيب) . ثم من الشلال درار، فريني ومحمد زين.
تفنن سائقو تلك اللواري في طريقة قيادة تلك اللواري ، حتى أنهم غيروا صوتها . فقد كانوا يربطون كوز (علبة فارغة في حجم علبة لبن البدرة من سعة الاربعمائة جرام) خلف المروحة، فتحدث العلبة صوتا ذا نغمة خاصة يطرب لها الناس مستخدمو اللواري في تلك الأيام، كما يتميز صوت اللوري ذلك حسب فنيات وضع تلك العلبة). يثير لدي صوت اللواري ذكريات موسم حصاد الذرة والبطيخ عندما يستأجر المزارعون في بحيرة خزان سنار الممتدة حتى أم شوكة والسوكي، عندما يستأجرون اللواري لنقل محصول الذرة والتي ربما يصل اللوري ليلاً، فيوقظ صوته الناس، تراهم يهرعون نحو المطامير لإفراغ تلك الشحنة . واللواري شاحنة البطيخ والتي تصدر من الجروف في منطقة سنار عصراً لتصبح باكراً في سوق الخضر المركزي بالخرطوم. كما كانت تتخذ اللواري لنقل سيرة العريس ويفضل اللوري الذي لديه كوز، فكم كان يتفنن السائقون في عزف موسيقى الكوز (وتُسمى السايرين) ربما جاءت من مفردة السيرة. يتم هذا بالانتقال بسرعة من ترس تقيل (نمرة اتنين إلى نمرة ثلاثة) بصورة مفاجئة هذا بعد تكرار الضغط على دواسة الوقود في نمرة أتنين، قد يجاوبه صوت من صبي يراقب ويطرب ليقول (ارفع) كأنه ضابط ايقاع أو سمه مايسترو أمام فرقة موسيقية.. فيأتي الانتقال السريع لنمرة ثلاثة، كأنما أخذت الماكينة نفساً مريحاً. ثم يعقب ذلك الرجوع مرة أخرى لنمرة اتنين (لكتمة نفس جديدة).
كان فَضُل سائق لوري عمّنا محمد حمزة الحسين، كان أكثر من يبدع في عزف السايرين، وكان الناس يفضلونه لنقل السيرة. كما كان الصغار يقلدون أصوات اللواري، خاصة عندما يرسل الواحد للدكان أو لمكان ما ويطلب منه سرعة الحضور، ليجري في الأرض كأنما تدفعه ماكينة، ليعود بالملح أو الشاي والسكر من الدكان . محدثاَ صافرة إيذاناً بقدومه، ثم أزيزياً عالياً وصافرةً ، إيذاناً باقترابه لينتهي بكابح (فرملة) قوية إلى جنب أمه، ليسلمها المشتريات ثم يغفل راجعاً حركة ورا بذات الأزيز والفرملة ثم العبور من حيث أتى. وإذا حدث أن نودي مرة أخرى قبل أن يغادر، فسيقبض فرملة قوية هذه المرة.
ولما للواري والسفر عبر اللواري أزمان سعيدة ومفرحة، عندما تنقل المحصول الوفير، أو حتى نقل سيرة عريس وموكبه الطروب، للّواري مآسي عندما ينقل خبر انقلاب بعضها، فيذهب الضحايا ويصيب بعضهم الأذي. اللهم ارحم من مضى منّا وأحسن ختامنا نحن الذين لا زلنا ننعم برحمتك وفضلك.
أما قصتي مع اللوري، فقد بدأت مع لوري محمد حمزة، البي ام سي. كنّا في درب المدرسة، وقد اغلقت المدرسة للانتخابات، فغفلنا راجعين باكراً من المدرسة. فإذا بنا نشاهد اللوري ونؤشر له. فيقف، وبدأ التلاميذ الصغار يصعدون. وأظنه كان في المقعد الأمامي ابن عمي الأكبر الكنن يعقوب، وكذلك ابن عمي بشري السيد أحمد الذين كانا مندوبين في تلك الانتخابات. وكلا الرجلين يمتازان بقدرة على الكتابة مع جمال الخط، بالطبع وبما يشهد لهما من رفعة اخلاق. فإذا بالكنن يناديني أن أصطحبهما في الأمام، فجذبني من يدي للداخل، بعد وضعت رجلي في بروز مخصص للصعود. فجلست بينهما بين خوف واشفاق وزهو. وقد رأيت مقدمة اللوري من الداخل، وأحسست بحرارة الماكينة، ورأيت ريشة النعام التي وضعت في أعلى مقدمة اللوري ترفرف أمامنا في تلك الرحلة التاريخية. بعدها تكرر اتخاذ اللوري، في ذات درب المدرسة. وقد كان يتعبني، حيث لا استطيع الصعود إلا عبر العجل، لقصر قامتي وعلو السلم الخلفي. كذلك كان من حظي المتقدم ، وحظ اخوتي من الفريق، احمد عبدالله، حسن التوم، وحسين التوم أن نذهب للفريق على كومر البطري في صحبة خالنا الهادي ود عبدالله ود عمر، حيث كان الكومر يجمع اللبن لصناعة الجبنة فيذهب يومياً للفريق. فقد كانت لنا رحلة شبه راتبة كل يوم خميس في العصر، ورجوع في ليلة السبت. وقد كان لي شرف الركوب في غمرة الكومر في مقعد أمامي.
بعد ذهابي خارج محيط الحلة والأسرة، كان اللوري هو الناقل الذي حملني إلى مدرسة كركوج، وقد ذكرت اللوري التيمس قدوم قصير الذي كتب عليه (ضنين الوعد)، الذي وجدناه في البنطون متأهباً للنزول، ثم اللوري السفنجة الذي اتخذناه إلى كركوج، وسفنجة أخرى لإبن عمنا الضو الفكي مكي، حيث كان يعمل في خط الشرق بين الرصيرص وسنار عبر كركوج والسوكي. لكن كان المشوار الأطول الذي اتخذته على اللوري السفنجة كان بين مدينة الدامر بطريق أبودليق، ود حسونة إلى الخرطوم بحري، في رحلة العودة من عطبرة في العام 1980 م في صحبة صديقى جمال الدين موسى يوسف، إذ كنّا في مامورية لجمع آثار من الخلاوي ومشايخ الطرق الدينية لصالح مشروع الاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري. بتنا فيها في ابي دليق في منزل صاحب اللوري وسائقه، وقدأكرمنا بالمبيت وبالطعام وبشاي الصباح.
وقد كانت مشاوير أخرى كتبت عليّ على ظهور اللواري ومشيتها بين سنار، ومدني للوصول إلى مدرسة حنتوب، في مطلع خريف العم 1974م حيث توقفنا في قنطرة كيلو سبعة وخمسين. بين الدويم وكوستي ، بين الدمازين وسنجة في العام 1985م. كان ذلك في الخريف وقد خرجت اللواري في قطار طويل، بلغ خمسة وثلاثين لوري. وبتنا ليلتنا في بلدة السريو، حيث نفحنا أهلها الكرام باطباق الطعام اللذيذ في ذلك اليوم المطير. كذلك تنقلت على متن اللواري بين سنار وكوستي، وبين الدويم وكوستي والأبيض وكادقلي، بين نيالا والفاشر. وقد كان مشوار نيالا الفاشر على متن لوري تيمس فورد.
أود ختام السرد عن اللوري بما ورد ضمن الأدب الراقي للأديب الطيب صالح في روايته موسم الهجرة للشمال، وضمن أسفار الراوي باللواري، جاء فيه :
حططنا رحالنا كما تحط أي قافلة رحالها. طعمنا وشربنا، صلى أناس العشاء . والسوّاق ومساعدوه أخرجوا من أضابيرهم قناني الخمر . وأنا استلقيت على الرمل وأشعلت سيجارة وتهت في روعة السماء. والسيارة أيضاً سقيت الماء والبنزين والزيت. وهي الآن ساكنة رابضة كمهرة في مراحها . وأنا الآن تحت هذه السماء الجميلة ، في ليلة مثل هذه تحس أنك تستطيع أن ترقى إلى السماء على سلم من الحبال.. السوّاق الذي كان صامتاً طول اليوم ارتفعت عقيرته بالغناء. صوت عذب سلسبيل لا تحسب أنه صوته. يغني لسيارته كما كان الشعراء يغنون لجمالهم:
دركسونك مخرطة وقايم على بولاد
وغير ست النفر الليلة ما في رقاد.
نحن هكذا وكل سيارة طالعة أو نازلة تقف، حتى اجتمعت قافلة عظيمة أكثر من مائة رجل طعموا وشربوا وصلوا وسكروا. ثم تحلقنا حلقة كبيرة. ودخل بعض الفتيان وسط الحلقة ورقصوا كما ترقص البنات. وصفقنا وضربنا الأرض بارجلنا وحمحمنا بحلوقنا. واقمنا في قلب الصحراء فرحاً للاشيء. جاء أحد بمذياعه الترانزسيتور، وضعناه وسط الدائرة. صفقنا ورقصنا على غنائه. خطرت لأحد فكرة، صّف إثرها السوّاقون سياراتهم على هيئة دائرة وسلطوا أضواءها على حلقة الرقص، فاشتعلت شعلة من الضوء لا أحسب أن تلك البقعة رأتها مثلها من قبل. زغرد الرجال كما تزغرد النساء، وانطلقت أبواق السيارات جميعاً في آن واحد. جذب الضؤ والضجة البدو من شعاب الوديان وسفوح التلال المجاورة، رجال ونساء، قوم لا تراهم بالنهاركأنهم يذوبون تحت ضوء الشمس. اجتمع خلق عظيم ودخلت الحلقة نساء حقيقيات، لو رأيتهن بالنهار لما أعرتهن نظرة ، لكنهن جميلات في هذا الزمان والمكان. وغنت الإعرابيات ورقصن وردد الليل والصحراء أصداء عرس عظيم، كأننا قبيل من الجن. عرس بلا معنى عمل يائس نبع ارتجالا كالأعاصير الصغيرة التي تنبع في الصحراء ثم تموت. وعند الفجر تفرقنا... تصايح الناس مع السلامة.. مع السلامة.. وركضوا كل إلى سيارته... وثار الغبار وأدركنا الشمس على قمم جبال كرري.
عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.