المهدي كان رجل دين بمواصفات ثورية، لكن مشروعه السياسي صنيعة الخليفة..! المهدي هو المظهر الشمالي (المركز) لإرادة (الهامش)؟ فهل كان المهدي الجسر الذي عبر عليه التعايشي؟! المهدية تحتاج إلى عقد الدرس من جديد، والذي يبدأ من فهم التحالف العضوي بين العقدي (الغنوصي) والسياسي.. عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته. إن الذي يريده كل كاتب أن يمارس حرفته دون أدنى تأثير من أي طرف كان، يفعل ذلك لأجل الحقيقة، والحقيقة هي التي تنتج ذاتها عبر السير المتأمل، والهروب من الأحكام الجاهزة، بل التي تملك قابلية التعميم دون خوف، والممكن في سجل الكتابة عن تاريخنا الاجتماعي أن يفهم الباحث أنه سيمر تحت جسور من الشك والتخوين والتخويف كذلك، إذ أن مؤسساتنا الاجتماعية ظنت في نفسها حصانة من النقد، والسبب كونها تفهم النقد حالة من التشفي والتعريض وكشف العيوب، ومالنا وهذه الأفعال المجانية، فالفعل النقدي واجبه الأصيل أن يفكك المقولات ويعيد تثبيت أركانها بحيث تقع منه موقع الفهم الصحيح، والرؤية المعقولة، فالشرطان للنقد يتمثلان الموضوعية والعقلانية، بحسب ما نفهم من درس النقد. لعل أدق وصف يقع لهذه التجربة المهدية في السودان ما أشار إليه الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد، إذ نظر عند تحليل بنيوي لماهيتها، ورأيه فريد في وعيه بالتركيبة التاريخية للسودان، فقد قال بوجود ثلاثة مكونات تاريخية للسودان "وإذن فالقضية «المهدية في طورها التأسيسي» لم تحسم بعد، قضية الفور تقلي المسبعات التي أصبحت مهدية الغرب السوداني، وقضية «دينج» العائد بعد غياب طويل، والتي أصبحت «إفريقية»، وقضية «عبد الله جماع» التي أصبحت ختمية اتحادية شقيقة.. تركيبة السودان التاريخية التقليدية"- السودان المأزق التريخي وآفاق المستقبل – محمد أبو القاسم حاج حمد- الجزء الأول صفحة (480)- 1996م. ذلك أنه قد دخل المستعمر إلى السودان وهو يعرفه جيداً، بل يكن في ذهنه إعادة ترتيب البيت لصالح أهله، وهذا بطبيعة الحال شأن المستعمر أينما حل، وجد عند دخوله مضارب القبيلة الدينية (أم درمان) مجموعة تعيش خارج التاريخ، هكذا فهم، والحال صراحة كان كذلك، والمؤسسة التي تركبت في ظل حكم الخليفة عبد الله التعايشي، هي مؤسسة دينية غنوصية تتكأ على تراث مهدوي غير مكتمل الأركان، فقد ذهب صاحب الدعوة قبل أن يراها تعم المشرقين كما بشر أنصاره وحشدهم في صفوف جيشه، وكان له ما أراد، فالمهدية اللحظة الغائبة عن نفسها مراراً، تمثل أذاها في شخص الخليفة الذي مارس السياسة بوعي باطني يفتقر إلى أدنى درجات الحساسية الاجتماعية، فقتل هنا وذبح هناك، وأشاع جواً من العنف الاجتماعي ما كان له أن ينغرس في جسدنا ويظل حتى الآن لولا هذه الذهنية المرتبكة والتي لا تفهم من الدين إلا حق السلطان، كان الخليفة حاكماً دينياً متخلفاً بمعايير تلك الفترة، إذ ما قارناه بمجايليه من الحكام المستندين على تأسيس الظاهرة على هدى من الغيبيات والخرافات الاجتماعية. فجاء حكم التعايشي (1885م – 1898م) ليبذر أخطر فيروس في جسد الثقافة السودانية، فبموجب تخرصات وأوهام ذات بعد عقدي، عقد الخليفة لواء حكمه على حقه الإلهي في الحكم، ولماذا لا يفعل ذلك وقد عينه المهدي خليفته الأول، وهذا استلاف مؤذي لواقع تاريخي عاشه المسلمون منذ رحيل المصطفى صلى الله عليه وسلم، السؤال ماذا نعني بالفيروس الذي أنبته حكم التعايشي؟ نقول هو فيروس، العنف السياسي المستند على أيديولوجية غيبية. وهذا ما قصدناه بالتوحش، فالتوحش يفيد الشراسة والوحشية والخشونة في الفعل، وهذا ما ينطبق على حكم التعايشي، وللحق فالمهدية التي نصفها بالثورة التي حررت الوطن، فعلت ذلك فعلاً، لكن حمولتها الأكبر التي صبت في جسدنا كانت العنف، ولو طرحنا السؤال، ماذا لو لم يقم المهدي بثورته، وترك الأمر يسير في طريقه تحت حكم الأتراك؟ ترى ماذا سيكون وجه السودان الآن؟ اعتقد أن هذا سؤال مشروع، فالذي يمنح الأسئلة حقها لا شيء سوى إمكانها المنطقي. فالمهدية تراث من العنف المسكوت عنه، والساكن بالقوة في عقلنا السياسي، لأن السياسة لا تعرف منطقها خارج شروط ظاهرتها الاجتماعية، وظاهرة المهدية ما وجدت عنفاً في الظاهرة لتسير في طريقه عنوة عنها، لقد كان المجتمع السوداني يعيش حالة التشكل مع انخفاض حالة العنف التي يوصف بها الأتراك.. بل كان الحكم التركي يسير بشكل أكثر احترافية في إدارة البلاد وتطويرها، بالطبع مثل هذا الحديث سيجعلنا في مرمى اتهام بالعمالة واللاوطنية، لكن ليس مهماً، فما نريد قوله، إن حركة المهدي لم تكن كما درسونا هبة شعبية لأجل طرد الغزاة، بل في جوهرها عنف طبقي يستند على أطر دينية، فالدافع المركزي للمهدي ليس فقط ظلم الأتراك، بل بسبب منعه من مواصلة مشروعه السياسي الإصلاحي الديني في شمال السودان.. هذا مضمون الفقرات القادمة.. المهدية التحالف الخفي بين الجلابي المُضَطهد، والهامشي المركب؟! ومن أهم الإشارات التي يمكن النظر فيها، أن بدايات حركة المهدي في شمال السودان ارتبطت بهمومه ومطامحه الشخصية، إذ لم نراه ينادي بمعاداة الأتراك أو الحد من ظلمهم، بل لم ترد إشارات واضحة حول ميول نضالية للرجل حينها، فالقصة الأشهر هي خلافه مع شيخه، بالطبع لا نريد الطعن في جدوى أفعال المهدي في بداياتها، إذ لم يتبلور لديه حس وطني بالمعنى الدقيق، إلا بعد مقابلة الخليفة عبد الله التعايشي، ولعل هذا أمر واجب النظر والتمحيص، فقوة الخليفة في إدارة الدولة التي تصل حد التوحش يمكن عدها امتداداً لهاجس داخلي يهمن عليه، إذ هو (صاحب الدعوة)، فهل كان المهدي هو المظهر الشمالي (المركز) لصوت قادم من (الهامش)؟ بمعنى أوضح هل كان المهدي الجسر الذي عبر عليه التعايشي، عبر عليه بسبب من فهمه طبيعة مؤسسة النخبة المتمركزة في شمال السودان، وهل كانت المهدية حركة للهامش ضد المركز؟. وما قد يدعم هذه الرؤية استئثار الخليفة بمقاليد الأمور بشكل غريزي، ولو كان الأمر فقط قاصراً على توليه خلافة دينية، ما كانت أفعاله لتأتي متكئة على عنف ضد النخبة في الشمال، بل نلمح في ثنايا هذا العنف إرادة خفية تتدثر بالحق الديني لتولي الحكم، والعجيب كذلك أن كثير من أفعاله السياسية خالفت أسس هذه الدعوة، ونفسر هيمنة الخليفة على المهدي من قول المهدي نقلاً عن الخضر عليه السلام، (من لم تكن له محبة في الخليفة عبد الله لا تنفعه ولا تحييه مذاكرة المهدي، كما لا تحيي المطر العشبة اليابسة المنقطعة) – الآثار الكاملة للإمام المهدي – المجلد الرابع – صفحة (403- 404)، بل الخليفة في نظر المهدي بعد تبادل الأدوار، السلطة المنتهبة منه بفعل رؤاه الإصلاحية السياسية، وتمكين الخليفة من الحكم، نجد المهدي قد منح الخليفة موقعاً قد يبدو للوهلة الأولى أعلى منه شخصياً، إذ إسباغ القوة والإرادة العالية، وامتلاك الأسرار الإلهية للدعوة عادة ما يكون من نصيب صاحبها، أليس الأمر كذلك، يقول المهدي للملك آدم عمر بشير الذي بدر منه ما يفهم أنه معارضة للخليفة (تقرأ معارضة للدعوة وجذرها المتمثل في الخليفة وليس المهدي) يقول: (عبد الله هذا هو يدي وعضدي، وعوني وعيبة سري، يشهد بذلك الوارد والصادر، وجب على جميع أصحابي توقيره واتباعه)- الآثار الكاملة- المجلد الثاني- صفحة 172. إن المهدي حقق مصلحة التعايشي، فالرجل جربها من قبل مع الزبير (باشا) ولم يحالفه الحظ، إن هذه الإرادة المستترة بالديني والسياسي عند التعايشي تخفي هم آخر، هم ثقافي يعرف كيف الطريق إلى الثروة عبر تقليص دور مؤسسة (الجلابة)، التعايشي ليس رجلاً متوسط الذكاء، وإلا ما كان ليحافظ على دولته هذه السنوات 13 ويستطيع أن يلعب أدواراً مختلفة ليحافظ على سلطته في وسط نيلي متقدم عليه، ويملك مؤسسات راسخة، فقد يكون المهدي صاحب دعوة، لكن هذه الدعوة ليست بنت وعيه هو، كان الرجل مسرح اعتلاه الخليفة وأحلامه الرامية لاحتلال البنية الأكثر رسوخاً في الظاهرة السودانية، وهي شمال البلاد ووسطه، هذه المنطقة التي ترسخت فيها نظم للحكم أقامها الأتراك، بل تمتد لأبعد من ذلك، لقربها من المشرق، والخليفة أعمل مكره السياسي، واستطاع تجنيد المهدي والدخول إليه من بوابات كان الرجل يزمع الوقوف عندها، وهي الاستيلاء على المجال الديني الذي طُرد منه. إن الذي جرى أن المهدي لم يكن يملك مشروعاً سياسياً حتى هجرته إلى الجزيرة أبا، بل كانت مشاغله لا تختلف كثيراً عن من تعلم على يديهم أصول العرفان السوداني المستأنس سياسياً. فالمهدي بن التربية المحافظة والمستندة على التراث الفقهي السوداني المحور تركياً، كان رجل دين بمواصفات ثورية، أما الخليفة فقد اختار هدفه بعناية تامة، واستطاع عبر تجنيد إرادة خفية لدى المهدي، وهي أن يمنح الحق ذاته الذي بموجبه طرد، أي حق؟ حق السيادة على جماهير يستثمر فيهم دروسه، وبموجب ذلك ينال الثراء الاجتماعي شيخاً له حواري.. ولعل المهدية تحتاج إلى فتح الدرس من جديد، والدرس الجديد المقصود يبدأ من فهم دور العقدي والسياسي، العقدي الموظف في ذاكرة المهدي المطرود من تركة الجلابة في الشمال، والسياسي لشخص يريد أن يغير البنية الاجتماعية ويقلب المعادلة من كون الاحتكار النيلي للمعرفة والسلطة مع إقصاء متعمد للهامش، والخليفة استطاع أن يفهم ماذا يريد المهدي المختزن لذاكرة حرجة أقصته من ميدانه الأصيل، فقرر التعايشي أن يمنح المهدي أراضي جديدة، تحقق للطرفين مبتغاهما، الأول (المهدي) سلطة على الأرض بموجب امتيازه كجلابي يستند على بعد عقدي هو في أصله صنيعة تركية للحفاظ على التوازن الديني والقبلي في السودان، والثاني (الخليفة) تغيير معادلة الهامش والمركز، بل لعل النهاية المأساوية لهذه الحقبة تفيد ما نحن بصدده، فالأمر كان تحالفاً خفياً بين الجلابي المضطهد والهامشي صاحب المشروع السياسي.. في المقال القادم كيف نشهد تحول في السلوك السياسي للرجل (المهدي) بعد مقابلته الخليفة- وعن العنف الذي مورس هل كان بإيعاز من الخليفة التعايشي؟ والأهم في خلاصة التحليل هل كان الأمر في جوهره ، ثورة الريف ضد المدينة؟ والتي تجلت في واقعنا السياسي الآن بالصراع بين الهامش ضد المركز؟.. نواصل