أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    محلية حلفا توكد على زيادة الايرادات لتقديم خدمات جيدة    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    شاهد بالفيديو.. لاعبون سودانيون بقطر يغنون للفنانة هدى عربي داخل الملعب ونجم نجوم بحري يستعرض مهاراته الكروية على أنغام أغنيتها الشهيرة (الحب هدأ)    محمد وداعة يكتب: مصر .. لم تحتجز سفينة الاسلحة    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    الدردري: السودان بلدٌ مهمٌ جداً في المنطقة العربية وجزءٌ أساسيٌّ من الأمن الغذائي وسنبقى إلى جانبه    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    مدير المستشفيات بسنار يقف على ترتيبات فتح مركز غسيل الكلى بالدندر    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    مناوي ووالي البحر الأحمر .. تقديم الخدمات لأهل دارفور الموجودين بالولاية    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    تنسيقية كيانات شرق السودان تضع طلبا في بريد الحكومة    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تقرير: روسيا بدأت تصدير وقود الديزل للسودان    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الشعر في حياة البجا .. بقلم: جعفر بامكار محمد
نشر في سودانيل يوم 18 - 01 - 2010

لا يوجد شعب من شعوب العالم لم يمارس الشعر بجميع أغراضه من غزل ومدح وهجاء وفخر ورثاء وغيرها من الأغراض، وكما يقال فإن الدين والفن ظهرا مع ظهور الإنسان على الأرض، ورافقاه على طول تاريخه وحتى الآن، وما خلت حضارة أو ثقافة إنسانية منهما، وهذا يثبت أن الدين والفن ومن ضمنه الشعر مركوزان في فطرة الإنسان.
على هذا الأساس فإن البجا قد تدينوا ومارسوا الفنون وعلى رأسها الشعر والموسيقى، وكان للشعر دور عظيم في حياة البجا بل كان ديوانهم وذاكرتهم، بحكم أنهم أمة شفاهية أمية لا تقرأ ولا تكتب، ولذلك فالشعر الجميل الذي يمكن حفظه سلواهم وملاذهم الأخير حتى لا تندثر ثقافتهم، وهذا ما أعطى الشعر عند البجا الأهمية القصوى في حياتهم وجعله يحفظ وينتقل من جيل إلى جيل كأقوال مأثورة وحكم وصور جمالية فريدة، تصور جميع مجالات حياتهم .واشواقهم وأحزانهم وقيمهم وأعرافهم وعلى من يريد أن يعرف البجا قديماً وحديثاً فعليه بدراسة شعرهم وبعمق.
الشعر البجاوي على نوعين وهي القصائد الطويلة والرباعيات التي تتكون من أربع أبيات وهي الدوبيت أو ما يعرف عند البجا بالفريقت قرميت وكلمة دوبيت في اعتقادي كلمة بجاوية مثل كلمة دوبة بمعنى عريس ودوبات بمعنى عروس ودوباني بمعنى حفل زواج ودوبيت كفا هنا بمعنى الأغاني التي تغنى في مناسبة الزواج وذلك عكس ما يقول به البعض من أن كلمة دوبيت كلمة فارسية بسبب "دو" التي تعني بالفارسية "اثنين".
للأسف إن الشعر البجاوي هو مثل حقل الألغام لأن الكثير منه يمس أشخاصاً حاضرين أو في الماضي والكثير منه في هجاء بعض القبائل، وبعضه يدور حول حروب قبلية وينكأ الجراح، والبجا لهم ذاكرة قوية ويعرفون من هو قائل الشعر وفي من قاله ومتى قاله وفي أي مناسبة، فلذلك الكثير من الشعر البجاوي غير محايد ولا يمكن نشره أو ترديده أمام العامة لعدم إثارة الحساسيات، ورغم ذلك فإنه لا يموت بل يبقى على الزمن ولو بشكل شبه سري.
من أهم مميزات الشعر البجاوي أنه سجل حافل بالأحداث التاريخية التي حدثت بمنطقة البجا، وعن طريق هذا الشعر يمكن كتابة أسفار بالحوادث التاريخية مع ما تحمله من ظلال اجتماعية وفكرية، خصوصاً الأحداث الكبرى كالحروب والكوارث وغيرها.
وفي هذا المقال سوف أتعرض لقدر قليل جداً من شعر البجا ذو الطابع التاريخي، وخصوصاً في فترة المهدية وكانت حدثاً تاريخياً هز منطقة البجا من أقصاها الى اقصاها ودارت فيها معارك دامية بين أنصار المهدية والقوات الحكومية، وبين أنصار المهدية وبعض القبائل البجاوية المناوئة للمهدية فقد بدأت الحرب القاسية وابتدأت الغارات باستباحة الأموال والحرمات بعد تكفير الناس ودمغهم بالنفاق. وسالت الدماء أنهاراً وهرب من هرب وأعتقل من أعتقل وزج بالآلاف في المعتقلات التي لم يتوفر بها أي قدر من الأغذية الكافية أو الظروف الإنسانية أو الصحية، وكان مصير أغلب هؤلاء المعتقلين الموت البطيء تحت أقسى الظروف، وهكذا خيّمت الحرب الأهلية القاسية على سماء المنطقة من أقصاها إلى أقصاها وبدأت حركة نزوح واسعة من المناطق المعرّضة للخطر إلى المناطق الأكثر أمناً، ويبدو لنا أمر هذاالنزوح في بيتين من الشعر قالهما شاعر من المناوئين للمهدية، وبيت آخر قاله شاعر من المؤيدين للمهدية. قال الشاعر المناوئ للمهدية:
تسلوما دوما أوكنتيت أباوا
تكمتيوكنا دامر
تاري موساي
يامييان
ومعنى الشعر أن آبار سلوم وآبار وادي الحراز حيث كانت ترعى إبلكم أصبحت مليئة بالمياه، وهذه كناية أن السكان قد نزحوا بمواشيهم عن هذه المناطق لمناطق أكثر أمناً، وامتلاء الآبار بالمياه عند البجا يعني خلو المنطقة من السكان والمواشي التي ترد هذه الآبار، وبالتالي تستهلك ماءها.
يرد شاعر المهدية علي شعر الشاعر المناؤئ للمهدية قائلاً:
كوليب أنوت داوريتوا
تملى وسروبيت
تيري أوباشرير ايديت نون
وريتهن بايميين
ومعنى شعره: بجانب الآبار التي ذكرها الشاعر هناك آبار أخرى سيكون مصيرها أن تكون مليئة بالماء، وهذه الآبار هي بئر تملى وسروبيت وبئرين آخريين، وهذا تهديد واضح لشن الحرب والغارات على المناطق التي توجد بها الآبار المذكورة مما يؤدي إلى إخلاء المنطقة من السكان والمواشي.
ثم يردف شاعر المهدية ببيت شعر آخر أكثر تهديداً:
أوردي كلافتينيب أندا باكاي قريمي
شاطاب نون قنفت بادين دا
مرمر ايتاي تكوكنا
ومعنى الشعر: أنكم يا مناوئي المهدية من البجا قد تعودتم دفع الديات بينكم وبين القبائل البجاوية في شكل مواد غذائية كالأرز، ولكن هذه المرة جاءكم جيش كثيف – مرمر – ويعني بهم الأنصار البقارة وأتحداكم أن تبيدوهم.
الحقيقة لقد كان هناك عدم حماس للقتال بين القبائل البجاوية المؤيدة للمهدية أو المناوئة لها، ولذلك أرسل الخليفة التعايشي البقارة لمقاتلة القبائل البجاوية المناوئة، وكانت تلك غلطة الشاطر، فقد نفرت عامة البجا من المهدية، فالأنصار من خارج منطقة البجا لا يعرفون ولا يحترمون قوانين الحرب عند البجا التي تحرم حرق البيوت واغتصاب النساء وقتلهن وقتل الشيوخ والأطفال ونهب الأموال.
شاعر المهدية موسى نقل له موقف تاريخي مشرق لا بد أن نذكره، فبعد هزيمة دولة المهدية وسيطرة القوات الغازية على البلاد نشطت الاستخبارات البريطانية في إلغاء القبض على الكوادر
المؤثرة فى الثورة المهدية وبعد إلقاء القبض عليها تعرضت تلك الكوادر للاستجوابات القاسية والضغوط وتقرر تصفية بعضها، وكان الشاعر موسى نقل من بين من تقرر تصفيتهم وعقدت له محاكمة عسكرية بسواكن وتقرر إعدامه علناً وصلبه في ميدان عام، وبعد المحاكمة رفض الاستئناف أو طلب الرحمة والشفقة وكان صامداً ثابتاً على مبادئه، غير هيّاب من الموت.
في يوم تنفيذ الحكم وضعت منصة الإعدام وحشد الناس من الأعيان والعامة والنساء والصبيان ليشاهدوا هذا المنظر البشع وليكون الشاعر موسى نفل عبرة لمن يعتبر أمام جبروت الإمبراطورية البريطانية، وجيء بموسى نفل لساحة الإعدام والصلب وبقدم ثابتة ورأس مرفوع وقلب لا يهتز صعد لمنصة المشنقة وألقى النظرة الأخيرة على الحشد وحبل المشنقة يلتف حول عنقه، وقال بيت شعره الأخير وأخذ الشهادة ونفّذ الحكم:
بيت شعره الأخير يقول:
ارتيقاب وعمود انفيش
هباكاب ايشيايا
كيفريب سمعمي قيقيا
نفلي أور كاتيوداي
ومعناه: إنني أعتز وأفتخر بأهلي الأرتيقة عموماً وأهلي الشاياياب خاصة لكل ذلك فأنا لا أتذلل أبداً للكفار، ولا أترك ورائي عاراً حتى يقول الناس من بعدي أن موسى نفل قد ضعف أمام الموت.
بعد إعدام الشاعر موسى نفل والقبض على الأمير عثمان دقنة بالجبال قال شاعر آخر:
اتمان وهداي شاكي
واركه موساي قليلي
تدنيا امور فارغابا نون
هننهن كور امابا
الشاعر يلوم الدهر ويقول أن الدنيا بائسة وفارغة، فكيف يجوز أن يطارد الأمير عثمان دقنة وهو من هو؟ وكيف يحصل ما حصل للشاعر الكبير موسى نفل؟ ولكن هكذا الدنيا، فنحن أيضاً قد أخذنا حصتنا من العز والسؤدد.
إن الشعر البجاوي عامة لم يجد أي عناية أو اهتمام ما عدا ماكتبه الأستاذ محمد أدروب اوهاج، وهو رائد في هذا المجال، وفي اعتقادي أن الشعر البجاوي كنز هام، خصوصاً في مجال المعلومات التاريخية.
لقد قرأت كتاب جاكسون المسمى "عثمان دقنة" المؤلف عام 1926م وهو في معظمه منحاز لبريطانيا ومعادي بشكل سافر للمهدية عامة الأمير عثمان دقنة بشكل خاص، وهو أمر طبيعي من مؤلف بريطاني استعماري ويبدو لي أن هذا المؤلف استفاد من بعض الشعر البجاوي التناريخي، وعلى سبيل المثال أورد رباعية من الشعر البجاوي أعجبته كثيراً وهي تقول:
مسكينتو أنقوداب
أوفنا باياي حماديت
وينات انجليز ايتا
وأرض اومهيب هوايات
والشعر معناه: مساكين النقادة ويقصد بها المصريين الذين لا يجيدون فنون القتال لكن بعدهم جاء الإنجليز الغاضبين الذين أجادوا وتدربوا على فنون القتال
وراء البحار:
واضح لماذا أعجب المؤلف جاكسون بهذا الشعر لأنه يحط من قدر المصريين ويمجد البريطانيين على لسان البجا. مناسبة الشعر أن البجا قاتلوا، فلول المصريين من بقايا جيش عرابي والمرتزقة في معركة التيب الثانية بمنطقة طوكر بقيادة الجنرال فالنتين بيكر، وكان جيشه مكون من أكثر من ستة ألف جندي وهزمهم البجا شر هزيمة، وغنموا أسلحتهم وعتادهم وملابسهم وطرابيشهم وأحزيتهم، واكتشفوا أن هؤلاء جبناء لا يجيدون فنون القتال.
ولا يثبتون في ميدان المعركة ولكن وبعد شهر واحد فقط حضرت الفرق البريطانية للانتقام، وكانت معركة التيب الثالثة وتركت المعركة ثلاث ألف من البجا بين قتيل وجريح ثم انسحبت بعد ذلك فوراً ومن هنا جاءت مقارنة الشاعر بين جيش الجنرال فالنتين بيكر وجيشه الرعديد وجيش جنرال جراهام الذي ثبت في ميدان المعركة وتسبب في إصابات بالغة وسط البجا.
لنأخذ نموذجاً آخر من شعر البجا، وهذه المرة من شعر ناظر الهدندوة (هدأ موسى)، وهو يعتبر من أهم وأشهر نظار الهدندوة، بل من أهم الشخصيات البجاوية التي عاشت في القرن التاسع عشر الميلادي، فقد عاش في الفترة من1810
م – 1884م لقد اصبح اول ناظر للهدندوة بعد مصرع عمه محمد دين ومعه اغلب قيادات الهدندوة بسجن الخرطوم نتيجة لاصابتهم بالجدري بعد حربهم مع الباشا ابو ودان عام 1841 وكان هدأ موسى شاعراً مجيداً لا يشق له غبار، وسوف نورد بعد أشعاره التي تدور حول صراعه مع محافظ سواكن الأشهر ممتاز باشا المعروف عند البجاباسم "مورتات"، وهو كما هو واضح تحريف لكلمة ممتاز في الفترة من 1865م – 1871م وكان ممتازباشا رجلاً قاسياً متغطرسا فاسداً ومات سجيناً بسجن الخرطوم بعد نقله الى هناك من سواكن لاسباب تتعلق بمشاكله مع البجا ولفساده المالي رغم أن لممتاز باشا انجازات هامة مثل انشائه لمشروع طوكر الزراعي بعد افتتاح قنال السيويس عام 1869 لقد كان ممتاز باشا يكره هدأ موس كراهية شديدة بل يكره الهدندوة عامة ويحابى القبائل الاخرى بسواكن كذالك فان الهدندوة كانوا يكرهونه ويكرهون حكومةالاتراك بسبب الحرب التى دارت بينهم والكارثة التي حدثت لقيادتهم بسجن الخرطوم .
لقد كره ممتاز باشا هدأ موسى بشكل خاص بسبب تصديه ورفضه لظلمه ودفاعه عن أهله، لأن ممتاز باشا يريد أن يستغل البجا لأعمال السخرة في المشاريع الحكومية، كما كان يحدث في مصر في ذلك الزمان، والبجا بطبيعتهم لا يقبلون مثل هذا النوع من العبودية والإذلال.
في مناسبة خاصة وكان هدأ موسى قد تزوج بسواكن وبعد انتهاء حفل الزواج وقبل أن يدخل على عروسه، أمر ممتاز باشا هدأ موسى للقيام بمأمورية لكسلا فوراً ورغم اعتذارات هدأ موسى إلا أن ممتاز باشا أصر بل نهره وأغلظ عليه في القول وكما هو واضح فان ممتاز باشا اراد ان يذل ويغيظ هدأ موسى، فنفّذ هدأ موسى الأمر ولكن قال شعراً بهذه المناسبة في شكل رباعية كعادة الشعر البجاوي، والرباعية تقول:
ديوانون بيتكاينيتي جيلان بروكوا
دينيب انو نيبي
توربا تولوس
أوغشيمي
ومعنى الشعر:
يقول هدأ موسى مخاطباً ممتاز باشا: إننا وقبل أن تكون أنت وحاشيتك حكاماً علينا لم نكن في حاجة للكلام الغليط للذهاب لجبل تولوس بكسلا وهو التاكا يأيها الحاكم الغشيم.
ثم تطورت الأمور بين ممتاز باشا حتى جمع ممتاز باشا عمد الهدندوة وجعلهم يوقعون على عريضة تطالب بعزل هدأ موسى تحت الضغط والإغراء، فعزل عن نظارته وبعدها لجأ لصديقه محمود علي اور شيخ الأمرأر وحكى له ما حدث له من ممتاز باشا فنصحه محمود علي بالسفر لمصر ومقابلة الخديوي وأنه سوف يوفر له الجِمال والزاد والحراس وقد كان.
عند بداية الرحلة قال هدأ موسى رباعية من الشعر يخاطب فيها ناقته. والرباعية كالتالي:
خرطوميت ايبابوا
ويلا ميدقيت لاميتتوى
تركي اريت مويا
مصر هاي بالاويووك
يقول لناقته أنك قد تعودت السفر للخرطوم ثم العودة قريباً، ولكن هذه المرة سوف يكون سفرك بعيداً لبلاد الأتراك والمصريين.
وبالفعل استطاع هدأ موسى مقابلة الخديوي الذي أنصفه وقرر إعادته لنظارته، ولكنه سأله على أي نوع من الناس أنت زعيم؟ فقال له هدأ موسى أنني زعيم لكل الناس الذين يسكنون في بيوت البروش، وبذلك نصّب نفسه زعيماً لعموم البجا وليس الهدندوة فقط وبالفعل لم يكن هناك زعيم بجاوى يماثله ما عدا محمود على اور زعيم الفاضلاب
ثم سأله عن ممتاز باشا فقال هدأ موسى أن ممتاز باشا ليس مكانه المناسب سواكن لأنها طرف من أطراف السودان بل مكانه وسط السودان. وعندما سأله الخديوي وأين وسط السودان قال له هدأ موسى أن وسط السودان مكان يسمى فشودة.
هكذا أخذ هدأ موسى فرمانات الخديوي وعاد لسواكن، ولكن هذه المرة عن طريق البحر من السويس لسواكن، واستقبل استقبال الأبطال، وكان أول قرار له بتعيين صديقه محمود علي اور زعيم الأمرأر وكيلاً لكل البجا بسواكن. وسنعود لشعر هدأ موسى في مقال آخر.
لنأخذ نموذجاً آخر من الشعر البجاوي التاريخي ولكن هذه المرة مع الشاعر محمود الفلج، وهو شاعر مبدع وشخص شديد الكبرياء وعزة النفس والصبر، وقصته قصة مأساوية جرت أحداثها في فترة الحكم التركي، فقد كان جمالاً عارفا بطرق الصحاري والجبال، وأحياناً يعمل كدليل للتجار وموظفي الحكومة أثناء أسفارهم، وفي إحدى المرات كلّف بتوصيل أحد الخواجات من سواكن لكسلا، وفي الطريق اقتربوا من منطقة تسكن فيها حبيبة للشاعر، فطلب من الخواجة أن يتأخروا قليلاً ليتمكن من مقابلة حبيبته، ولكن الخواجة رفض رفضاً قاطعاً وحصل بينهما خلاف شديد وملاسنات اضطرت الشاعر لقتل الخواجة، وبعد مدة تم القبض على الشاعر وتعرض لتعذيب شديد، وحاولوا إذلاله فاحضروا حبيبته وقالوا إن رضعت من ثديها أطلقنا سراحك فرفض، وقال رباعيته التي تقول:
أوكيفري هماش أودا أوبيتسيوكي
آمناب أويفو لمدا أور
كاك أونقيب
بريني
ومعناها: وهو يخاطب المحافظ الخواجة لعنة الله عليك أيها الكافر ذو الأسنان الصفراء من عدم السواك، ما أجهلك! كيف يمكن لفتى تعود أن يلثم فاه الحبيبة آمنة أن يتعلق كالرضيع بثديها؟ ثم طلبوا منه أن يقوم بالجري أمام حشد من الناس فيطلقوا سراحه. وبالفعل أحضروا الحشد وأحضروا أم الشاعر وعمه للتأثير عليه، ولما أصبحوا أمام الحشد طلبوا من أمه أن تخاطبه ظنّاً منهم أنها سوف تحثه على الجري فقالت له رباعية خالدة
كالتالي:
أوتك أوميماشو قالوا
أفالا قويدابا
باشوكيتمي قيقا
هنن أورون تيكاتياك
ومعنى الشعر: يا بني إن الإنسان قبره واحد وسمعته كثيرة، وأطول من عمره، فلا تخضع ولا تتذلل واقبل بمصيرك إن كنت ابننا حقا
ثم طلبوا من عمه أن يخاطبه فقال له: أجري يا ابني أرجوك أجري وأنقذ حياتك ولابأس من الجري. فرد عليه الشاعر:
أوليليت عاقرة أوشفيت انقدينهوب
هديديني دورو ايداب
اوسكهان قلباهيب
ومعنى الشعر: عندما يقفن عذراوات حي الليلي بسواكن بالصفوف للفرجة يطلب مني عمي الجري أمامهن لإنقاذ حياتي وأنا أستعيب من المشي أمامهن دعك من الجري.
وهكذا رفض الخضوع والإذلال وأعيد للزنزانة في جو سواكن الرطب الحار الخانق، وعند السحر مرت عليه نسمة هواء باردة فتذكر بلاده وجباله ووديانه فقال رباعية تقول:
يونقليت اقيا
هيوئيب اولوايب
كيسب أودعاش كيرومت لئيني
حبس فوريب أنافون
ومعنى هذا الشعر: إذا كانت هذه النسمة الباردة قد تمكنت من الوصول إلينا فى الزنزانة الضيقة بسواكن الحارة فلا بد أن الدعاش فى وقت السحر بارد في أعالي جبال يونقل ووادي هيوء ويقال أنه قد ندم على هذا الشعر لأنه قد نم عن بعض ضعفه الإنساني، وهكذا مات الشاعر العظيم محمود الفلج تحت التعذيب، وهو لم يخسر ذرة من كرامته وعزة نفسه رغم العذاب – رحمه الله.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.