هل استعار الدكتور النور حمد أطروحة العقل الرعوى من على الوردى عالم الأجتماع العراقى ؟ خالد هاشم خلف الله مراسل موقع العين الأخبارى فى أبوظبى أنشغلت الأوساط الثقافية والاكاديمية فى السودان مؤخرا بما نشره الأكاديمى البارز الدكتور النور حمد من أطروحة حملت عنوان تشريح العقل الرعوى ، والتى نشرها صاحبها منجمة على مدى تسع حلقات فى عدد من المواقع الالكترونية السودانية ، تنطلق الأطروحة من محاولة البحث والتحليل لكثير من السلكويات التى يرى صاحب الأطروحة أنها أقعدت ببناء الدولة السودانية الحديثة ، وقد توسع الدكتور النور حمد فى تعميم مفهوم العقل الرعوى ليشمل كل مذهب سياسى أو دينى افضى تطبيقه الى نتائج كارثية ماحقة ولو كان نشأ فى مجتمع متطور وحداثى مثل المجتمعات الغربية التى أنتجت النازية والفاشية وصولا الى الحملة الشعوبية التى أوصلت الرئيس الأمريكى المنتخب حديثا دونالد ترامب الى المكتب البيضاوى ، كل تلك المذاهب والمشارب السياسية عدها الدكتور النور حمد من منتجات العقل الرعوى ، ثم بعد ذلك تطرق الدكتور النور حمد فى أطروحته للعقل الرعوى فى السودان وأعتبر أن سيادته وسريانه فى السودان جاء نتيجة لتمدد وتمكن الجماعات البدوية العربية من أرض السودان بداية من مطالع القرن الرابع عشر الميلادى حين أنساحت تلك الأقوام العربية فى أرض السودان بعد أن ضيق عليها الحكام المماليك فى مصر الخناق بأعتبارها مصدر خطر على سلطانهم ودولتهم ، فانساحت تلك الاقوام العربية البدائية فى سهول وسهوب السودان دون مانع يمنعها ساعدها على ذلك تآكل وضعف الممالك النوبية القائمة وقتذاك على ضفتى وأدى النيل ، وسرعان ما تمكنت تلك الاقوام العربية البدوية من فرض نفوذها وسلطانها بفقره ومحدوديته الحضارية وقوضت بنيان المجتمعات النوبية وأطاحت بتراثها وميراثها الحضارى الموغل فى القدم الى عهد كوش ، وان سيادة هذه الاقوام البدائية المستمرة منذ ذلك الوقت حتى وقتنا الراهن جذر من سلوكيات العقل الرعوى فى كل ممارستنا الحالية سواء السياسية منها أو الاجتماعية والأقتصادية وفى الفضاءين العام والخاص . منذ غزو القوات الأمريكية للعراق قبل اربعة عشر عاما مضت وبحكم دراستى للتاريخ وعملى محررا ومترجما بقسم الأخبار العالمية فى قناة النيل الأزرق الفضائية وقت وقوع الغزو فى شهرى مارس وابريل عام 2003 نشأ لدى أهتمام بالغ بالشأن العراقى وطفقت أدرس جوانب متعددة من تاريخ ذلك البلد وخلال قراءاتى تلك التى حاولت من خلالها التعمق فى فهم ذلك البلد بتاريخه الثر وموقعه الجغرافى الفريد ، ولقد مكنتى تلك المطالعات من التعرف على ما يحوزه ذلك القطر العربى المنكوب والغارق منذ غزوه فى لجج عميقة لا تنتهى من الموت المتجول بالسيارات المفخخة والاحزمة الناسفة تعرفت خلال مطالعاتى تلك على شخصيات عراقية أكاديمية وعلمية مرموقة وصاحبة أنتاج متميز فى حقلى العلوم الانسانية والأجتماعية ومن تلك الشخصيات التى تعرفت عليها عبر مطالعتى تلك استاذ علم الأجتماع المرموق بجامعة بغداد الراحل الدكتور على الوردى ( 1913 – 1995 ) نال الدكتور على الوردى بكالريوس علم الأجتماع من الجامعة الأمريكية فى بيروت عام 1943 ودرجتى الماجستير والدكتوراه عامى 1948 و1950 من جامعة تكساس الأمريكية ، عرف الدكتور على الوردى بتأثره بنهج ابن خلدون فى علم الأجتماع وأنصبت جهوده العلمية فى ذلك الحقل وأثمرت ثمانية عشر كتابا ومئات البحوث والمقالات فى تحليل الشخصية والمجتمعات العراقية والتى رأى أنها تحمل قيما متناقضة ومتنازعة بين قيم البداوة والحضارة ومرد ذلك حسب رايه عائد لجغرافية العراق فهو بلد متحضر بحكم جريان نهرى دجلة والفرات على أرضه وهو كذلك بلد بدوى بحكم أنفتاحه على الصحراء ، ويعتبر كتاب الوردى لمحات أجتماعية من تاريخ العراق الحديث الذى صدر فى ثمانية اجزاء و ارخ فيه المؤلف للمجتمع العراقى من بداية الحكم العثمانى للعراق الى منتصف القرن التاسع عشر من ابرز مؤلفاته فى هذا الحقل يزيد عليه أن استطاع أن يمزج فيه بين علم الأجتماع والتاريخ ، فى مقدمة الجزء الأول لهذا الكتاب تحدث الدكتور على الوردى عن ما اسماه ب " المد البدوى "وهو حسب ما أرى مصطلح يماثل مصطلح " العقل الرعوى " الذى جاء به الدكتور النور حمد فى سلسلة مقالاته عن تشريح بنية العقل الرعوى فى السودان ، والتماثل بالطبع ليس فى رسم المصطلحين وأنما فى مضمونهما لحد التطابق ولمدى بعيد ، فقد عرف عن الدكتور على الوردى اتباعه لمنهج ابن خلدون فى دراسة وتحليل أحوال العمران البشرى بينما يشدد الدكتور النور حمد فى مفتتح سلسلة مقالاته عن تشريح بنية العقل الرعوى على صلاحية أراء ابن خلدون فى ما يتعلق بدراسة أحوال البدو والحضر ، أما أذا أنتقلنا الى المتون لرصد أوجه الشبه بين ما خطه الدكتور على الوردى والدكتور النور حمد ، ففى سياق حديثه عن أخلاق أهل العراق خلال حقبة الحكم العثمانى لبلادهم يرى الدكتور على الوردى أنها كانت " أقرب الى أخلاق البداوة منها الى أخلاق الأسلام ، وسبب ذلك يعود الى سيطرة المد البدوى عليهم وليس هنا مجال التبسط فى هذا الموضوع ، يكفى أن اقول أن هناك تبايناً كبيراً بين أخلاق البداوة وأخلاق الأسلام أذ أن البداوة تمجد قيم العصبية والثأر والغزو والنهب والدخالة وقتل المرأة لغسل العار وما أشبه ، بينما يشجب الأسلام تلك القيم ويعدها من عادات الجاهلية المنهى عنها ، والواقع أنها على الرغم من شجب الأسلام لها كانت شائعة فى العهد العثمانى وكان كثير من الناس يمجدونها ، ولم يكن من النادر أن نراهم يفخرون بالرجل الذى يهز الأرض باقدامه أذا مشى ، ويكسر عيون الناس دون أن يتمكن أحد من كسر عينه ، ويسطو على البيوت ليلا بدافع الرجولة ، وهم عندئذ يصفونه بانه سبع أو رجل ليل أو فخر العشيرة أو غير ذلك من صفات المديح " على الوردى ، لمحات أجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، مقدمة الجزء الأول ، ص 17 ، طبعة قم ، أيران ، 1413 . وغير بعيد عن هذا المعنى يقول الدكتور النور حمد فى سلسة مقالاته عن تشريح بنية العقل الرعوى "جاء الإسلام نقيضًا للبنية العقلية والوجدانية، التي كانت سائدة في الجزيرة العربية. وغالب ما كان سائدًا في جزيرة العرب هو ثقافة البغي والقهر والغلبة. ومعلومٌ أن من سمات العقل الرعوي وثقافته، تمجيد القوة، والفتون بها بلا حدود، والفخر بالمنعة، بل والسطو على ما في يد الآخرين " النور حمد ، تشريح بنية العقل الرعوى ، المقال الثانى ، صحيفة حريات ، 8 ديمسبر 2016 . ويرجع الدكتور على الوردى سبب تمدد " المد البدوى " فى العراق الى " كون الصحراء التى تتاخم العراق هى من أعظم منابع البداوة فى العالم – أن لم تكن أعظمها على الأطلاق – وليس هناك حاجز طبيعى يحجز بينها وبينه ، ولذا كانت القبائل البدوية على أستعداد دائما لدخول العراق والسكنى فيه، وهى تفعل ذلك حالما تجد الفرصة مؤاتية لها كما فى فترات الفوضى والحروب ، أو على أثر أنتشار الأوبئة الكاسحة ، أو فى الاوقات التى تكون فيها الحكومة ضعيفة والحضارة مضمحلة " على الوردى ، لمحات أجتماعية من تاريخ العراق الحديث ، ص 17 ، طبعة قم ، ايران ، 1413 وبمعنى قريب من هذا يعتبر الدكتور النور حمد بنية العقل الرعوى وأفدة على السودان بمثلما وفد المد البدوى على حواضر العراق من باديته حيث يقول الدكتور النور حمد "بنية العقل الرعوي ليست بنيةً عقليةً خاصة بالسودان، وإنما بنية وفدت إليه منذ بداية تماهيه مع الفضاء العربي، منذ القرن الرابع عشر الميلادي. وهو تماهٍ اكتملت أركانه على أيدي الخديوية حين غزت البلاد، في نهايات الربع الأول من القرن التاسع عشر.بدخول الثقافة الرعوية التي حولت القرى النوبية الممتدة على طول مجرى النيل إلى ما يشبه البادية، انقطعت التواصلية الحضارية السودانية، واعتلّ، من جراء ذلك، البناء العقلي والوجداني السوداني. فقد تكاثرت هجرات البدو في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، فأصبحوايمثلون فيهالأكثرية الغالبة، ذات البأس. ومع بداية القرن السادس عشر لم تبق من الممالك النوبية مملكة قائمة سوى سوبا. حينها قام تحالف بين عرب العبدلابوالفونج فهوجمت سوبا وسوِّيت بالأرض. ودخل السودان منذ تلك اللحظة في موجة من الصراعات العنيفة المتواصلة، استمرت لثلاثة قرون " النور حمد ، تشريح بنية العقل الرعوى ، المقال الثالث ، صحيفة حريات الألكترونية ، 8 ديسمبر 2016 .. والواقع أن القارئ لسلسلة مقالات الدكتور النور حمد عن العقل الرعوى يستطيع ودون رهق أن يرصد القواسم المشتركة العديده فى طرائق تحليله وبين طرائق تحليل الدكتور على الوردى وما أنتهى أليه الكاتبين من خلاصات ونتائج سواء لبنية المجتمع العراقى أو السودانى مع بقاء أسبقية الدكتور على الوردى بالطبع على الدكتور النور حمد ، ، لكن الشئ المهم كذلك هو أن هذا التشابه يدل بالضرورة على وجود كثير من القواسم المشتركة التى تجمع بين المجتمع السودانى ونظيره العراقى وربما بقية المجتمعات العربية خاصة تلك التى شهدت على أرضها بزوغ حضارات قديمة تنحت عن مسرح الحياة وحلت محلها العروبة بمختلف تجلياتها وبنسب متفاوتة من قطر لأخر . عنوان البريد الإلكتروني هذا محمي من روبوتات السبام. يجب عليك تفعيل الجافاسكربت لرؤيته.