الشتاء هنا حيث نقيم «شمال الجزيرة العربية» يجرجر أذياله في تردد .. يتقدم أحياناً ويتقهقر حيناً .. ليطيل بذلك تأرجح الطقس بين الحرارة، والبرودة، والاعتدال .. ويبدو أن الانتظار بين براثن هذا الزكام الذي اكتسب قوة الوباء هو الثمن الباهظ لتعاقب الفصول على الجسد الواحد.. ! هذا ما كان من أمر مناخ الله والرسول .. أما المناخ السياسي فلانتظار (جودو) في اثنائه ألف وجه .. قرار المحكمة الدولية .. جديد مفاوضات الدوحة .. تداعيات زيارة أمير دولة قطر .. تداعيات زيارة الرئيس البشير للقاهرة .. الإعلان عن قرب تحقق أحلام الشعب الفضل بشأن مأساة الكهرباء ! .. أجواء الانتظار الكئيبة تلك تواطأت مع الرشح والحمى، وأغرتني بتفعيل حكمة (ود أب زهانة) الشهيرة إياها .. بعد استبدال كثرة (الهموم) بكثرة ألوان (الانتظار) .. ثم استبدال الهرب إلى (النوم) بالهرب إلى (القراءة) الحرة، عن أي شيء إلا (سيرة البحر)..! بحثت في مكتبتي بعزم واهن، فوجدت كتاباً بعنوان (تزوجت بدوياً) كنت قد اشتريته بعد أن أثارت فضولي، وحركت في داخلي شيئاً ما، ابتسامة مؤلفته (الخواجية) التي كانت ترتدي في صورة الغلاف جلابية بدوية مطرّزة، وتمسك (بحب واعتزاز) بيد رجل بدوي ! .. الكتاب مذكرات أو حكاية ممرضة نيوزلندية قامت برحلة سياحية في سبعينيات القرن الماضي إلى مدينة البتراء الأثرية بالأردن .. فانتهت الرحلة بزواجها من دليلها البدوي ذي الشخصية القيادية الموهوبة، الذي أقنعتها «ذاته وصفاته» بأنه الرجل المناسب لها .. فعاشت معه ولأجله بضعة وعشرين عاماً في كهف عمره ألفا عام .. وأنجبت فيه ثلاثة أولاد ! .. وعندما رحل حبيبها البدوي إلى ذمة الله في العام (2002) رحلت هي أيضاً .. عادت إلى أوروبا .. وقالت إنها لم تكن في البتراء من أجل الجبال .. أو التاريخ .. أو التراث .. بل من أجله (هو) .. وعليه فهي لن تستطيع أن تكون هناك دون يده التي كانت تمسك بيدها ! بعد القراءة النهائية بقيت أحدق في الفراغ أمامي .. لاحظت أنني لم أكن أنقب في انطباعاتها هي .. بل كنت أنقب في شخصية ذلك الرجل البدوي الذي أسر قلب إمرأة متحضرة متحررة وزين لها حياة البداوة .. كنت أبحث في مواقفهما وذكرياتهما المشتركة عن موجبات ذلك الحب الذي يشبه الاجتياح ! .. كنت أبحث عن ذلك الشيء الذي ميز هذا الرجل البسيط العادي .. متواضع التعليم والمهنة والدخل؟! .. ذلك الشيء الساحر الذي جعل منها بدوية لا تتبرم من قضاء حاجتها في الخلاء .. ولا تفر من زيارات الثعابين والعقارب .. ولا تحن إلى النوافذ الزجاجية .. والشوارع المسفلتة .. والحياة الرغدة ؟! .. كنت أبحث عن ماهية ذلك اليقين بذلك الرجل البدوي .. ذلك الإيمان الذي لم تزحزحه دهشة السياح وأسئلتهم المستنكرة عن سر احتمالها لتلك الحياة ..تلك القناعة التي حيرت حتى ملكة إنجلترا التي ذهبت إلى البتراء عندما زارت الأردن .. ذهبت باحثة عن امرأة من رعاياها حولها الحب إلى بدوية ! .. إنه يقين الحب وأي يقين ! .. إنها رصاصة الحب التي تقتل الخيار .. التي قال نزار إنها : «لا تتساءل من أين جاءت .. ولا كيف جاءت .. وليست تقدم أي اعتذار» ! .. إذاً ف هنا في شمال الجزيرة، وعلى مرمى حجر من مكمن انتظاري لوجوه (جودو) المذكورة آنفاً .. وعلى مرمى هبة ريح شمالية من هذا الطقس المتقلب .. كانت حكاية الحب واليقين العظيمة تلك!. يبدو أنه لا بأس في تفعيل حكمة (ود أب زهانة) أحياناً .. يا لها من فكرة .. ويا لهذا الهروب الرومانسي الذي أطفأ حرارة الحمى .. وأسكت وجع المفاصل .. وجمَّل صَبر انتظار الجديد في «سيرة البحر»!