مشروع الجزيرة .. الماضي الزاهر والحاضر البائس والمستقبل المجهول ( 3 - 8 ) من المعروف أن سكان السودان ومنذ قديم الزمان كانوا يمارسون مهنتي الزراعة التقليدية (المطرية) والرعي بمافي ذلك مساحات الجزيرة بمراعيها الواسعة في فصل الخريف .. ولكن وبقيام شركة السودان الزراعية بمنطقة الجزيرة فإن الجزيرة قد أصبحت منطقة جذب للعمالة من كل أنحاء السودان ، الماهرة منها والمتعلمة ، خاصة من شماله حيث كان سكان الشمال يمارسون حرفة الزراعة في جروف نهر النيل بسبب سكناهم علي ضفافه منذ الأزل كما توافدت العمالة من غرب السودان ومن خارج السودان أيضاً ( شاد والنيجر ومالي ) وقد إستقروا في السودان منذ اجدادهم وحتي اللحظة حيث صاروا مواطنين من الدرجة الأولي منذ عقود طويلة ، بعد أن وجدوا فرص العمل في مواسم زراعة القطن وجني القطن ( اللقيط ) وفي العمل بالمحالج أيضاً ، ثم في زراعة الذرة والقمح والخضروات من خلال الدورة الزراعية المخصصة للمزارع في حواشات المزارعين المسجلين بالمشروع . كما قامت الإدارة الإنجليزية بالشركة الزراعية بتدريب الشباب من خريجي المتوسطة علي العمل المحاسبي والكتابي وأعمال الإدارة والمخازن والهندسة الزراعية والميكانيكية.. ثم التدريب لوظائف مفتشي الغيط حين لم تكن تتوفر وقتذاك كليات للزراعة ، بل أن منهم من تم إبتعاثه للتدريب والتأهيل بلندن . وبسبب توسع زراعة القطن بالجزيرة فإن 80% من صادرات السودان كان يمثلها القطن طويل التيلة هذا ولمدة سبعين عاماً حتي العام 2000م والذي شهد تدفق الثروة البترولية التي بسببها تم إدارة الظهر لمشروع الجزيرة فتركوه في مهب الريح عمداً ، حيث تكرر مرض هولندا في قلب أفريقيا هنا بالمسطرة ، فتخلصت منه هولندا ، لكن المرض إستفحل في السودان مثلما رأينا مؤخراً . وفي الجزيرة في ذلك الزمان ، وبعد إنشاء خزان سنار ، تم إنشاء هيئة البحوث الزراعية بودمدني بعد دخول العلوم الزراعية الحديثة بالجامعة لتقديم الأبحاث الزراعية بالمشروع .. وقد كانت هيئة البحوث هي الجهة المناط بها تنفيذ العمليات الزراعية بالمشروع قبل إنشاء إدارة زراعية خاصة بالشركة الزراعية ببركات فيما بعد حيث توجد رئاسة الشركة الزراعية. ومدينة بركات الصغيرة والجميلة والهادئة في ذات الوقت والتي أقيمت علي نمط الريف الإنجليزي ، تبعد حوالي سبعة كيلومترات جنوب ودمدني العاصمة الإدارية للإقليم الأوسط القديم . لذلك كان معظم موظفي وعمال الشركة الزراعية يأتون من حاضرة الجزيرة ودمدني زائداً القادمين من القري المجاورة ، وفيما بعد توسع العمل ليجذب كفاءات علمية عديدة من العاصمة وغيرها . كما أن نجاح زراعة القطن بالجزيرة قد ساعد في إدخال كافة الخدمات التعليمية والعلاجية والإنارة وتعليم الكبار ونقاط العلاج ( شفخانات ) لمعظم قري الجزيرة ، وتبدل حال المنازل لدي المزارعين ، والتي كانت تقام من الطين ، إلي منازل حديثة بالعقد والطوب الأحمر، وإنتشرت المدارس حتي الثانوية بقري الجزيرة ، وبالتالي أصبحت الجزيرة منطقة وعي تعليمي وثقافي وسياسي أيضاً ، فضلاً علي المكون الثقافي الناتج من تواجد كل قبائل السودان للعمل بالجزيرة ، فأصبحت الجزيرة بوتقة إنصهار وتزاوج بين كافة القبائل بالجزيرة وأدت إلي هذا التجانس الحالي للسكان بالجزيرة ، ماقاد إلي ذوبان للقبلية تماماً في وسط السودان حتي اللحظة ، مع ملاحظة أن الإنغلاق والعنصرية القبلية قد لاحت خطوطها بقوة الآن خلال العشر سنوات الماضية ، سواء في أطراف السودان أو حتي في قلب الخرطوم ، بل ربما عند أهل السياسة حكماً ومعارضة أيضاً ، ما دفع بالجميع إلي الإحتماء بالقبيلة لتحقيق الكثير من المكتسبات ، وهم هنا لايدرون بأنهم في طريقهم إلي إحداث المحرقة الكبري للسودان القديم المتجانس جدا الذي إنصهرت فيه قبائل الشمال كلها منذ بداية القرن العشرين . وسوف يحتاج السودانيون زمناً وجهداً فاعلاً وصبورا لإزالة ظاهرة التشوهات القبلية التي طفت مؤخرا علي سطح الأحداث ، ولإعادة توازن التصالح القبلي الذي كان يطغي علي الحياة السياسة والإجتماعية بالسودان كله ، وقد ينجحون في ذلك ولو بعد حين . وربما لا يعرف أهل الخرطوم ، خاصة بعض أهل الحكم وحتي أهل المعارضة في المركز وبعض أهل السودان الآخرين أن من مميزات زراعة القطن بالجزيرة أنها قد خلقت صناعة سودانية خالصة بعد خروج المستعمر وتأميم الشركة الزراعية في العام 1950 م ليحل محلها ما يسمي الآن( مجلس إدارة مشروع الجزيرة ) .. وقد تمثلت التنمية الصناعية التي تعتمد علي خام القطن في قيام العديد من مصانع النسيج ومعاصر الزيوت بالجزيرة وفي السودان كله ، ما أتي بفوائد جمة إجتماعية وتنموية إستراتيجية سنذكرها لاحقاً ،،، ونواصل