منذ مجيء إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما، وأعضاء إدارته يواجهون معضلة حقيقية في ما يخص التعامل مع السودان.. فقبل وصولهم السلطة كانوا يتوعدون ويطلقون التحذيرات ضد الخرطوم، ولكن عندما بدأ التعامل الفعلي معها عن طريق المبعوث الأمريكي الخاص سكوت غرايشن، جاءت كل تقارير هذا المندوب تمتدح الخرطوم وتنفي وجود إبادة جماعية في دارفور وتطالب برفع العقوبات الأمريكية عن السودان, فحدث نوع من التضارب بين أعضاء الإدارة، وتأخر الإعلان عن سياسة أمريكية محددة تجاه السودان!. وفي ظل إدارة يطلق بعض أفرادها (الصقور) تهديدات ضد الخرطوم ويزعمون أنها تقوم بأعمال إبادة في دافور وتعرقل اتفاق سلام الجنوب، يقول مبعوث الإدارة الخاص للسودان (من الحمائم) إن الخرطوم تسير وفق سياسة جدية للسلام وكل الاتهامات الموجهة لها مبالغ فيها, وهنا لا بدّ من توقع صدور استراتيجية أمريكية توافقية تجمع بين آراء الفريقين. من هنا جاءت فكرة العصا (بإطلاق حزمة تهديدات واتهامات للخرطوم) مقابل الجزرة (بإطلاق حزمة حوافز لو استجابت للمطالب الأمريكية) ضمن ما سمي استراتيجية أوباما الجديدة التي أعلنها الرئيس الأمريكي الاثنين 19 /10/ 2009، ووسط هذا وذاك بات الخلل يحكم التعامل الأمريكي مع السودان!. إرضاء الحمائم والصقور تقوم السياسة الجديدة بشأن السودان على تقديم حوافز مقابل وقف ما تعتبره «إبادة وانتهاكات»، ما يعني عودة إدارة أوباما لترديد أكاذيب بأن هناك إبادة في دارفور رغم نفي مبعوثه في السودان، وكذا نفي قائد قوات الأممالمتحدة في دارفور لهذا، وحدث عن «خطوات عقابية» إذا لم توقف الانتهاكات غير الموجودة أصلاً التي يبدو أنها محاولة لوضع السكين على رقبة البشير بصورة مستمرة واستغلال قرار المحكمة الجنائية الدولية كي يساير المصالح الأمريكية في المنطقة. وما يزيد من غموض هذه الاستراتيجية أن أوباما لم يدلِ بتفاصيل عن تلك الحوافز أو نوعية الضغوط التي سيمارسها في حال عدم استجابة الخرطوم لمطالبه، واكتفي بالإشارة إليها، ما يؤكد أنه لا توجد سياسة أو استراتيجية أمريكية فعلية جديدة، وإنما مجرد محاولة للجمع بين الآراء المختلفة داخل إدارة أوباما فيما يخص التعامل مع الخرطوم، والسعي لإرضاء كل الأطراف بما فيها المنظمات الأمريكية – اليهودية التي تقود الحملة ضد السودان وتروّج لأكاذيب الإبادة الجماعية، خصوصاً «تحالف إنقاذ دارفور» و«الخدمات اليهودية العالمية» في نيويورك، و«متحف الهولوكوست» اليهودي في واشنطن، الذين أيدوا استراتيجية أوباما هذه، ودعوا لتعظيم حزمة «العصا» وتقليل «الجزرة». وقد أكدت مراكز أبحاث أمريكية ومراكز إعلامية أن هذه السياسة «هي الحل للخلاف داخل الإدارة حول كيفية التعامل مع الملف السوداني بأقسامه المختلفة». وذكرت صحيفة «واشنطن بوست» الأمريكية أن السياسة الأمريكيةالجديدة «تمثل تخفيفاً لموقف أوباما منذ حملته الرئاسية العام الماضي عندما حثّ على فرض عقوبات أشد ومنطقة حظر جوي لمنع الطائرات السودانية من قصف مناطق في دارفور»، كاشفة عن تناقض في الآراء بين «سوزان رايس» التي حثت على التشدد بشأن السودان وبين هيلاري كلينتون وسكوت غرايشن اللذين دعوا إلى تخفيف العقوبات. ومع هذا فقد أيدت الخرطوم هذه السياسة الجديدة، ليس لأنها تنصف الخرطوم ولكن لأنها أول سياسة معلنة، بعكس سياسة بوش الخفية المناوئة للخرطوم، ولهذا رحب السودان بالاستراتيجية الأمريكيةالجديدة، وقال إن بها «نقاطاً إيجابية»، لكنه أعرب عن أسفه لاستمرار واشنطن في استخدام لفظ «إبادة» لوصف النزاع في إقليم دارفور الواقع غرب السودان، وقال غازي صلاح الدين، مستشار الرئيس السوداني عمر البشير، إن «الخرطوم ترى في هذه السياسة الجديدة نقاطاً إيجابية مقارنة بالسياسة السابقة للإدارة الأمريكية حيال الخرطوم، وأن الأمر بمثابة استراتيجية التزام وليس استراتيجية عزل». وجاء ترحيب السودان رغم أن الموقف الأمريكي الجديد يتناقض مع ما أعلنه المبعوث الخاص للرئيس أوباما إلى السودان سكوت غرايشن من عدم وجود إبادة جماعية في دارفور، من منطلق أن استراتيجية أوباما الجديدة تختلف عن تلك التي انتهجها الرئيس السابق جورج بوش التي اعتمدت فقط على سياسة الضغط على الحكومة السودانية وفرضت عقوبات اقتصادية على السودان، من بينها تجميد أرصدة بعض المسؤولين داخل الحكومة السودانية وخارجها، ووضعها على قائمة الدول الراعية ل «الإرهاب»، وكذلك مطالبة النظام السوداني بتقديم مجموعة من مسؤوليه للمحاكمة الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب في دارفور، وفي مقدمتهم أحمد هارون وزير الدولة للشؤون الإنسانية. السودان بعد استراتيجية أوباما والمؤكد أن ما يسمى استراتيجية أوباما تستهدف الضغط على الخرطوم وتعظيم مصالح «الأطراف»، الهادفة لفصل أقاليم الجنوب والغرب، وربما الشرق، عن السودان بما يحجم قوة السودان الموحد ويضعفه ولا يسمح له بالتاثير على المصالح الأمريكية في إفريقيا، ومن ثم يطلق يد واشنطن في موارد القارة والأطراف المنفصلة –مثل النفط والكوبلت واليورانيوم- خصوصاً جنوب السودان ودارفور حيث المخزون الضخم لهذه الموارد. ولا شك أن هذا يمكن أن يؤثر على مستقبل السودان ووحدته وقوته، لأن هذه السياسة الأمريكية يترتب عليها غالباً نوع من الاستقواء من قبل الجنوبيين ومتمردي دارفور بهذه العقوبات الأمريكية على الخرطوم، بل إن طرح هذه الإستراتيجية الآن (قبل أيام من بدء أكبر مؤتمر جامع لمتمردي دافور في قطر لوضع خطط نهائية للسلام في دارفور) يثير الاستغراب، خصوصاً إذا ما علمنا أن متمردي دارفور دأبوا على عرقلة المفاوضات والارتباط بأجندات خارجية وفقاً للأطراف الغربية الداعمة، كما دخلت تل أبيب على الخط باستضافة العديد منهم وفتح مكتب دبلوماسي لحركة تحرير السودان المتمردة لتحقيق أهداف استراتيجية تتعلق بالتغلغل في منطقة حوض النيل، في وقت تؤكد فيه تقارير وزارة المياه في إسرائيل أن الدولة العبرية تواجه شحاً مائياً غير عادي في الأعوام المقبلة، ودعت لحلول غير تقليدية أبرزها شراء المياه من إفريقيا أو تركيا. استقواء المتمرّدين وقد ظهرت أضرار هذا الاستقواء في اليوم التالي مباشرة من إعلان استراتيجية أوباما, ففي 20 أكتوبر الجاري، قالت الحركة الشعبية لتحرير السودان، الشريك الأصغر في الحكومة السودانية، إنها «ستقاطع البرلمان حتى يوافق حزب الرئيس عمر حسن البشير على تمرير قوانين ديمقراطية ضرورية لإجراء الانتخابات المقررة في العام المقبل» وقال جيمس واني إيقا المسؤول بالحركة الشعبية «لدينا حوالى تسعة قوانين نحتاج لتمريرها»، أما متمردو دارفور فعادوا للغة مقاطعة مؤتمر قطر والمطالبة بنفس ما حصلت عليه الحركة الجنوبية من امتيازات!. هذه الاستقواءات لحركات التمرد بالاستراتيجية الأمريكية جاءت برغم تقديم الخرطوم -قبل إعلان هذه الاستراتيجية مباشرة- لحزمة تنازلات للجنوبيين أبرزها عدم تطبيق نتيجة استفتاء 2009 الذي يعترض عليه الجنوبيون لأنه يؤكد أن نسبتهم هي 19% فقط وليس ثلث السكان (33%)، على استفتاء تقرير مصير الجنوب، والأخذ بنتائج استفتاء سابق يعطي الجنوب الثلث والخرطوم الثلثين. وتظل الحقيقة أن ما أعلنه أوباما من حزمة قرارات بصورة عامة غير مفصلة كأولويات في الإستراتيجية الأمريكية تجاه السودان، لا تختلف من حيث الجوهر عما كان في عهد الرئيس بوش, ولكن بصورة أكثر تجميلاً وبدون الوجه الأمريكي الصارم المعتاد، ما يجعل الأمر يبدو عسيراعلى الخرطوم، ويضطرها لمزيد من التنازلات في ما يخص تيسير عملية انتخابات السودان البرلمانية والرئاسية واستفتاء تقرير مصر الجنوب الذي ترى أطراف في الخرطوم أنه سيزيح –حتى لو قرر الجنوب الانفصال– عن كاهلها عبئاً ثقيلاً ويزيل مبررات التهديدات الأمريكيةوالغربية.