برغم انخفاض حرارة الأجواء السياسية في السودان، بعد إعلان شريكي الحكم (حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية الجنوبية) انتهاء الخلافات بينهما بعد اتفاق أنجزته مؤسسة الرئاسة عبر سلسلة اجتماعات ماراثونية استمرت ثلاثة أيام, فاللافت هو أن المظاهرة التي تزعمتها الحركة الشعبية للضغط عبر الشارع على حكومة الخرطوم تركزت على تسريع إنفاذ قوانين تخدم انفصال الجنوب، وتؤكد أن أوان الوحدة بين الشمال والجنوب قد مضى، وأن تركيز قادة الجنوب هو على إجازة قوانين تخدم الانفصال السلمي القانوني للجنوب. ومن بين قرابة ثمانية مشاريع قوانين كان يدور عليها خلاف حتى وقت قريب بين الحركة الشعبية وحزب المؤتمر الوطني الحاكم، كان قادة الجنوب يركزون على إنجاز قوانين (استفتاء الجنوب + ترسيم حدود أبيي + تحديد النظام الإداري لجنوب كردفان والنيل الأزرق)، وكلها تستهدف تحديد حدود الدولة الجنوبية وتسهل بالتالي مسألة انفصال الجنوب بشكل قانوني!. ولا يعني هذا أن الحركة الشعبية لا تهتم بواقع السودان الانتخابي وانتخابات الرئاسة والبرلمان في نيسان المقبل، إذ يمكن الحديث عن مسارين تتحرك عليهما الحركة الشعبية: (الأول) يتعلق بتأمين استفتاء استقلال الجنوب وتوفير الظروف المناسبة كي يأتي مؤيداً للانفصال. و(الثاني) هو السعي لتنفيذ مخطط أكبر متعلق بفكرة (السودان العلماني الموحد) التي تتبناها الحركة الشعبية الجنوبية منذ «بيان» عام 1983 الشهير، عبر ترشيح رئيسها سلفاكير في مواجهة الرئيس البشير في انتخابات الرئاسة، والتنسيق مع حلفائها في المعارضة (قوى الإجماع الوطني - إعلان جوبا) لتحقيق تواجد كبير في برلمان 2010، مع الاستعانة بالضغوط الخارجية. واللافت هنا أن د. نافع علي نافع، نائب رئيس المؤتمر الوطني، قال: «لدينا معلومات عن أموال ستأتي من أوروبا لتنفق في السودان»، مشيراً إلى أن الغرب سيسعى للتدخل بقوة عبر المال في الانتخابات المقبلة من أجل إسقاط البشير وحزبه. 50% +1 تكفي للانفصال! بعد الضغوط التي مارستها الحركة الشعبية، وكذا أطراف أجنبية عديدة على السودان، قبلت الخرطوم بفكرة الانفصال للجنوب بالنسبة البسيطة (50%+ 1) من أصوات الناخبين في الاستفتاء الذي سيُجرى في تموز عام 2011، شرط مشاركة 58% من الناخبين المسجلين، وأن يكون الناخب في الاستفتاء مولوداً من أبوين ينتمي كلاهما أو أحدهما إلى أي من المجموعات الأصيلة المستوطنة في جنوب السودان في أو قبل الأول من كانون الثاني 1956 (تاريخ استقلال السودان)، أو تعود أصوله إلى أحد الأصول الإثنية في جنوب السودان، أو مقيماً إقامة دائمة متواصلة دون انقطاع، أو أي من الأبوين أو الجدّين مقيماً إقامة دائمة ومتواصلة دون انقطاع في جنوب السودان منذ عام 1956. وسعت الحركة الشعبية لإعداد مسرح الجنوب للاستقلال مع التركيز على المعالم الرئيسية للدولة (مثل: الحدود – موارد النفط للموازنة – تشكيل جيش قوي وتجهيزه بالسلاح - عملة جديدة – بنك مركزي.. إلخ)، دون أن تهتم كثيراً بمقومات الدولة خصوصاً بناء اقتصاد قوي وتعضيد الوحدة وحل الخلافات بين القبائل والعشائر التي تدور بينها أشكال مختلفة من الحروب الأهلية التي يتوقع تصاعدها بعنف لو استقل الجنوب. وبدلاً من أن تسعى حكومة الجنوب لتوفير الاستقرار ولمّ شمْل الجنوبيين (مؤيدين ومعارضين) وجمع السلاح (حوالى 3 ملايين قطعة سلاح بالجنوب) وحلّ الخلافات بعدما استعرت المعارك القبلية بين قوى سياسية جنوبية وقبائل عديدة (قتل فيها قرابة 1300 جنوبي هذا العام)، وتوفير حياة كريمة للجنوبيين عبر مشاريع وبنية تحتية عامة من خلال أموال النفط التي يحصلون عليها بعد تطبيق اتفاق نيفاشا.. بدلاً من هذا جرى التركيز أكثر على قضايا سياسية خلافية ليس فقط مع حكومة السودان بل حتى مع حكومات إفريقية مجاورة كانت تساعد الحركة إبان صراعها المسلح مع الخرطوم خصوصاً أوغندا, ما لا يهدد فقط بحرب أهلية داخلية لو وقع الانفصال لعدم وجود توافق وطني بين الجنوبيين، بل بخوض هذه الدولة الوليدة حروباً إقليمية مع جيرانها كما هو متوقع. وقد حذر وزير الدولة الأوغندي للتعاون الإقليمي، أوكيلو أوريم، الأسبوع الماضي من اندلاع حرب بين بلاده وجنوب السودان على خلفية مطالبة حكومة جنوب السودان بمساحة من الأرض تقول إن الحكومة الأوغندية تغولت عليها، وهو ما تنفيه كمبالا، وقال: «إن مسؤولي جنوب السودان طالبوا بخمسة كيلومترات من الأراضي الأوغندية في اجتماع عقد يوم 12 الشهر الجاري، وإن المسؤول الجنوبي، موكي باتالي بولي، قدم مطالب بشأن أراضٍ قال إنها تخص قبائل سودانية من قديم الزمن للحكومة الأوغندية، وهي منطقة تشهد بحثاً مكثفاً عن النفط»، ما قد يؤدي لحرب بين أوغندا وهذه الدولة الجنوبية المفترضة التي كانت تستضيف قادتها من قبل!. أما في الداخل (الجنوب) وبرغم مطالبة الحركة الشعبية بالديمقراطية في الخرطوم واتهام الحكومة بعدم إتاحة الفرصة للمعارضة بالتعبير عن آرائها في مظاهرات البرلمان، فقد استمرت عمليات إقصاء أي قوى معارضة لأطروحات الحركة الشعبية، وعزلت الحركة الشعبية كلاً من الدكتور لام أكول وزير الخارجية السابق ورئيس حزب الحركة الشعبية التغيير الديمقراطي، والمحامي غازي صلاح الدين، وهما من قياداتها ونائبان في البرلمان، كما حظرت نشاط حزب أكول في الجنوب، وهاجم منتسبيها مكاتب حزب المؤتمر الحاكم، كما أحرقوا مؤسسات اجتماعية إسلامية للزكاة، واستمرت عمليات التضييق على أي مظاهر لأحزاب أو قوى مخالفة للحركة. الجنوب يمارس استقلاله والملفت هنا أن الجنوب الذي ظل يمارس منذ توقيع اتفاقية نيفاشا استقلاله بصورة أو بأخرى برغم أن استقلال الجنوب لم يقع بعد، كما أن الاستفتاء قد يأتي بخيار الوحدة، بدأ في العامين الأخيرين يروّج للانفصال بصورة كبيرة، ويتهم الخرطوم بأنها هي التي لا تشجع على الوحدة. ولم يقتصر الأمر على ترويج عناصر قيادية في الحركة الشعبية، للانفصال والتشكيك في العلاقة مع الشماليين بدعوى أن بعضهم يمارس التفرقة العنصرية والكبت الديني ومعاداة غير المسلمين و«فرض دولة إسلامية عربية أصولية»، وإنما شارك في هذه اللعبة رئيس الحركة الجنوبية نفسه سلفاكير عندما دعا في آخر تصريحاته لصالح استقلال جنوب السودان خلال الاستفتاء المقرر عام 2011، معتبراً أن بقاء السودان موحداً سيجعل من الجنوبيين مواطنين من الدرجة الثانية. وقال سلفاكير بوضوح «إنه قد فات الأوان لجعل الوحدة جاذبة بين الشمال والجنوب»، وحث مواطني الجنوب أن يصوّتوا لمصلحة استقلال الجنوب إذا أرادوا العيش كمواطنين من الدرجة الأولى، فيما دعا قيادي الحركة الشعبية ووزير الخارجية إلى (طلاق سلمي) بين الشمال والجنوب، وانطلقت أصوات من داخل برلمان الجنوب في جوبا تدعو إلى إعلان استقلال الجنوب من داخل البرلمان، استناداً إلى سابقة إعلان استقلال السودان مطلع عام 1956 من داخل البرلمان!.. وهذا ما دعا القيادي في حزب المؤتمر الوطني والمستشار السابق لرئيس الجمهورية، قطبي المهدي، إلى القول: «إن حكومة الحركة الشعبية في الجنوب تمارس فعلياً أسوأ نوع من الانفصال». ويبدو أن الهاجس الأكبر للحركة الشعبية والسبب الرئيس لرفضها للوحدة ودعمها للانفصال، هو تمسك الخرطوم بالإسلام كمرجعية تشريعية، وقد قال قادة الحركة هذا صراحة عدة مرات، وآخرهم القيادي في الحركة الشعبية ووزير الخارجية، دينق ألور، الذي قال في ورشة عمل حول الانتخابات والاستفتاء وتقرير المصير لأهل الجنوب نظمتها الأممالمتحدة ومركز «اتجاهات المستقبل» في الخرطوم هذا الشهر: «للأسف إن أهل الشمال يتحدثون عن الوحدة في الزمن الضائع، والفرصة مواتية الآن لأن يحقق الجنوبيون استقلالهم من خلال تقرير المصير الذي منحه لهم اتفاق السلام الشامل»، وأنه «لا مانع لدينا من الوحدة إذا تخلى الشمال عن سياسة العروبة والإسلام». وهذه (الهوية الإسلامية العربية) هي المعضلة الحقيقية، سواء انفصل الجنوب أو استمرت الوحدة، بل إن الانفصال هنا يكون أفضل للشمال, لأنه لو استمرت الوحدة، فسوف تستمر الخلافات وقد ينهار اتفاق السلام لرفض «الأقلية» الجنوبية لرغبات «الأكثرية» في الحكم الإسلامي الذي قولت لأجله ثورة الإنقاذ وانقلاب إسلامي السودان!.